لم يكن أبو جعفر المنصور يعلم أن لعنة الرجل الذي سأله عن اسم تلك البقعة من الأرض، وأجابه بلسان غير عربي، فارسي، بأن اسمها (باغ داد...) أي: هذا البستان لي! لم يكن يعلم أن لعنة ذلك الرجل سترافق بغداد خريطة النار التي رآها المنصور أول مرة، ولعله أول من رآها، «النموذج الأبدي المحترق للمدينة»، طيلة عصورها الأخيرة قبل أن تأتي عليها المنجزرات والطائرات الأمريكية... إن خطاب الحرب الذي أدلى به بوش وزعم وجود أسلحة دمار شامل دفع الحرب إلى حدودها القصوى عبر نص مشدد عليه: «إن المعلومات الاستخبارية التي جمعتها هذه الحكومة وغيرها من حكومات لا تترك مجالا للشك بأن العراق يواصل امتلاك وإخفاء بعض أشد الأسلحة فتكا على الإطلاق». بل ذهب أبعد من ذلك عبر تسويق شحنة يقينية إضافية وتفعيلها من خلال التخويف المضاد إلى قادة الجيش العراقي بقوله: «لا تطيعوا أي أوامر باستخدام أسلحة الدمار الشامل ضد أحد»! ولكن مواعيد المواجهة مع يقينية الخطاب ستكون في مواجهة جديدة مع يقين من نوع آخر هو: «أين اختفت تلك الأسلحة»؟! ويبدو أن لعبة «أسلحة الدمار الشامل» العراقية لها بعدان أساسيان، الأولى بيد صقور الإمبراطورية الجديدة، والثانية بيد صدام، غير أن الأمريكيين أرادوا أن يعيدوا الكرة بشروط جديدة، وباستراتيجية مضادة، لم يع صدام خطوطها وقواعدها جيداً. فقد أرسلت أمريكا جيشاً جراراً يزيد على المائة ألف نحو أقصى بوابة المشرق العربي بحثا عن مصل كيماوي ضار، لكن هذا المصل المزعوم ظهر في نقطة أخرى من نقاط الغرب العربي وبصورة ميتافيزيقية دون عناء في طرابلس الغرب! أما قصة البعد الثاني من لعبة الأسلحة الكيماوية، فجميع العراقيين تقريباً ما فتئوا يعيشون في دوامة تلك اللعبة، مع هاجس خلقه صدام نفسه، أنهم سيدخلون حربا كيماوية ذات يوم، عبر العديد من حملات التوعية والتنشيط النظري والعملي، في كيفية التعاطي مع الغازات القاتلة كغاز الخردل أو السيانيد أو سواهما من غازات الفتك والعناصر الكيماوية... وحملات التوعية تلك لم تطل الجنود المتدربين في معسكرات الجيش فقط، بل طالت طلبة وطالبات المدارس المتوسطة والثانوية، بل وحتى حملات محو الأمية التي تخص السيدات والعجائز.. من خلال دروس صاروا يعرفون أن انتشار الغازات في الهواء يشكل غيمة واطئة، تنبعث منها رائحة لطيفة تفتح الخياشيم على وسعها، كي تدخل أكبر كمية ممكنة إلى الجهاز التنفسي، فيصبح الموت حتميا وسريعا.. ولا أحد، من العراقيين، تعامل مع هذه الدروس إلا بوصفها تحضيرا ميدانيا لواقعة كيماوية وشيكة! لكن في ذات الوقت لا أحد يمتلك اليقين، أو على الأقل الحد الأدنى من المعلومات التي يستدل بها حول ما إذا كان الجيش العراقي يمتلك سلاحا كيماويا سيستخدمه ذات يوم ضد أعداء مفترضين وقد يواجه مثيله! أم إن تلك الأنشطة التعبيرية هي لخلق شعور لدى الناس بأنهم سيخوضون حربا كيماوية! غير أن النظر إلى هذه الفكرة مرهون بطبيعة شخصية صدام نفسه، زائد عقليته التي تستمد قوة عملها من إبقاء الآخر (أفرادا، وجماعات، ومجتمعات...) تحت ضغط شعور مفزع من أنه يقف على أرض هشة ستنفتح في أيما لحظة وتقذف به في مهاوي الردى.. أو بأنه مقدم على كارثة حقيقية إذا فكر في