لم يكن أبو جعفر المنصور يعلم أن لعنة الرجل الذي سأله عن اسم تلك البقعة من الأرض، وأجابه بلسان غير عربي، فارسي، بأن اسمها (باغ داد...) أي: هذا البستان لي! لم يكن يعلم أن لعنة ذلك الرجل سترافق بغداد خريطة النار التي رآها المنصور أول مرة، ولعله أول من رآها، «النموذج الأبدي المحترق للمدينة»، طيلة عصورها الأخيرة قبل أن تأتي عليها المنجزرات والطائرات الأمريكية... فمعركة العراق (الانتخابية) لن تكون بمنأى عن تأثيرات (معركة بغداد) بإحداثياتها الطبيعية المشار إليها والتفاعلات البشرية غير المنتهية، التي شكلت صورة بغداد القلقة، معركة بغداد ذات التعداد السكاني الذي يقارب اليوم الملايين الثمانية، والذي جعلها واحدة من العواصم الإسلامية الكبرى، من حيث الكثافة السكانية، الرجراجة ديموغرافيا، بشكل لافت، حتى في عهدها الجديد الذي شهد اليوم العديد من موجات النزوح والنزوح المضاد (التهجير، والتهجير القسري) بفعل فرار من فر منها، وزحف من زحف نحوها تحت وطأة المعارك العسكرية، والميلشاوية، وبقايا مخابرات النظام السابق، والتي لا تبعد كثيرا، وأحيانا بضعة كيلومترات، وتلتصق بضواحيها.. معركة بغداد (الانتخابية) المفترضة هذه ليس لها من اسمها في واقع الأمر سوى هذا الافتراض، تماما مثلما كانت معركة بغداد العسكرية الكبرى مانشيتا عريضا في الصحافة وصورة توضيحية في إحداثيات الخرائط التي تحدثت عن مواجهة ومجابهة ومنازلة طويلة الأمد في التحليلات التي سبقت الغزو، ليظهر منها في نهاية الأمر إيجاز دراماتيكي سريع لخصمه مشهد دبابتي (أبرامز) أمريكيتين، تقفان على جسر (السنك) ببغداد، طليعة لجيش جرار سيدخل مدينة (السلام) بسلام، وليس ثمة من (منازلة تاريخية) لتسقط العاصمة، وتتسارع تأويلات السقوط! في حين تبدو معركة بغداد الواقعية بما ظهر منها للآن، القتال المتقطع الذي يهدأ فينة ليحتدم أخرى في المدن الملاصقة للعاصمة، وفي أحياء بعينها داخلها.. معركة الفئات الاجتماعية بتضارب نواياها، وتناقض مصالحها، معركة بغداد التي بدأت بعدما استفاقت العاصمة على عريها الجديد، عندما أسقطت الدبابات الأمريكية كابوس الخوف المتجسد بتمثال الفردوس، ولم تستطع استبداله بتعويذة الأمان لسكان العاصمة حتى اليوم. على أن بغداد تخوض، كما اعتادت دائما، حربا تشمل كل مدن العراق، تتداخل فيها صورتها، بوصفها عاصمة، بصورة المدن البعيدة، إذ إن الذاكرة الساخنة تخبرنا أن البلاد لم تشهد حروبا حدودية مع الجيران والأشقاء، إلا وبرزت بغداد فيها الأكثر تضررا حتى من بعض المدن الحدودية التي كانت مسرحا متقدما لتلك الحروب. وبالرغم من أن بغداد مثلت في أول حكومة عينها الاحتلال البريطاني للعراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى، الحكومة الانتقالية التي شكلها السير بيرسي كوكس الحاكم المدني، برئاسة عبد الرحمان الكيلاني (السني)، إلا أن مهمة هذه الحكومة لم تتعد مجرد المناداة بالملك فيصل الأول ملكا على البلاد، وهو المولود في مكةالمكرمة، لتصبح بغداد منذ ذلك الوقت مقرا للعرش، وقصرا لإقامة الرؤساء الذين يأتون إلى العاصمة من خارجها. حتى إن بغداد لم تقدم رئيسا للعراق ينتسب إلى إحدى عوائلها التقليدية أو ينحدر من أحد أحيائها القديمة، بل ولم تنتخبه كذلك. فعبد الكريم قاسم أول رئيس وزراء