حلت ، أمس، 23 يوليو ، الذكرى السادسة والخمسون للثورة المصرية التي كانت بكل المقاييس، حدثاً من الأحداث الفاصلة في تاريخ مصر المعاصرة، نقلها من عهد النظام الملكي الذي استمر من عام 1805 إلى عام 1953، إلى عهد النظام الجمهوري الذي بدأ رسمياً يوم 19 يونيو عام 1953، أي بعد أحد عشر شهراً من قيام الضباط الأحرار في الجيش المصري بما أسموه عهدئذ ب «الحركة المباركة». ومما تتميز به الذكرى السادسة والخمسون للثورة المصرية، أنها تحل بعد شهور من التعديلات التي أدخلت على الدستور المصري التي بموجبها ألغي رسمياً الطابع الاشتراكي للدولة المصرية الذي شرع بموجب ما يعرف بقوانين يوليو الاشتراكية لعام 1962. وهي نقلة نوعية بكل المعايير، يمكن القول إنها جاءت لتضفي طابع التلاؤم والانسجام والتطابق بين الواقع السياسي والاقتصادي الذي اتجه بعد حرب أكتوبر عام 1973، نحو تحرير الاقتصاد وتبنّي سياسة الانفتاح والجنوح نحو نظام ليبرالي، وبين مواد الدستور التي كانت تتعارض على طول الخط مع الواقع المعيش والاختيار القائم، مما كان يشكل ، في نظر المراقبين، تناقضاً بين الاختيارات والسياسات الرسمية، وبين قوانين الدولة ، وفي مقدمتها أبو القوانين الدستور. لقد وضعت التعديلات التي عرفها الدستور المصري أخيراً، حداً فاصلاً بين عهدين، بحيث دخلت البلاد مرحلة يمكن وصفها بالمقاييس السياسية والاقتصادية بأنها تقترب إن لم تكن تتطابق مع مرحلة ما قبل ثورة يوليو، حيث كان النظام الحر الليبرالي قائما على الرغم من المآخذ التي كان يكشف عنها وتتقد في الصحف والبرلمان. ومعنى ذلك بوضوح كامل، أن الدولة المصرية صححت الوضع بشكل قانوني، وقررت بإرادتها الحرة المستقلة، أن تتجاوز عن اختيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية أثبتت التجربة فشلها المطلق. وبقدر ما في هذا التصحيح الشجاع والجريء من مزايا كثيرة، فإنه من جهة أخرى، يؤكد أن النظام المصري كان يسير في اتجاه لم يكن هو الاتجاه المطلوب السير فيه، عندما قرر في الخمسينيات من القرن الماضي، نزع الملكية الزراعية فيما سمي بالإصلاح الزراعي، ثم إلغاء الملكية الخاصة في مطلع الستينيات، وفرض التأميم وما يعرف بنظام الحراسات المجحف بحقوق الإنسان، مما أدى إلى انتكاسة اقتصادية عامة، تمثلت بالخصوص في هروب الرأسمال الوطني والأجنبي، ودخول البلاد في تجارب فاشلة كانت تحمل عناوين خادعة تأكد اليوم أنها كانت تنطوي على قدر كبير من التضليل، لم يكن تأثيره يشمل مصر فحسب، بل كان يشمل أقطاراً عربية أخرى. وتفسير هذا التحول ، الذي يحسب للنظام المصري، أن ثورة يوليو جددت نفسها، أو بعبارة أخرى، غيرت جلدها، فاستقر الوضع على الشرعية الدستورية القانونية، بعد أن تحرر مما كان يطلق عليه (الشرعية الثورية). وهو وصف غامض كان يوقع في الحيرة. لقد تغيرت أمور كثيرة في مصر، وصار الكتاب والمعلقون والسياسيون والمفكرون يقومون ، في حرية لافتة للنظر، بمراجعات عميقة للثورة المصرية، ويكشفون في جرأة وشجاعة أدبية، المثالب والأخطاء التي يسميها بعضهم الخطايا، ويقيمون المرحلة الطويلة من منظور المصلحة العليا للدولة، تقييماً يتفاوت قوة وحدة، ليناً وكياسة، من فئة إلى أخرى من الفئات المهتمة بالشأن العام. وفي مصر ظاهرة تكاد تنفرد بها تتمثل في أن كل مواطن يهتم بالشأن العام. اختارت مصر، إذن، التحرر من رواسب عهد مضى، كان مثقلاً بالأخطاء وبالمغامرات التي تواجه الآن بالتصحيح الشامل وبالجدية على أكثر من صعيد. واختارت أيضاً، أن تسير في الاتجاه الصحيح، مع التعبئة الجماعية لمعالجة المشاكل، وللتغلب على الصعوبات، ولشق الطريق نحو المستقبل.