ما الذي يجري في مصر؟ وما الذي يدفع السلطات إلى إغلاق المجال العام في الإعلام والسياسة والشارع؟ وهي قرارات مدفوعة بشهوة انتقام سياسي ظاهرة، وبدواعي خوف غريزي من انزلاق الوضع في مصر إلى ثورة أو إلى ما يشبه الثورة . السؤال في محله، خاصة أن ظواهر الإغلاق والخنق والعصف صارت خبر اليوم وكل يوم في مصر الآن. وقد فوجئت شخصيا بحكم يصدر ضدي بالسجن سنة، وفي جنحة نشر عادية جدا، وبصدد تحقيق صحافي مصور موثق مهنيا عن «أفراح الكبار»، نشرته جريدة «صوت الأمة»، وقت كنت رئيسا لتحريرها. وقد اتهمت في الدعوى بصفتي لا بشخصي، فلست أنا كاتب الموضوع، بل زميلا آخر متهما قبلي، وقد تعجل القاضي الحكم، وسجل في محضر الجلسة على غير الحقيقة حضور محام عني، رغم عدم إعلاني في الدعوى على نحو قانوني صحيح، ورغم عدم توكيلي محاميا، اتصالا بانقطاع علمي بالدعوى، وفي ملابسات مثيرة للريب، فقد رفض القاضي الاستماع إلى مرافعات محامي الزميل محرر التحقيق، وتعلل بأنه لم يدرس الدعوى بعد، وأن فرص الدفاع متوافرة في جلسات لاحقة، ثم لم تأت أي جلسة لاحقة، فقد أصدر القاضي الحكم بصورة شبه سرية ومن أول جلسة، واتصل علمنا به بمحض المصادفة، وبدا الحكم مجافيا لأبسط اعتبارات القانون، ولصيقا باعتبارات السياسة. ويبدو أن القاضي لفت نظره وجود اسمي في الدعوى، أو جرى لفت نظره، ووجدها فرصة جليلة لخدمة من يهمهم الأمر. وبعد أن لحظ اسمي، لم يلحظ صفتي المذكورة في الدعوى كرئيس تحرير. وقد وضعت المحكمة الدستورية العليا منذ سنوات قواعد لنظر قضايا النشر، بينها التدقيق في مدى توافر المسؤولية المفترضة لرئيس التحرير، وجواز إعفاء رئيس التحرير إذا كان متهما بصفته من أي آثار جنائية لنشر لا يشفع باسمه، وإعفاؤه من عقوبة الحبس بالذات، هذا إن صحت التهمة وثبتت. ما علينا، فالسجال القانوني متصل في محكمة الاستئناف، ولا نريد أن نستبق الحوادث، وقد سبق لمحكمة جنح أن أصدرت ضدي حكما بالسجن سنة أيضا في قضية رؤساء التحرير الأربعة، وكنت فيها متهما بإهانة الرئيس، وألغت محكمة الاستئناف حكم السجن، وقد يلغى الحكم هذه المرة أيضا، أو لا يلغى، يتوقف الأمر على اسم القاضي وعلى حصانته المفترضة ضد رغبات الكيد السياسي التي لاحقت شخصي بالتهديد والترويع والتجويع على مدى عشر سنوات خلت، كنت فيها متهما بجريمة واحدة لا غير، أقر بارتكابها وأشرف بها، عنوانها: نقد الرئيس وشن أوسع حملة صحافية وسياسية ضد التمديد لمبارك أو توريث الرئاسة لنجله الأصغر، وهي الحملة التي رفعت سقف الحرية بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر الألفي، وفي عصيان ظاهر لأوامر وتحكمات الدستور وقوانين العقوبات وحالة الطوارئ، وكانت سببا مباشرا في سعي محموم إلى إيذائي، بحادث الخطف الشهير الذي دبره بيت الرئاسة قبل ست سنوات، ثم بسعي متصل داهس ضاغط على رقاب الناشرين لإقالتي من رئاسة تحرير جرائد «العربي» ثم «الكرامة» ثم «صوت الأمة»، وباستدعائي إلى تحقيقات سيادية محجوبة عن النشر، وبمنعي من العمل أو الكتابة