ينحدر من قضاء الصويرة التابع لمحافظة واسط جنوب بغداد، والأخوان عبد السلام وعبد الرحمان عارف ينحدران من محافظة الأنبار غرب العراق.. والقريبان أحمد حسن البكر وصدام حسين هما من تكريت شمال بغداد، وهي المحافظات المتاخمة للحدود الإدارية للعاصمة.. ومع أن عددا من هؤلاء ولدوا في بغداد، إلا أن جذورهم العائلية ظلت ممتدة في أماكن أخرى كما هو واضح. ولعل هذه السمة ليست وقفا على حكام العراق، بل على طبيعة المجتمع الذي يقطن بغداد، بينما تتفرع أصوله في المحافظات الأخرى، كما سيبدو هذا الأمر طبيعيا، ولا يشد كثيرا عن واقع الحال في العديد من الدول العربية، خصوصا تلك التي تصل السلطة بمدرعات الثوار، لكن الميزة الإضافية لبغداد تأتي من كونها لم تعرف أيضا طيلة أكثر من أربعين عاما مضت محافظا (واليا) لها من بين الملايين من سكانها! فكل من توالى على منصب المحافظ في بغداد كان من خارجها، فأغلب من شغلوا هذا المنصب كانوا إما من العسكر الذين لم يبرحوا الخدمة بعد، أو من العسكر المتقاعدين توا من قيادة الجيوش، أو ممن شغلوا مناصب أمنية ومخابراتية رفيعة، كأنهم كانوا بذلك تعبيرات عن استجابة غير واعية لوطأة الغرض الأول الذي بنيت من أجله بغداد: ثكنة للجند! ويتذكر العراقيون، ممن عاشوا في بغداد بداية السبعينات، فترة تولي خير الله طلفاح التكريتي، خال صدام ووالد زوجته، منصب المحافظ في تلك الحقبة، وهو الجنرال المتقاعد، وكيف بدأت آنذاك أول صيغة نوعية تجسد طبيعة العلاقة بين (الأمين) والعاصمة، في تلخيص لعلاقة السلطة بمواطنيها في مركز الدولة. فقد شهدت شوارع بغداد أيامها حملات محمومة لإخضاع الشارع لنمط تفكير السلطة، عندما جرت محاربة زي الموضة السائدة آنذاك (الميني جيب) بطلاء سيقان الفتيات بالأصباغ الملونة، وبالقدر الذي تظهر فيه من ثيابهن في الشوارع.. فيما جرى تمزيق بناطيل (سراويل) الشباب الضيقة و(الشارلستون) على حد سواء، مع ورشات حلاقة في الهواء الطلق لذوي الشعور الطويلة. عمرانيا لا يبدو أن ثمة مدينة عربية أكثر أفقية من بغداد التي لا يكاد يوجد فيها حي ببناء عمودي، إلا ما ندر، في مساحة تتجاوز اليوم ثلاثة آلاف كيلو متر مربع، وهو توسع يجمع بين الحضري والريفي، لكنها إجمالا منقطة مأهولة بمساحتها الشاسعة تلك، وبتداخلها السكاني الذي يجعلها أكثر مدن العراق كثافة سكانية.. بيد أن هذه المعضلة تبدو اليوم واحدة من الضمانات البشرية التي تمنع فكرة تقسيم البلد على أسس طائفية أو عرقية، مثلما تشكل في الوقت نفسه مانعا نوعيا لنشوء نسيج اجتماعي واضح، يصعب معه التنبؤ باتجاهات التصويت في اقتراعات المصوتين. ومثلما قسم نهر دجلة بغداد إلى ضفة شرقية وأخرى غربية، واحدة ثكنة وخزان بشري لتلبية حاجات الموت بشتى أشكاله، الحروب والإعدامات وبسواهما، وأخرى صنفة لإقامة أبي جعفر المنصور وقصر الخلد، والقصر الجمهوري، فإن ثمة شقا صناعيا وليس طبيعيا هذه المرّة كان عنوانا ومسافة، هو (قناة الجيش). يصطلح العراقيون على هذا الشق الصناعي الذي أقيم لاستيعاب فيضان نهر دجلة الموسمي ب(خط الفقر)... ذلك أن أكثر من نصف سكان بغداد يعيشون وراء هذا الخط، ليس دون مستوى خط الفقر فحسب، بل دون أدنى مستوى الحياة الإنسانية الطبيعية في بلد نفطي مثله مثل العربية السعودية والإمارات وغيرها. بل