الحلقة الحادي عشر : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
ما هو أول سؤال طرحتموه على الملك الحسن الثاني في هذا الحوار؟ - كان سؤالاً حول مشكلة الصحراء. كان نص السؤال كالتالي: عرفت مشكلة الصحراء أخيرا تطورات ديبلوماسية، سواء على صعيد منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي لاحقاً) أو منظمة الأممالمتحدة، ونود أن نسمع من جلالتكم رؤيتكم لهذه التطورات وآفاق الموقف الراهن؟». ثم توالت الأسئلة واستمر ذلك مدة 22 دقيقة، كان خلالها الملك يجيب بانشراح ولم يبد ضيقا من أي سؤال. ولماذا تقرر حصر السقف الزمني لهذا الحوار في 22 دقيقة وليس 45 دقيقة كما كان مقررا؟ - لا، لم يكن الأمر كذلك، لكن ما حدث أن الملك قرر فجأة إيقاف الحوار، وأمر مصوري التلفزة، الذين كانوا يصورونه، بأن يتوقفوا. هكذا بغتة. وأتذكر أني كنت وضعت آلة تسجيل فوق طاولة صغيرة كانت أمام الملك. المؤكد أن وضع آلة تسجيل أمام الحسن الثاني لم يكن تصرفاً حكيما، بل كان تصرفاً تنقصه اللباقة، وبدوت كأني حريص على تسجيل ما لا يرغب الملك في تسجيله. صحيح أنه لم يعترض على ذلك التصرف، لكن لاحظت أنه أبدى بعض الانزعاج، واكتفى بالقول: «أظن أن لا داعي للتسجيل لأن وزارة الإعلام ستتكفل بتزويدكم بنسخة من هذا الحوار»، ومع ذلك لم أسحب آلة التسجيل من أمام الملك، خاصة أن عرفان نظام الدين، رئيس التحرير، هو صاحب الفكرة، لأنه خشي ألا تسلمنا وزارة الإعلام نسخة من الحوار مع الملك في وقت ملائم. وبصراحة لو ترك الأمر لتقديراتي لما بادرت إلى وضع آلة تسجيل أمام الملك. اعتقدت أن الملك أوقف الحوار لهذا السبب. المهم أننا تنفسنا الصعداء عندما طلب الملك بعد إيقاف الحوار إحضار الشاي والقهوة. كان مشهداً ما يزال راسخا في ذهني. قال الملك بلغة آمرة: «اعطونا شيئا نشربه». وما هي إلا بضع دقائق حتى كان مجموعة من المخازنية يحضرون بسرعة البرق «صواني» فضية أنيقة فيها الشاي والقهوة وحلويات من شتى الأشكال والأنواع. صب أحدهم للملك فنجان قهوة، وطلبت بدوري فنجان قهوة. اخترت القهوة لأني لم أكن أشرب الشاي الأخضر. ونحن نتناول القهوة سأل الملك عرفان نظام الدين عن ظروف العمل داخل مقر الصحيفة في لندن، وحول مراكز طبع «الشرق الأوسط» وأرقام توزيعها في المغرب. أتذكر أنه اقترح أن تطبع الصحيفة في أمريكا اللاتينية «لربط عرب هذه القارة بوطنهم الأم» كما قال وقتها. ولعل من المفارقات أن هذه الخطوة لم تتحقق إلا عندما انتقلت شخصيا إلى أمريكا حين أنيطت بي مسؤولية إدارة مكاتب الصحيفة في الولاياتالمتحدةالأمريكية. في تلك المرحلة من الحوار، أي أثناء شرب القهوة، كنت أستمع ولم أتدخل في الحوار. كانت آداب اللياقة في حضرة ملك ألا أبادر بالحديث إلا إذا سئلت. والواقع أني شعرت بارتياح لأن الملك تجاذب أطراف الحديث خلال فترة الاستراحة مع عرفان نظام الدين، بعد أن تجاهله تماما عندما دخلنا عليه كما أسلفت. كانت من بين الأسئلة، التي طرحها عرفان نظام الدين على الملك أثناء الدردشة في فترة تناول القهوة، حول مطالعاته وقراءاته، وقال الملك ردا على ذلك الاستفسار الذي لم يكن للنشر «أطالع كثيراً على الرغم من مشاغلي. أطالع كتباً وصحفاً ومجلات وأبحاثا. أقرأ بعض الصحف العربية والأجنبية، لكني تخليت في المدة الأخيرة عن قراءة صحيفة «لوموند» لأنها حادت عن الموضوعية». هل هناك شخصيات حضرت معكم جلسة هذا الحوار مع الملك؟ - اقتصر الحضور على ثلاثة أشخاص، هم أحمد رضا اكديرة وأحمد بنسودة وعبد اللطيف الفيلالي. لم يكن اكديرة في القاعة التي انتظرنا فيها قبل الدخول إلى الملك، ولا أعرف أين كان. أثار انتباهي أن الملك عندما أوقف الحوار سأل اكديرة بالفرنسية حول ما إذا كانت إجابته معقولة، فعبر اكديرة عن رضاه بعبارة مقتضبة، قال فيها «بالتأكيد..