فجأة، وبعد ست سنوات على إطلاقها، تتسابق القيادات الإسرائيلية الرئيسية للترحيب بمبادرة السلام السعودية، فقد أعلن إيهود باراك وزير الدفاع أن القادة الإسرائيليين يدرسون هذه المبادرة، ويناقشون كيفية الرد عليها، أما شمعون بيريس فإنه يسعى إلى إجراء مفاوضات مع العالم العربي بأسره للوصول إلى معاهدة سلام شاملة. ونقلت عنه صحيفة «معاريف» قوله «من الخطأ إجراء مفاوضات منفردة مع السوريين وأخرى مع الفلسطينيين، وعلى إسرائيل التوقف عن إجراء مفاوضات ثنائية، والذهاب إلى اتفاق سلام إقليمي مع الدول العربية وجامعتها». هذا تحول أساسي في الموقف الإسرائيلي إذا أخذنا الأمور بظواهرها، فالحكومة الإسرائيلية الحالية، مثل كل الحكومات السابقة، ظلت تماطل في ردها على هذه المبادرة، وتطالب العرب بالتطبيع أولا، قبل أي نقاش جدي بشأنها، بل إنها ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما طالبت الزعماء العرب، والعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، على وجه الخصوص، بالتوجه إلى القدسالمحتلة لطرحها أمام الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، أسوة بالرئيس الراحل محمد أنور السادات. نحن الآن أمام «طبخة جديدة»، يجري الإعداد لها بشكل متسارع، ابتداء من الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الإسرائيلي بيريس إلى شرم الشيخ بعد غد الخميس للقاء نظيره المصري حسني مبارك «عراب السلام»، وزعيم محور دول الاعتدال العربي الذي يضم بلاده، علاوة على دول الخليج الست والأردن. السؤال المطروح هو عن أسباب هذا الحماس الإسرائيلي المفاجئ لمبادرة سلام سعودية لم تلق إلا الاستخفاف والمراوغة من قبل إسرائيل على مدى السنوات الست الماضية، وبناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية ومحيط القدسالمحتلة، بل والتجرؤ على إقامة كنيس يهودي في باحة الحرم الشريف. هناك عدة أسباب، بعضها أملته متغيرات دولية وإقليمية آنية، وبعضها الآخر وهو الأهم، يتعلق بالطموحات الاستراتيجية المستقبلية، ونبدأ بالشق الأول منها: أولاً: تدرك القيادة الإسرائيلية أنها على بعد أسبوعين تقريباً من الانتخابات الرئاسية والتشريعية النصفية الأمريكية، حيث سيأتي رئيس أمريكي جديد، من المرجح أن يكون باراك أوباما، مما يعني انتهاء عهد المحافظين الجدد ومعظمهم من اليهود أنصار إسرائيل، وذهاب إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، الذي يعتبر أكثر الزعماء الأمريكيين ولاءً للدولة العبرية، وخدمة لمصالحها. ثانياً: الأزمة المالية الحالية أضعفت اللوبي الإسرائيلي الذي يستخدم المال سلاحاً سياسياً في الهيمنة على الحكومات الغربية، كما منيت الرأسمالية الغربية في شكلها الحالي بضربة قاصمة، وأحدثت هذه الأزمة شرخاً يتسع يوماً بعد يوم بين الولاياتالمتحدة المتهمة أساساً في صنعها، والدول الغربية الأوروبية. ثالثاً: تسود قناعة راسخة في أوساط أمريكية وغربية عديدة، بأن الحرب على الإرهاب التي شنتها واشنطن ضد العراق وأفغانستان على مدى السنوات السبع الماضية، وكلفت الخزينة الأمريكية 750 مليار دولار حتى الآن، هي أحد أبرز أسباب انهيار العالم الرأسمالي اقتصادياً لمصلحة قوى عظمى جديدة غير غربية بدأت تطل برأسها مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل. رابعا: تدرك إسرائيل أن الحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق خاسرة كلياً، وستؤدي إلى هزيمة كبرى للغرب، على غرار هزيمة مماثلة للاتحاد السوفييتي قبل عشرين عاماً. وهذه الخسارة التي باتت وشيكة جداً، ستؤدي إلى حدوث انقلاب في المعادلات الاستراتيجية الدولية، لأنها تثبت بروز قوة حرب العصابات