إن أهل بغداد، غرب هذا الخط، لم يكونوا ينظرون لأهل الشرق على أنهم من سكان العاصمة، فساد نوع من الفوقية في العلاقات الاجتماعية عززتها تنظيمات البعث الحاكم بامتيازات لاحقة. وليس من باب المبالغة القول إن بغداد هي أكثر من العراق افتقارا إلى التجانس الاجتماعي في ما بين مناطقها المترامية، ليس بفعل هذا الترامي الأفقي، الذي جعل التفاعل والتراكم مفتقدا بين شرائحها المجتمعية فحسب، بل بتنامي حس المناطقية والعشائرية، والطبقية المتوارثة في العاصمة التي تخضع خريطتها الاجتماعية للتعديل باستمرار، بفعل عوامل شتى من بينها انهيار الطبقة الوسطى خلال سنوات الحروب والحصار الدولي، وبروز طبقة منتفعة من هذا الواقع المضاد للقيم الاجتماعية التقليدية في بغداد، مثله من يمكن تسميتهم ب(محدثي النعم) ممن لا يمتلكون حاضنة وعي نوعي لتسهيل اندماجهم بما حولهم. كما أن ظاهرة (ترييف) بغداد، عمرانا وإنسانا وقيما، كان ذا أثر قوي أكبر مما حفره دجلة على الضفتين من انقسام طبيعي، ولم تنفع جسور بغداد الثلاثة عشر في تجسير مساحة التفاعل ليس بين عمران رصافتها وكرخها بل بين الكتل الاجتماعية على أي من الضفتين. وبالتالي لن تتمكن شعارت الأحزاب المتناسلة من الحلول محل اللهجة البغدادية الضائعة في نبرات توجز هويات ضيقة يصعب دمجها في الهوية الكبرى للعاصمة والوطن. ويبدو أن تراجع نفوذ العوائل والبيوتات البغدادية التقليدية وانحسارها، كان متماثلا مع انحسار المهن والوظائف التي كانت تؤديها وورثتها قبل أن تباح للجميع، بل كان مترافقا مع انحسار الزي المرتبط بها، واللهجة التي نحتت منها تسميتها، ولذلك تبدو هذه العوائل اليوم جزءا من فلكلور بغدادي، لا فعل لها إلا بمقدار ما يمثله من رومانسية تاريخية في محاولة استعادة ذلك الدور. ولعل النظر إلى صور معينة يعطينا فهما أقرب للوضعية القائمة.. فكم من مشكلات عشائرية حدثت في بغداد، جرى تقصي حلولها في مناطق أخرى بعيدة عن العاصمة، باعتبارها السند الاستراتيجي لهؤلاء النازحين لها، وكم انتظرت مجموعات بشرية مجتمعية تسكن العاصمة إشارة من المرجعية الروحية لتحدد لها موعد الصيام، ومواعيد الأعياد.. حتى المناطق البغدادية التقليدية أضحت جزءا من فلكلور المدينة المكاني، ليس إلا، فشارع الرشيد مثلا أقدم الأمكنة في عاصمة الدولة، والذي كان مركز الحراك السياسي للمدينة منذ التظاهرات الشعبية والأنشطة السياسية في النصف الأول من القرن الماضي، إلى أنشطة العنف السياسي ولاسيما في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في العام 1959، هذا الشارع لم يعد إلا مجرد مزار دوري للقادمين من الضواحي، وهم يستذكرون وقائع لم تعد متحققة في الراهن! وقد يذكر هذا الجانب من الغياب بشقيه الواقعي والوجداني أو الرمزي، يذكر البغداديين ب( الانتخابات) التي كانت تجري خلال حكم صدام للحصول على عضوية ما كان يعرف ب(المجلس الوطني)، فقد كان التنافس على قائمة بغداد لعضوية المجلس، لا يعني مجرد تنافس تقليدي على مقعد في البرلمان الشكلي، بل لتسلم مسؤولية مهمة داخله، بينما رئاسة المجلس نفسه أو رئاسة لجانه المتعددة. بيد أن صورة وأسماء المتنافسين الباحثين عن مقاعد لهم باسم العاصمة لم تكن تحمل، وهي تملأ جدران الشوارع في بغداد، أي إشارة إلى ملمح بغدادي لدى