مواجهته! وثمة وقائع وأحداث تروى عن طبيعة عقليته صدام من بينها حادثة سردها زميل له، كان من ضمن من تتلمذ معه في ربوع مدينة تكريت. فقد كان صدام (صبيا) يقطع مسافة طويلة ما بين قرية العوجة ومسقط رأسه وبعض أقضية مدينة تكريت سيرا على الأقدام، وخلال تلك المسافة المقفرة والتي لا تخلو، آنذاك كما اليوم، من وجود قطاع الطرق، كان الصبي صدام كلما التقى بجمع من الأشخاص يتحدث عن أنه يمشي وحيدا لكنه سبق عددا من أقاربه وسيأتون بعده وهم مسلحون. كانت تلك الكلمات التي ينشرها الصبي بين مجموعة وأخرى في طريق ذهابه وإيابه، تنتشر أثناء ترديدها، لتجد صدى رهيبا. لدى كل من يريد شرا، في نفس الوقت تلتصق به سمة البطش عبر روايات ينسجها عن قوته وقوة سنده العائلي وصلات قراباته، وهو يقطع الطريق الموحشة وحيدا في مواجهة قطاع الطرق فيخلق الذعر لدى خصومه الأمر الذي يمنعهم من مواجهته! بيد أن صقور الإمبراطورية المحررة ألقوا بتلك الخطابات الإيهامية على قارعة الطرق حينما أرادوا أن يعيدوا اللعب معه هذه المرة ولكن بشروط ووقائع جديدة، وباستراتيجية مضادة تقريبا، فهم يعلمون أنه قبل الغزو، يمشي وحده ولا أحد من أقاربه المسلحين سيأتي بعده ليدافع عنه! فهذا الشعب الذي ظل طيلة حكمه يقوده بالنار والحديد والكهرباء والأسيد.. هذا الشعب سلبت منه إرادته وفقد بوصلة حياته. مئات الآلاف من العراقيين قتلوا في الشوط الأول من لعبة «تحرير العراق»! رغم أن أمريكا تعلن وتؤكد أنها تستهدف الرأس الأول في السلطة وأركان نظامه في ضرباتها البرية والجوية والبحرية التي حرقت أديم البلاد وأجساد العباد، إلا أن أحدا من المطلوبين لم يكن بين هؤلاء الآلاف المؤلفة من الضحايا الذين سقطوا قرابين لحرية لطالما حلموا بها ولم يتلمسوها! أما هدف «الفرصة السانحة» الذي قدمت لأجله أمريكا موعد حربها على العراق ساعات! فقد بقي غير سانح إلى حين اصطياده في حفرة «العنكبوت» في إحدى مزارع منطقة الدور قرب تكريت! جميع المطلوبين في قائمة الخمسة والخمسين من أركان النظام تحت عبارة «مطلوب حيا أو ميتا» دخلوا القفص الحديدي دون إطلاق رصاص، بل بإطلاق دعوات الاستسلام عن طريق مكبرات الصوت أو بالاستسلام الطوعي أو عبر وسطاء من نوع خاص في الغالب، ما عدا واقعة قتل عدي وشقيقيه قصي في أحد المنازل في الموصل شمال بغداد! حرية العراق أو حرب «تحرير العراق» كما سميت في وسائل الإعلام حملت معها خرائط عمياء، وأخرى مجهولة، عمياء لأسلحة الدمار التي لم يكن لها من أثر إلا على أجساد الضحايا من الكرد في شمال العراق، والعرب في أهوار الجنوب.. وخرائط مجهولة لأهداف في الطريق علّ قوادم الأيام تكشف عن بعض ملامحها.. أما أوراق اللعب التي تحمل أسماء المطلوبين فلم يتبق منهم سوى ملك اللعب «عزت الدوري».. اعتقل صدام وسكت صوته إلى الأبد، وظهر صوت الزرقاوي أبو مصعب، وسكت هو الآخر، وظهرت خرائط جديدة أدواتها هذه المرة سيارات مفخخة وأسلحة خفيفة وأجساد ناسفة تحمل موتا جماعيا من نوع آخر وعدد العراقيين الذي يموتون يوميا بنيران الأمريكان أو بفخاخ التفجيرات الآلية والبشرية في تصاعد لا يبدو أنه قابل للتوقف، وحرية العراق لا تزال تنتظر مشاهد هوليودية جديدة.