بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أين مصر الحاضر والمستقبل من مصر ثورة 23 يوليو؟
نشر في هسبريس يوم 04 - 08 - 2009

أقام "مركز الحوار العربي" في واشنطن يوم 29 يوليو الماضي ندوة خاصة عن الذكرى 57 لثورة 23 يوليو في مصر، تحدث فيها كل من الدكتور رشدي سعيد، وهو عضو سابق في مجلس الشعب المصري وعالم جيولوجي معروف، والدكتور طارق عمر، وهو أستاذ جامعي مصري في واشنطن. ""
وفيما يلي نص الكلمات التي ألقيت في بداية الندوة قبل ساعة الحوار التي جرت مع الحاضرين.
د. رشدي سعيد
لا يوحي الوضع الراهن في مصر أو في عموم الدول العربية بوجود أي أثر يُذكر للثورة التي قامت في مصر في 23 يوليو/تموز سنة 1952. فقد مرّت منذ قيامها تحولات كثيرة أحدثت انقلاباً كاملاً في التوجّهات التي جاءت بها وفي الأهداف التي حاولت تحقيقها. قامت الثورة من أجل تحرير مصر والأمَّة العربية من أغلال الاستعمار الذي كان جاثماً على معظم أراضيها حتى تأخذ مقاليدها بأيديها وتبني دولاً منيعة ومستقلّة تستفيد من مصادرها الطبيعية والبشرية، والتي كان الكثير منها مستغلاً لصالح الأجنبي، وتوجّهه لخدمة شعوبها حتى تنعم بفوائدها وتعيش موفورة الكرامة ورافع الرأس. كانت أهداف الثورة واضحة: إجلاء الاستعمار وإعادة الثروات المنهوبة إلى أهلها والدخول في عصر الصناعة والزراعة المتقدّمة والمعتمدة على أصول البحث العلمي المتقدّم.
وجاءت استجابة الأمّة العربية لرسالة هذه الثورة مبشّرةً بالنجاح، فعلى مدى العشرين سنة الأولى لعمر الثورة، وعلى الرغم من عديد الانكسارات، تمّت إنجازات هائلة؛ تحقّق الاستقلال لكلّ البلاد العربية، وتمّت تصفية القواعد العسكرية الأجنبية فيها، وأعيدت إلى الكثير من البلاد العربية مصادر ثرواتها التي كانت ملكاً للأجانب، وتمّ تأميم قناة السويس والكثير من شركات البترول العالمية التي كانت تستغلّ حقول النفط في الكثير من البلاد العربية، كما تمّ تأميم المصارف والشركات الأجنبية الكبرى وأصبح الاقتصاد ولأوّل مرّة في خدمة الشعوب العربية.
وجاءت استجابة الشعوب العربية لمبادئ الثورة ومنجزاتها مبشّرة بإمكان تحقيق وحدة عربية شاملة كانت نواتها دولة الوحدة بين مصر وسوريا في سنة 1958.
وعلى الرغم من الانكسارات التي شهدتها هذه الفترة، فقد ظلّت إنجازاتها قائمة. كانت هزيمة سنة 1967 أكبر هذه الانكسارات، وهي الهزيمة التي أحدثتها الحرب الخاطفة التي شنّتها إسرائيل على الدول العربية بغرض القضاء على المد القومي الذي أحدثته ثورة 1952. إلا أنّ هذا الانكسار، وعلى العكس ممّا كان مقدّراً له، شحذ الهمم وأكّد الوحدة العربية ورفع روح التحدّي، فجاءت لاءات قمة الخرطوم الشهيرة وصحوة العمل الجاد التي تلت هذه الهزيمة، فأعيد بناء الجيش استعداداً لاستعادة الأرض التي فُقدت ولإصلاح ما اختلّ في حياة الأمّة. وشهدت الأمّة العربية في فترة ما بعد هزيمة سنة 1967 كمّاً هائلاً من العمل الجاد وأمثلة صارخة للتضحية والوفاء قلّ أن يجد المرء لها مثيلاً في تاريخ العرب الحديث. كما شهدت أيضاً تعاوناً عربياً شاركت فيه كلّ الدول العربية بالمال والسلاح والجنود واستخدمت فيه سلاح النفط الذي أوقفت تصديره إلى من شاركوا في العدوان.