والجماعات المسلحة، وقدرتها على الحسم على الأرض، وتراجع مفهوم الجيوش النظامية في تحقيق الهدف نفسه في المقابل. خامساً: حرب تموز (يوليو) عام 2006 اللبنانية أثبتت سقوط نظرية التفوق العسكري الإسرائيلي أمام قوات عقائدية غير نظامية، وانتهاء دور التفوق الجوي في حسم الحروب أمام التطور النوعي في القدرات الصاروخية في المقابل. سادساً: امتلاك العرب، والخليجيين منهم خاصة، أوراقا استراتيجية كبرى سيكون لها تأثير عالمي إذا ما استخدمت بحكمة، أبرزها عودة سلاح البترول إلى فاعليته السابقة، وامتلاك ثروات مالية هائلة ناتجة عن عوائده، حيث تقدر حاليا ب«تريليون» دولار سنويا، هذا دون أن نحسب العوائد المالية الأخرى من الغاز والمعادن والصناعات والمنتوجات الزراعية. ومع احترامنا وتقديرنا لأهمية كل الأسباب والعوامل السابقة، ودورها في إحداث تغيير في التفكير الإسرائيلي، فإننا نضيف سببا يبدو أكثر أهمية، يمكن إيجازه في وجود توجه عربي متنام لإقامة تحالف عربي سني في مواجهة إيران الشيعية والأطراف الأخرى في محورها مثل سوريا وحزب الله وحماس، يتولى تحييد إيران نوويا، سواء بتشكيل جبهة عسكرية موحدة لتدمير برامجها الطموحة في هذا الصدد، أو من خلال سياسة احتواء تعتمد الحصار الاقتصادي الخانق وتشجيع حركات التمرد الداخلية للأقليات السنية والعربية وغير الفارسية عموما، والاستهداء بتجربة حصار العراق قبل الإطاحة بنظامه العربي. هناك عدة مؤشرات تدعم مثل هذا التوجه بدأت تطل برأسها في الفترة الأخيرة، نوجزها في النقاط التالية: أولا: دعوة وزير خارجية البحرين الشيخ خالد آل خليفة لإقامة تكتل إقليمي يضم إسرائيل وتركيا وإيران والعرب، لمعالجة قضايا المنطقة الراهنة، على غرار الاتحاد الأوروبي. ثانيا: حدوث أول لقاء علني إسرائيلي-سعودي في أكسفورد في بريطانيا بدعوة من مجموعة أكسفورد، مثّل الجانب الإسرائيلي فيه الجنرال دان روتشيلد، منسق الاستيطان في الضفة الغربية سابقا، وشارك فيه الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودي وسفير بلاده في كل من واشنطن ولندن سابقا. ثالثا: تصاعد وتيرة الفتاوى التي يصدرها علماء سنة إجلاء، مثل الشيخ يوسف القرضاوي، وسلمان العودة، ومحسن العواجي، وغيرهم، تحرّض ضد المذهب الشيعي وتتهمه «بتشييع» السنة في البلاد العربية، واستثمار مئات الملايين من الدولارات لتمويل محطات تلفزة وصحف ومواقع إلكترونية لتعبئة أتباع المذهب السني ضد إيران والشيعة. ما نريد قوله إن الإدارة الأمريكية قالت لحلفائها العرب صراحة أنها لن تخوض حربا ضد إيران لتخليصهم من نظامها، وبرامجها النووية مثلما فعلت مع صدام حسين في العراق وحكومة طالبان في أفغانستان، وإن عليهم الاعتماد على إسرائيل للوصول إلى هذا الهدف على اعتبار أن إيران عدو للطرفين. الدخول في تحالف مع إسرائيل ضد دولة مسلمة يحتاج إلى «ورقة توت»، تماما مثلما حدث عندما تحالف العرب عسكريا مع الولاياتالمتحدة ضد العراق الدولة العربية المسلمة. وورقة التوت هذه هي تحقيق السلام بين العرب والإسرائيليين، فهذا ما فعله جورج بوش الأب، قبل تدميره للعراق عام 1991 تحت عنوان «تحرير الكويت»، وهذا ما كرره ابنه عندما وعد بقيام دولة فلسطينية قبل العام 2005 قبل أن يكمل ما بدأه والده، أي احتلال العراق. نحن أمام خديعة جديدة، ربما تصبح أكثر خطورة من كل الخدع السابقة، لأنها ستؤسس لحلف جديد، تكون إسرائيل زعيمته، يقسم المسلمين على أسس طائفية، ويشعل فتيل حرب بين العرب والإيرانيين ربما تنتهي بتدمير أو إضعاف الطرفين، وبما يؤدي إلى تقوية إسرائيل وهيمنتها الكاملة على المنطقة، بعد أن أدركت أن الغرب بدأ يدرك كم هي عبء مكلف على كاهله أمنيا وسياسيا واقتصاديا.