المرشح، لا في اسمه ولا في رسمه! بل على العكس، كانت ألقاب المدن الأخرى، والعشائر، هي التي تروج للمرشح بدعاية من نوع آخر، حتى إن التنافس على منطقة بغداد، بين عدي صدام حسين، المتحدر من محافظة صلاح الدين، وسعدون حمادي المتحدر من محافظة كربلاء، انتهى لصالح الأول ومع ذلك اختير الثاني رئيسا للمجلس الوطني ربما تلافيا لإحراج قد يطيح بما أعد له من سيناريو تدريجي داخل المجلس! حتى إن شائعة تنحية البيوتات البغدادية جاءت تحت غطاء أنها بقايا تركات عثمانية وهو أمر يتنافى ويتقاطع مع المفاهيم العربية والقومية التي جاء بها البعث الحاكم! لا يعني أن هذه العوائل ذات تحدرات تركية، وإن كان بينها من هو كذلك، لكن الأسماء الملحقة التي تحملها هذه العوائل كانت تشكلت بفعل قيم ومهن ومواقع ومآثر إجتماعية واقتصادية من العهد العثماني، فالعوائل التي تحمل كنى: الدفتر دار، والعلم دار، والدامرحي دار، والجادرجي، والجلبي، والباجه جي، والأورفه لي.. وسواها، هي عوائل ظلت لها مكانة تقليدية يتكفل رنين أسمائها، التي لاتحمل ألقاب العشائر العربية التقليدية، كالزبيدي والربيعي، والقريشي، والنعيمي، والدليمي والجبوري وسواها، بمنحها انطباعا خالصا يشير إلى أنها تنتمي للمدينة لا إلى الريف الزاحف نحوها. لقد مثلت هذه العوائل فيما مضى الكتلة البشرية المدينية للعاصمة، بينما لم تكن الكنى والألقاب العشائرية سوى الصياغة الريفية لبيوتات حلت بها لا حقا، كما نجحت في تحقيق طبقة اجتماعية لم تعدم التعليم الجيد، والمهن الشائعة آنذاك، في وقت لم يكن فيه دور النخب السياسية واضحا تماما.. فاستطاعت بما امتلكته، أن تبدو الطبقة القادرة على الإمساك بزمام الإدارة في دولة تتشكل بالتدريج، كانت الخمسينيات ذروتها الكبرى قبل أن تنكفئ في الطريق الذي شقته دبابات العسكر وكرست تناغما فقد وإلى الأبد لصالح خليط عسكرتاري نما على أرضية اجتماعية مفتتة سهل اقتلاعها ونحا أفقها المشترك منذ نصف قرن، بل ربما منذ قيامها كعاصمة للدولة العراقية المعاصرة! ما بين التاسع من نسيان/ أبريل 2003 والثلاثين من حزيران/ يونيو2004 انتقل العراق في رحلة دامية، ومضيق خطر، من حقبة إلى أخرى، لازالت قائمة إلى اليوم، سميت في الأدبيات السياسية (الانتقال من الاحتلال إلى السيادة)!، سميت في الخطاب الكولونيالي الجديد(الطريق نحو الحرية)، بيد أن راهن البلاد يقول إنها رحلة بين حدين جارحين مازالا غامضين ومتداخلين مبتدأ ومآلا... وما بين هذين الحدين انبرى سؤال عريض: «عراق يتشكل أم عراق يتقوض؟»، ذلك هو السؤال التراجيدي الذي ارتقى مسرح العالم بعد الاحتلال الأمريكي للعراق! فمنذ الكولونيالة الأنكلوسكسونية الأولى، حتى الكولونيالية الثانية، تشكلت الدولة العراقية، لتهدم بالمعول ذاته الذي صيغت به ومابين الصياغة الأولى، والصياغة الثانية كان على العراق، كيانا وشعبا، أن يدخل التجربة لا ليعلم بل ليمتحن، أو قل ليكون اختبارا بدئيا، قبل أن يجري تعميمه أو رميه إلى الحاوية! وبينما بدأ مفهوم الدولة في العراق تصورا كولونياليا، فإنه يتجلى اليوم ملتصقا بتصوره الأول ومحكوما به مرة أخرى.. إنها دولة لم تكتسب شرعيتها الداخلية عندما قامت، ولهذا فهي لم تخسر تلك الشرعية عندما انهارت، ولا أظن أنها تطمح إلى شرعية جديدة في صياغتها الحالية!