وتُوّجت أعمال هذه الفترة بحرب التحرير التي شنّتها القوات المسلّحة المصرية والسورية عام 1973 وألحقت بالعدوّ خسائر كبيرة حدثت في أثرها تسوية بين مصر وإسرائيل تمّ بمقتضاها استرداد الأرض التي كانت إسرائيل قد احتلتها في سنة 1967، كما تمّ إنهاء حالة العداء مع إسرائيل وتمّ الاعتراف بها وتبادل السفراء معها.
وكان لهذه التسوية التي انفردت بها مصر دون سائر الدول العربية أثراً كبيراً على مسارها وتوجّهاتها وعلى حياة أبنائها. فقد ترك خروج مصر من حلبة الصراع مع إسرائيل فراغاً هائلاً في المنطقة سرعان ما ملأته إسرائيل التي وجدت الباب مفتوحاً أمامها لتحقيق أهدافها المقرّرة لها منذ إنشائها كقاعدة عسكرية مدجّجة بالسلاح، تهيمن على المنطقة وتسيطر عليها وتقرّر سياساتها وأدوارها التي ترسمها لها. على أنّ هذا الدور لم يكن من الممكن لإسرائيل أن تقوم به دون أن تكون كل دول المنطقة المحيطة بها في حالة وهن وضعف تام، ليس فقط من من الوجهة العسكرية بل ومن الوجهة الاقتصادية والعلمية والتقنية حتى لا تكون لها المقوّمات التي يمكن أن ترفع من شأنها.
ويبدو لي أنّ العملية التي تمّت لتدمير العراق عن طريق الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة عليه في عام 2003 هي جزء من هذه الخطّة. كان العراق وقبل تدميره وبالرغم من الحصار الذي كان يعيشه ذا إمكانيات هائلة؛ به نظام تعليمي عالي الجودة، كما كانت به جامعات ومراكز للبحث العلمي حسنة التجهيز ومدارة بأساتذة وأخصائيين على درجة كبيرة من الكفاءة والمعرفة والمبادرة. كان العراق لذلك يمثّل بالنسبة لإسرائيل قوة كامنة بها كل إمكانيات بناء الدولة الصناعية والمتقدمة، وبغض النظر عن طبيعة الحكم فيه، وهو الأمر الذي كان لا بدّ من الإنهاء عليه. وقد كشفت الوثائق التي تمّ الكشف عنها مؤخّراً الدور الذي لعبته إسرائيل في تحفيز الولايات المتحدة للقيام بغزو العراق بل وبرسم الطريق لتدميره، فالثابت أنّه بعد أن تمّ غزو العراق وإسقاط النظام، لم يقبل بول برامر حاكم العراق الجديد أن يتعامل مع الجيش العراقي أو النخب الحاكمة التي أبدت استعدادها للتعاون معه لبناء العراق، بل تمّ التصميم على تصفية الجيش والنخب السياسية كما تمّت مطاردة العلماء وإغلاق مراكز أبحاثهم. وإمعاناً في إذلال العراق، فقد قامت القوات الغازية بتشجيع نهب الآثار والمكتبات العامة وكافّة الشواهد الحافظة لتراث الأمّة.
وإذا انتقلنا من العراق فإنّنا سنجد أنّ كافّة الدول العربية في حالة لا تحسد عليها؛ فمنها الذي دمّرته الحروب الأهلية والصراعات الداخلية كالصومال واليمن والسودان وفلسطين، ومنها من أصبح معتمداً في بقائه على تسكين قوات وأساطيل الدول العظمى على أرضه وحول بحاره، ومنها من انزلق بمعرفة أو بلا معرفة لتنفيذ المخطط الإسرائيلي لإضعافها وتبنّي سياسات لا تؤدّي إلا إلى خرابها وتدميرها، فما تمّ تحقيقه بالحرب في حالة العراق يتمّ تحقيقه بالسلم في هذه البلاد. ومن الملفت للنظر أنّ النخب العربية التي تقوم بتنفيذ هذه الخطة قد كوفئت بالعيش الهنيء الذي أتيح لها وبالأموال والمعونات التي انهمرت عليها من كل حدب. وتعتبر مصر المثال النموذجي لهذه الدول العربية التي تبنّت مثل هذه الخطط. فهاهنا بلد يبدو لمن لا يعرف أحواله من الداخل أنّه يتحرّك إلى الأمام، به كل مقوّمات الدول المقبولة لمؤسسات التمويل الدولية: تنمية كثيفة موجّهة لخدمة المستثمرين الأجانب أو قلّة النخب المصرية الحاكمة، فالمعمار الفاخر ينشط في أطراف المدن وعلى شواطئ البحار لإسكان الأثرياء والأغراب، وبناء المصانع الملوثة للبيئة وكثيفة الاستخدام للطاقة التي تزودها بها الحكومة بدعم كبير قائم في الكثير من المناطق لخدمة المستثمرين الأجانب وزملائهم من أعضاء النخبة المصرية، وأعمال المقاولات سائرة بنشاط كبير وموجّهة لخدمة النخبة وتبني الطرق وتمد خطوط الكهرباء والصرف الصحي للمناطق الجديدة التي أقيمت على أطراف المدن وسواحل البحار لسكنى النخبة المميّزة في البلاد.