تماما في أي صحيفة مصرية، وبحظر ظهوري في أي قناة تلفزيونية مصرية، وبتهديد مكاتب الفضائيات العربية بالإغلاق إن هي استضافتني، وهي الاستضافة التي لم تعد تحدث إلا على سبيل الاستثناء النادر، وبوضع اسمي على رأس «القوائم الحمراء» على المداخل الأمنية لأي جهاز إعلامي في مصر، وبالترويج الدوري المتعمد أمنيا لشائعات اختفائي، وبطريقة توحي بالتمهيد المدروس لإيذاء أكبر قد يصل إلى حد القتل، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. بلغت الدراما ذروتها بمنعي من الكتابة في مصر منذ عشرين شهرا خلت. وإلى وقت المنع، بدت دواعي العصف محصورة في شخصي، ومعي مجدي أحمد حسين، رئيس تحرير جريدة «الشعب» المغلقة، الذي يقضي حكما بالسجن لسنتين صدر عن محكمة عسكرية، وبدت القصة كأنها استبعاد انتقائي مقصود لعناصر تأثير أكثر راديكالية وخطرا، ومع استبقاء هوامش حرية في الصحافة والإعلام، وتجريب طرق التحكم غير المباشر، وبوسيلة بدت ظاهرة، وهي زرع ضباط اتصال من مهنيين مقربين إلى جهاز أمن الدولة على رأس الصحف المستقلة التي يسمح بصدورها، وبدت الوسيلة مؤثرة في غالب الصحف السيارة ذات التوزيع المعقول، والمنسوبة إلى معنى الاستقلال المالي أو المهني أو الإداري، فالصحف التي تصدرها أحزاب المعارضة، يتم التحكم فيها من خلال رؤساء الأحزاب المهددين بإلغاء ترخيصاتهم الأمنية، والصحف التي يصدرها المليارديرات الجدد، يفرض عليها رؤساء تحرير من أهل الثقة الأمنية، وبالتحكم الأمني المركزي من وراء ستار بدت الغاية محققة، وبدت صحيفة «الدستور» وحدها هي الاستثناء الباقي، وكان لا بد من إلحاقها بركب التحكم الأمني، وجرى ترتيب عملية بيعها لمليارديرات مختارين، وتفكيك سياسة تحريرها المعارضة، ثم إقالة رئيس تحريرها المشاغب إبراهيم عيسى. وفي الوقت نفسه، كانت دواعي التقييد تمتد إلى كتاب كبار أقرب إلى تيار نقد الرئيس، فقد جرى منع حمدي قنديل من الكتابة في جريدة «الشروق»، وبعد أن كان جرى منع برنامجه التلفزيوني الشهير في توقيت مقارب لوقت منعي من الكتابة، ثم جرى تهديده بالسجن في دعوى وزير الخارجية أحمد أبو الغيط ضده، ولم يعد من تيار الناقدين الكبار للرئيس سوى اسم الروائي علاء الأسواني، الذي تنشر له جريدة «الشروق» مقالا أسبوعيا، تباعدت مواعيد نشره في الشهور الأخيرة، ثم صار مهددا بالإيقاف في أي لحظة . ومن الصحف إلى قنوات التلفزيون، بدا الميل إلى الغلق والخنق متصلا، وبالذات بصدد برامج الحوار الأكثر مشاهدة. وقبل العصف، جرى تجريب نظرية «ضباط الاتصال» نفسها، وتطويع ما يقبل التطويع، جرى تطويع برنامج «العاشرة مساء» على قناة «دريم»، وجرى تطويع برنامج «90 دقيقة» على قناة «المحور»، ثم تدافعت موجات العصف في حالات النشوز والتمرد على بيت الطاعة الأمنية، وجرى وقف برنامج «القاهرة اليوم» مع إلغاء بث قناة «أوربت» من مدينة الإنتاج الإعلامي، وبدت علامات السيطرة الأمنية ظاهرة بتقييد نشر صور التظاهر والإضراب والاحتجاج السلمي، ثم بتقييد استضافة المعارضين