لم تقف حملات النفي والإقصاء عند هذا الحد، فقد أًصدر ما يسمى ب«مجلس قيادة الثورة» الذي حكم العراق أيام البعثيين قانونا حدد بموجبه تملك العقارات السكنية ضمن حدود ما أسماه ب(التصميم الأساسي للعاصمة)، وحصره بمن كان مسجلا ضمنها في التعداد السكاني لسنة 1957، علما أن هذا القرار لا يسري على القادمين من تكريت( مسقط رأس صدام وحاشيته الضيقة) تحت تبرير أن تكريت تقع ضمن حدود بغداد الإدارية عام 1957 !!! وإذاك وتحت قسرية هذا القانون اضطر الكثيرون إلى بيع عقاراتهم والعودة إلى مدنهم ومحافظاتهم الأصلية، أو استئجار عقارات أخرى بدل عقاراتهم المباعة! الشيء الأكيد والذي يبدو أن بغداد لن تتخلى عنه طالما بقيت عاصمة للعراق، هو لعبة الجفاف والطوفان السكاني، بمعناهما الرمزي والواقعي، الذي يبدو اليوم بديلا لطوفان دجلة المأخوذة تسميته من الغمر والفيضان. الإشارة التي ينبغي التأكيد عليها، أن أول مجلس للحكم قدم مع الاحتلال الأمريكي عجل وفي وقت مبكر بإلغاء هذا القرار، قبل أن يعيد صياغة قرارات ترفع الظلم والحيف عن الناس وتعيد لهم حقوقهم المسلوبة، بما يؤكد حد خطورة هذه اللعبة وقواعدها في العاصمة الجديدة، ليمهد الطريق للكثيرين من أجل التملك في بغداد على حساب ما باعه ضباط العهد السابق وأعوانه ممن فضلوا العودة إلى قراهم ومدنهم بعد انقضاء أعمالهم في بغداد، التي توقفت عن أن تكون ثكنتهم وعنوان سلطتهم، وهي تتحول إلى ثكنة ومسكن لقادمين وغازين جدد من الخارج ومن الداخل! لقد شهدت سنوات بغداد تحت سماء (حزب البعث الحاكم) تفكيكا اجتماعيا منظما، أعلن بوضوح أن المدن المجاورة هي من يحكم العاصمة والعراق معا، وليس العاصمة هي التي تحكم، وقد ظل السكان يتدفقون عليها بحظوة قربهم، العائلي، أو الجغرافي، من الحاكم، بحيث سجلت أكبر تغلغل من مناطق شمال العاصمة وغربها، وما ترتب عن ذلك من شيوع تقاليد تنتمي إلى البداوة أكثر من انتمائها إلى التنوع المعروف عن مجتمعات بغداد. وتستدعي هذه الظاهرة بالذات إضاءة خاصة لاسيما ثنائية البداوة/ الحضارة التي بنى عليها عبد الرحمان ابن خلدون نظريته الأساسية للتاريخ، وناقشها من بعده بشيء من التفصيل، على المجتمع العراقي، عالم الاجتماع على الوردي. بحيث نجد أن هذه الثنائية لا تصح في وضع بغداد إلا بطريقة معكوسة! فالعاصمة المتمدنة لم تقتلع حمى التوحش، ومخالب الافتراس من نفوس حكامها القادمين من محافظات ذات طبيعة غير عمرانية وليست بمدينية.. وإنما هي خليط حائر وقلق بين الريف والبادية في أحسن أحواله، ما لم نقل إنها انعكاس صارخ لبيئة صحراوية.. ما بين احتلالات متنوعة واستقلالات مفترضة، ظلت صورة بغداد تعبيرا صارخا وجارحاً لالتباسات عديدة منذ تشكل الدولة العراقية واستقلالها، وحتى قيام الجمهورية في العام 1958، ومحكومة بميراث عربي، كنموذج بديل للخلافة الإسلامية عبر عرش الملك فيصل الأول المولود في مكة المستقر على عرش بغداد مرة ثانية عاصمة لدولة ستكون أول بلد عربي يعلن استقلاله في العام 1932، وهو يجلس على عرش لم يك بالنسبة إليه سوى «مجرد أرض، أما الشعب فستجري صياغته على يديه لاحقا، طالما أن لا وجود لهذا الشعب بالمفهوم الوطني !!...». ففي مذكراته السرية التي وجهها إلى مقربيه، يؤكد الملك فيصل نفسه أنه يعتقد أنه «لا يوجد شعب عراقي بل مجرد كتلات بشرية، لا تجمع بينها جامعة، ميالة للفوضى والتمرد» واعدا بأنه كفيل بتكوين شعب عراقي من هذه الكتل المتنافرة.. مرورا بعبد الكريم قاسم الجنرال القادم من ثكنة العسكر، ليعلن قيام أول جمهورية عراقية، لم يعمر فيها طويلا، فحكم الأخوين عارف بداية الستينات، وصولا إلى حكم البعث مع البكر- صدام.. تراوحت الصورة بكل أبعادها.. صورة بغداد التي لا ينبغي التحديق فيها بصورة المدينة في مرآة (ألف ليلة وليلة) لأن صورتها تلك مجرد مجاز يصلح لتسلية السلاطين، وتعويذة لحجب ليل الموت الطويل بالحكايات الخيالية.. غير أن صورتها، المضافة إلى خرائط النار هي أفصح ما حمله جنود المارينز الأمريكان الذين دخلوها في ربيع لا يفيض بالياسمين ورائحة التاريخ، بل بنيران تأكل مباني بغداد بأكملها وعمليات سطو منظمة لكل ما يمت لبغداد بصلة، بما يجعلها خريطة أخرى من نار ورماد تشبه خريطة مبتداها!! حتى كأن الأمريكان وقفوا مشدوهين، وهم يبحثون عن وصف لما يجري من عمليات سطو غريبة وإشعال نيران في مباني إدارات «الدولة»، وكأن الأمر خارج عن نطاق سلطتهم آنئذ، حتى أصبح وصف (علي بابا) أول لغة مشتركة- لكنها متعاكسة- بين العراقيين والأمريكان في (بوشداد) الجديدة! ولن يبدو هذا الأمر غريبا في بلد صارت تباع فيه الطائرات الحربية، يبيعها الناس، بعد تفكيكها بالمزاد السري في سوق الخردة مع المدافع والقاذفات والطائرات المروحية، وتنتهي معادنها في المنازل أباريق للشاي، وأوان مزخرفة بطريقة تقليدية تباع كتراث للصناعات الفلكلورية في سوق الصفارين، أما المحركات فيجري شحنها مع مولدات الطاقة الكهربائية والأسلاك الحديدية والماشية المهربة إلى خارج البلاد! كانت بغداد عاصمة مرتين، وفيهما معا تستعير كل شيء الاسم والإنسان والعمران، والحكايات والمعيش، مستعارة في الإقامة ومستعارة في النفي، وهي اليوم مستعارة في تفاصيلها كما هي مستعارة في فكرتها!