وعلى الرغم من كل هذا النشاط الاقتصادي، فإنّ ثماره لا تبدو انّها وصلت إلى الغالبية من السكان حيث يعيش ثلثاهم في حالة فقر مدقع، يسكنون في جحور وعشوائيات الكثير منها بلا مياه جارية أو صرف صحي أو جهاز لجمع القمامة. والناظر إلى مصر الحديثة لا يسعه إلا أن يلاحظ حالة التردّي الكامل في كافّة مرافقها، والحالة السيئة التي وصل إليها حال سكانها الذي أصبح أكثر من نصفهم لا يقرأون ولا يكتبون، ولا يتمتّعون بحقوق المواطنة في العمل أو الصحة أو التعليم أو الأمن.
ولا يسع المتتبع لأحوال مصر من أن يلاحظ أنّ هذا التهور الشامل لا يمكن أن يكون محتّماً كما يدّعي عملاء النظام وأبواقه، تفرضه الإمكانيات الاقتصادية المحدودة للدولة وتزايد عدد السكان وغير ذلك من الأسباب، بل إنّ هذا التدهور لا يمكن إلا أن يكون نتيجة خطة غير معلنة تهدف إلى مطاردة كل الكفاءات الإدارية من مواقع التأثير والتخطيط للقضاء على مؤسّستي التعليم والبحث العلمي ومطاردة العلماء حتى يُحبَطوا أو يهاجروا من الوطن. وليس هناك من شك في أنّ النخبة الحاكمة في مصر قد نجحت تماماً في تنفيذ هذه الخطة، فلم يعد في مصر الآن ما يمكن تسميته بمؤسسة تعليمية، فقد انهار التعليم بدءاً من الابتدائي ونهايةً بالجامعي. كما يمكن القول أيضاً أنّ مؤسسات البحث العلمي في مصر والتي بلغت بسمعتها الآفاق في الأوقات السابقة قد انهارت حتى أنّ بعضها قد اختفى كلّيةً من الوجود. ونتائج هذه الخطة بالإضافة إلى المطاردة المستمرّة للأكفّاء في مجالي الإدارة والتخطيط سيؤدّي بلا أدنى شك إلى تدمير البلاد وهي في حالة السلم بل والعيش الطيّب لنخبها الحاكمة!