الجديين، واستضافة معارضين مستأنسين، ثم كانت الضربة الأوسع بوقف بث عشرات القنوات الدينية وغير الدينية، وفرض رقابة على رسائل التليفون المحمول، وإلغاء البث التلفزيوني للمحاكمات، وتقييد البث التلفزيوني المباشر من مواقع الأحداث، وتكرار حوادث الاعتداء الأمني على مراسلي الصحف ووكالات الأنباء والتلفزيونات العربية والأجنبية، وخطف الكاميرات، وإصدار أوامر شفوية صارمة بمنع نشر أسماء الضباط المتهمين بالتعذيب في السجون وأقسام الشرطة . وأغلب الظن أن القادم أسوأ، فالنظام يخاف من دبة النملة في الشارع، ويستخدم قواته الأمنية المفرطة في التضخم والتسلح، والبالغ عددها ما يزيد على مليون وسبعمائة ألف جندي وضابط، ويكثف وجودها في الشارع لإرهاب الناس، ويسعى إلى إغلاق الشارع بعد خنق أصوات النقد الأعلى في الصحف والتلفزيونات. والذي يراقب ما يجري، يلحظ تضاعف جرعات العنف والتضييق الأمني، وبالذات منذ مظاهرة «كفاية» وأخواتها أمام قصر عابدين الرئاسي في 21 سبتمبر 2010، ثم سحل المتظاهرين بعدها أمام محكمة الحقانية بالإسكندرية، ومطاردة شباب المتظاهرين في شارع 26 يوليوز بالقاهرة، وخطف المتظاهرين وإلقائهم في الصحراء، وكلها طرق تهدف إلى جعل تكلفة التظاهر أفدح، وجعل التظاهر عملية حربية، وتحويل المتظاهر إلى مشروع شهيد، والعودة إلى نقطة الصفر الصامت، وحظر التظاهر في الشارع بالتوازي مع منع نقد الرئيس في وسائل الإعلام، ومسح هوامش الحريات المكتسبة بتضحيات فدائية باسلة في الخمس سنوات الأخيرة بالذات. واللافت أن الميل على الغلق والخنق لا يبدو مقصورا على حركة الشارع وحريات الإعلام، بل تواقت مع الاتجاه لغلق الصندوق الانتخابي، فمنذ أن جرى الإقرار الصوري لتعديلات الانقلاب على الدستور في أواخر مارس 2007، انتهت قصة الانتخابات في مصر، وانتقلنا من التزوير المنهجي إلى المسخرة المنهجية، وتحولت الانتخابات إلى قرارات تعيين بالأمر المباشر، وصار النظام يعين معارضيه كما يعين مؤيديه، ومن وراء قناع انتخابي تنكري، جرى ذلك في انتخابات المحليات، وفي انتخابات مجلس الشورى، ويرجح أن يتكرر السيناريو نفسه في انتخابات مجلس الشعب الوشيكة، وفي انتخابات رئاسية لاحقة، وهو ما يفسر رفض النظام لأي رقابة دولية، ومبادرته إلى الإلغاء العملي للإشراف القضائي المصري، وجعل الإشراف العملي بيد ضباط الشرطة، ووضع الذين قرروا المشاركة في زاوية حرج بالغ، ونزع أوراق التوت عن العورات المكشوفة . وبالجملة، نبدو بصدد نظام فقد قواعده الاجتماعية والسياسية، وتحول إلى رأس معلق مسكون بالوساوس، يفتقد الإحساس بالأمان، ويستشعر الخطر من كلمة تكتب أو قدم تخطو، ويميل إلى تعويض عجزه الخلقي بسيقان وأذرع اصطناعية، يصطنع معارضيه في البرلمان كما يصطنع معارضيه في الإعلام، يفرض حظر التجول السياسي، يطفئ الأنوار، وينشر الظلام، ويمهد لجريمة سياسية كبرى، قد لا تكون بالضرورة إحلال ابن الرئيس محل الأب العجوز، بل حماية الديكتاتور المرهق صحيا، وحتى إشعار آخر بمجيء الديكتاتور الآخر.