د. طارق عمر:
مبادئ وغايات الثورة قد تمّ الانقلاب عليها بالكامل فى أعقاب الانتصار المجيد فى حرب أكتوبر 1973
أدهشني وبلغ مني العجب كلَّ مبلغٍ قيام الحكومة المصرية بالاحتفال بذكرى ثورة 23 يوليو، ليس فى داخل مصر فحسب بل فى سفاراتها بالخارج أيضاً. وبدا لى المشهد كمن قتل قتيلاً ثم أقام حفلاً لتأبينه وتعداد مناقبه، غيرآبهٍ بمشاعر الحاضرين ولا مبالٍ بالسؤال المنطقي الذى سَيَعِنُّ بلا شك لأيٍّ منهم: إن كان بالقتيل كلّ هذه السجايا فلِمَ قتلتموه؟ ولا أحسبني بحاجةٍ لإيضاح دواعي دهشتي، حيث أنّ كلّ متابع لما يجري فى أرض الكنانة يعلم جيداً أن مبادئ وغايات الثورة قد تمّ الانقلاب عليها بالكامل فى أعقاب الانتصار المجيد فى حرب أكتوبر 1973. فمنذ ذلك الحين تبنّى نظام الرئيس السادات، وحتى الآن، توجّهات فكرية وسياسات فعلية تتعارض تماماً مع ما قامت الثورة من أجله ودأبت على تحقيقه فى الحقبة الناصرية. وتبدو مصر الحاضر أبعد ما تكون عن مصر ثورة 23 يوليو، ولا أعتقد أني بحاجة لتوضيح هذا التغيّر الصارخ فى دور مصر الريادي فى عالمها العربي حيث رأيتم جميعاً النظام المصري ينحاز لإسرائيل فى حربها المدمرة على لبنان عام 2006 وحربها الغاشمة على غزة هذا العام، بل إنه ساهم فى حصار أهالي غزة خلال الحرب. أمّا على المستوى الداخلي، فقد تمّ تكريس الطبقية بصورة فجّة والقضاء على الطبقة الوسطى إلى حدٍ كبير، ووفقاً لتقرير التنمية البشرية العربية الصادر فى لبنان منذ أسبوع فإنّ معدل الفقر فى مصر بلغ 41 % من إجمالي عدد السكان. كما تمّ القضاء على الصناعة الوطنية بالكامل مجاملةً لأثرياء السلطة الجدد والذين يفضّلون الربح السريع لعمليات الاستيراد على مشقّة التصنيع والتنمية. أمّا مستوى التعليم فقد انهار تماماً وأصبح وسيلة للربح السريع من قِبل المغامرين الجدد، وانحدرت أحوال الجامعات العريقة كالقاهرة وعين شمس حتى لم يعد لها أي ترتيب عالمي على الإطلاق، وبينما توجد 7 جامعات إسرائيلية على قائمة أفضل 500 جامعة على مستوى العالم، لا توجد جامعة مصرية واحدة على هذه القائمة! وطال الفساد والانهيار مؤسسات كنّا دائماً نحسبها بمنأى عن ذلك كالجيش والقضاء. كما أصبح الهاجس الأمني الشغل الشاغل للنظام عوضاً عن التنمية أو التقدم، وليس المقصود هنا أمن الوطن أو أمن المواطن بل أمن النظام فقط! وفى دراسة حديثة نشرتها "يديعوت أحرنوت" فإنّ مصر تنفق 14.5 % من ميزانيتها على الأمن، ويمثّل الناتج القومي 25 % فقط من هذه الميزانية، أي أنه بحسبة بسيطة نجد أنّ مصر تنفق حوالى 58 % من ناتجها القومي على الأمن وحده ! وهو أمر لا يمكن أن يحدث أبداً فى دولة تضع التنمية ضمن أولوياتها. وللمقارنة فقط فإنّ الناتج القومي لألمانيا يبلغ 54 % من ميزانيتها بينما تبلغ نفقات الأمن 3.6 % فقط من إجمالي الميزانية. وقد أدّت القبضة الأمنية الرهيبة والإعلام المُضلل طيلة ثلاثة عقود ونصف إلى شيوع أمراض خطيرة فى المجتمع، أقلّها السلبية والرشوة والمحسوبية والفساد، وأسوأها ضياع الحافز وفقد الانتماء الوطني والقومي. وبات من الشائع أن ترى أبناء هذه الثورة، ممّن استفادوا بشدة من توجُهاتها ومُنجزاتها فى سنواتها الأولى، يشنّون عليها هجوماً ضارياً، ويتبنّون طرحاً رجعياً مُخالفاً لكل ما قامت الثورة من أجله! وهذه إحدى عجائب مصر ومُضحكاتها التى ذكرها المتنبي منذ زمنٍ بعيد... وتحتاج هذه الظاهرة المُحيّرة للكثير من الدراسات والتحليلات العميقة لمحاولة فهم أسبابها ودواعيها، وهى بلا شك مُعقّدة ومُتشعبة، ولكني سأُشير في عُجالة لأمرين أمكنني ملاحظتهما من مُناقشاتي ومطالعاتي المستمرّة لما يجري فى أرض الكنانة:
1. الصورة المغلوطة والمُشوهة التى يُروج لها التيار السياسي الإسلامى فى مصر لثورة 23 يوليو وزعيمها "جمال عبد الناصر"، فقد اختلفت التيارات السياسية الإسلامية فيما بينها فى كل شيء تقريباً، لكنها اتفقت جميعها فى سلبيتها الشديدة تجاه الثورة عامّةً وعبد الناصر خاصّةً؛ كلٌ حسب أسبابه ودواعيه. فالإخوان ينقِمون على عبد الناصر لانتصاره عليهم فى صراعهم على السلطة خلال العقد الأول للثورة، والجهاد وغيرها من الجماعات السلفية تُكفِّر نظام الثورة وتتّهمه بالعلمانية (وفق مفهومها هي طبعاً) وعدم إقامة الخلافة الإسلامية، وغيرها من مفردات الخطاب السلفي. ورغم أن الصدق مبدأ ومطلب أساسي في الإسلام إلا أن التيار السياسي الإسلامي برع فى تضليل أنصاره وخاصةً الشباب الصغير المُحبَط من السياسات الحالية، بسيلٍ من الأكاذيب والتفسيرات المغلوطة للأمور، وهو ما يجد طريقه إلى آذان وعقول الكثيرين منهم ممّن عزفوا عن القراءة والاطّلاع منذ زمنٍ بعيد. ويتجنّب التيار السياسي الاسلامي الإشارة لحقيقة هامة وهي أنّ عصر عبد الناصر قد حقّق بالفعل منجزات هائلة للفلاحين والعمال وصغار الموظفين وهم الأغلبية الساحقة من فقراء هذا الوطن ومُعدميه، وهى مُنجزات تخطّت بكثير ما راود مُخيلة قادة الجماعات السياسية الإسلامية وما طرحوه فى أدبياتهم، كما أن عبد الناصر ضرب مثلاً رائعاً فى طهارة اليد ومُحاسبة المسؤولين، وهو أمرٌ لم تألفه الأمّة كثيراً منذ أيام الخليفة العادل عمر ابن الخطاب.
2. شغف كثير من المصريين بإدّعاء الثراء ومحاولة إثبات انتمائهم للطبقة البرجوازية، حيث ألقت السياسات السائدة منذ ثلاثة عقود فى روع الكثيرين أنّ الوجاهة المادية والاجتماعية هي أهم معيار للتفاخر والهيبة. ولما كانت ثورة يوليو قد عَنيت فى كثيرٍ من أفكارها وتطبيقاتها بإنصاف الفقراء وتحقيق العدالة الإجتماعية، ممّا استدعى قيامها بكثير من الإجراءات الهادفة لتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية وبناء طبقة وسطى عريضة، وهى إجراءات أغضبت كثيراً من الأغنياء واستدعت نقمتهم على الثورة بلا شك. ومع شيوع حالة من السطحية والتخبّط الفكري كما أشرنا آنفاً، يظنّ البعض أن مهاجمتهم للثورة ولعبد الناصر كفيلة بأن تضعهم تلقائياً فى خانة الأغنياء، على الأقل في عيون من يُشاطرونهم طريقة التفكير نفسها.
ومع شيوع حالة السلبية واللامبالاة بين غالبية شعب مصر العظيم والذي عضَّه الجوعُ بنابه، ويأسهم من تحسّن أحوالهم المادية والمعيشية، واستماتة النظام فى التشبّث بالسلطة إلى الأبد للحفاظ على مكتسبات ومصالح أقطابه، تبدو الحالة الراهنة مُرشّحة بقوة للاستمرار فى المستقبل إذ لا تبدو فى الأُفق أي عوامل للتغيير، سلمياً كان أوغير ذلك.
ولا أرى أملاً فى إصلاح الإمور المُختَلطة فى مصر إلا فى ظهور قيادة - أو قيادات- وطنية كاريزمية قادرة على مُخاطبة الجماهير والتأثير فيها، ومستعدّة للتضحية وتحمّل الأذى فى سبيل هذا الوطن، على أن يكون خطابها سهلاً وفي مُتناول العامة، وأن تدعو للتعبئة السلمية بطريقة مدنية حضارية تستفيد من القليل المُتاح وتبني عليه، وعليها أن تتجنّب العنف أو الدعوة إليه لأنّ الأحوال فى أرض الكنانة لا تسمح بهذه المغامرة. لك الله يا أرض الكنانة، لكم عانيتِ وتحمّلتِ على مرّ العصور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.