الأمور جيدة». لاحظت أن الشخصيات الثلاثة جلسوا في مكان بعيد نسبياً عن المكان الذي جرى فيه الحوار داخل القاعة الملكية، لكنهم بالتأكيد كانوا يستمعون بوضوح للحوار. هل أخبرتم بأن هذا الحوار مع الملك سيبث على شاشة التلفزة؟ - نعم. وقد وجدنا لدى دخولنا القاعة كاميرات تلفزيونية منصوبة أمامنا وطاقم تصوير خلف تلك الكاميرات. كان المصور الأساسي الذي صور الحوار هو الصديق حسن زريوح، الذي ربطتنا به فيما بعد علاقة متينة. كان من المصورين الذين يمتلكون الجرأة بأن يتحدث مع الملك عن جلسته وزاوية التقاط الصورة. حرص دائماً أن يظهر الملك في اللقطات المصورة بطريقة تليق برئيس دولة كبير، ثم إنه كان معروفا لدى الجميع في عهد الحسن الثاني بأن كل حواراته الصحافية تبث على شاشة التلفزيون. إضافة إلى مصوري التلفزة، اصطحبنا، نحن، المصور عبد المقصود السحيمي، في حين كانت الأنشطة الملكية يتم تصويرها من طرف طاقم يتكون من مصورين من وزارة الإعلام، إضافة بالطبع إلى المصورين الذين يعملون مع القصر الملكي. ألم يطلب منكم بعض المسؤولين أن تتجنبوا طرح بعض الأسئلة المحرجة على الملك؟ - أبداً. طرحنا على الملك جميع الأسئلة التي كنت أعددتها وقدرت أن لها أهمية لقراء صحيفة مثل «الشرق الأوسط»، سواء كانوا من المغاربة أو من العرب. ولم يعترض الملك على أي سؤال، على الرغم من أن عددا من الأسئلة كانت حول الوضع الداخلي للبلاد وملامح التشكيلة الحكومية التي كان ينتظرها المغرب في ذلك الوقت (يناير 1985). في جميع اللقاءات والندوات الصحافية التي كان يعقدها الملك الحسن الثاني لم يكن أحد يجرؤ على استفسار الصحافيين عن الأسئلة التي يمكن أن يطرحوها. وكما أسلفت، كان الحسن الثاني يعتقد بأنه «لا يوجد سؤال محرج، بل هناك إجابة محرجة»، ثم إن الملك الحسن الثاني لم يكن يحرجه أي سؤال، بل كثيرا ما أحرج هو الصحافيين الذين يطرحون عليه أسئلة محرجة. ما زلت أتذكر أنه بمناسبة احتفالات «عيد الشباب» كانت جرت العادة في المغرب أن يعقد الملك الحسن الثاني مؤتمراً صحافياً، فسأله صحافي سنغالي قائلاً: «على الرغم من مظاهر الفقر في المغرب لاحظنا أن هناك إنفاقا كبيراً وبذخاً في الاحتفالات التي حضرناها. كم يا ترى كلفت هذه الاحتفالات؟»، وكان جواب الملك عنه «وهل طلب منك أن تؤدي فاتورة ما تناولته من أطعمة حتى تسأل عن التكلفة؟». كيف كان ينظر الراحل الحسن الثاني إلى صحيفة «الشرق الأوسط»؟ - كان إعجابه واضحا بالصحيفة. كان ذلك الحوار يهدف في العمق للرد على الحملة ضد طبع الصحيفة في المغرب، وهي الحملة التي بلغت ذروتها عندما احتجبت صحف الأحزاب عن الصدور احتجاجاً على طبع «الشرق الأوسط» في المغرب. هذا ليس استنتاجاً وقراءة منحازة لوقائع تاريخية، بل هي الحقيقة، ودليلي على ذلك أن الملك الحسن الثاني اعتاد أن يتحدث إلى صحف ومجلات وقنوات تلفزية من جميع أنحاء العالم، لكن لم يحدث على الإطلاق أن أشاد بصحيفة علنا وقبل أن يبدأ حواره معنا، حيث قال الملك بعد أن شكره عرفان نظام الدين معقبا «أنا سعيد جدا أن أخص «الشرق الأوسط» بحوار صحافي. هذه صحيفة مهنية وموضوعية ومعقولة، يجد فيها السياسي والاقتصادي والرياضي وحتى من يعمل في مجال الطب والعلم كل ما يبحث عنه»، وأضاف «ليس المهم هو النجاح، بل المهم أن تحافظوا على هذا النجاح». هذا الكلام سمعه جميع المغاربة، لأن الحوار بث بالكامل على شاشة التلفزة المغربية. هل وقعت بعض الطرائف في كواليس حواركم مع الراحل الحسن الثاني؟ - لا أقول طرائف، لكن عندما تكون أمام شخصية لها ثقل كبير مثل الحسن الثاني لابد أن تهتم كثيراً بالتفاصيل. سأقول شيئاً، تعلمت من خلال مشواري المهني، أنه عندما ألتقي شخصية كبيرة أو أغطي حدثاً مهما، عادة ما أجلس مع نفسي في المساء لأسجل أبرز الأحداث التي وقعت. من بين الأمور الطريفة التي أتذكرها أن الملك الحسن الثاني كان مدخنا، وكان يدخن حتى خلال ظهوره على شاشة التلفزيون. كنت لاحظت أن الملك عندما رشف رشفة من فنجان القهوة، سحب سيجارة من جيب سترته. ركزت نظري على يده التي كان يمسك بها السيجارة لأعرف ماركة السيجارة التي كان يدخنها، لكني لم أستطع أن أعرف تلك الماركة. هل طلب منكما الحسن الثاني مراجعة نص الحوار قبل نشره في الصحيفة؟ - لا أبداً. أتذكر عندما سألناه هذا السؤال أجاب بحزم «الحسن الثاني يستحيل أن يقول كلمة ثم يتراجع عنها فيما بعد». أتذكر أنه أعطى أوامره لمسؤولي وزارة الإعلام بألا يذيعوا هذا الحوار على شاشة التلفزيون إلا بعد أن ينشر أولا في «الشرق الأوسط». وفعلا هذا ما حصل بالضبط. الشيء الوحيد الذي طلبه، هو نشر الحوار على حلقتين. وأتذكر أنه قال: «هذا الحوار طويل ونشره مرة واحدة ربما يصيب القارئ بالملل. أقترح عليكم نشره على حلقتين». وهذا ما حدث بالضبط. وقد أتاح لنا الراحل الحسن الثاني أن نرافقه في جولة قصيرة داخل حدائق القصر الملكي في مراكش بعد نهاية الحوار، وهي حدائق لم أر لها مثيلاً. كان مطر خفيف يتهاطل خلال موسم جفاف، واستبشر الملك بذلك، وطلب تزويده بسلهام وراح يتمشى منتشياً تحت المطر المتهاطل. ماذا حدث بعد ذلك؟ - ونحن نتمشى معه في حدائق القصر الملكي في مراكش، التفت وقال: «نادوا على مولاي الصديق». لم أكن أعرف من هو «مولاي الصديق العلوي». جاء رجل طويل القامة يلبس جلبابا أبيض وسلم على الملك. لاحظت أن الحسن الثاني تعامل معه باحترام وخاطبه قائلاً: «مولاي الصديق هؤلاء السادة سيتعشون عندك». وبالفعل ذهبنا مساء إلى منزل مولاي الصديق في أحد أحياء مراكش، فقدم لنا مائدة مراكشية باذخة فيها كل أنواع الطهي المراكشي. ارتبطت بعد ذلك بعلاقة وطيدة مع مولاي الصديق، وعرفت بأنه كان من جلساء الحسن الثاني، وكان شخصاً له اطلاع واسع وكانت جلسته لا تمل، إذ أنه رجل يحفظ التراث والشعر والأدب وهو موسوعة أدبية، وأعتقد أن الملك الحسن الثاني اختار أن نتناول العشاء عنده لهذا السبب. هذه المسألة تبين إلى أي حد يكون الحسن الثاني مولعا بالتفاصيل، إذ المؤكد أنه شخصياً صاحب فكرة العشاء عند مولاي الصديق. بعد ذلك العشاء غادرنا مراكش في اليوم التالي. سافر عرفان نظام الدين إلى الدارالبيضاء ومنها إلى لندن، وعدت أنا إلى الرباط. كان الملك قد اقترح تخصيص طائرة لنا لتقلنا إلى الدارالبيضاء، ثم نقل عرفان نظام الدين إلى لندن، لكن عرفان شكره وأوضح له أن هناك وقتا كافياً ليعود إلى لندن. عدت أنا إلى الرباط، وانهمكت في تفريغ الأشرطة لحوار استغرق قرابة ساعتين. كان عملاً مضنيا لأنه كان أمامي 24 ساعة فقط، وكان الاتفاق ألا ننشر أي خبر حول اللقاء في الصحيفة، بل أن نعلن أنه سينشر في اليوم التالي. وفعلاً نشر الحوار في حلقتين. لكن راج أنك لم تكن راضيا عن الطريقة التي نشر بها هذا الحوار مع الملك. ما سبب ذلك؟ - نعم، لم أكن راضيا. أولا، نشرت خلاصة في الصفحة الأولى مع صورة تضم الملك وعرفان نظام الدين فقط وحذفت صورتي. صحيح أن الصورة نشرت كاملة في الصفحات الداخلية، لكن بدا لي ألا معنى من حذفها في الصفحة الأولى. ثم كتب رئيس التحرير «أني شاركت في إجراء الحوار»، ولم يكن ذلك صحيحاً، إذ كنت أنا الذي أعددت جميع الأسئلة وطرحت معظمها، لكني تحولت إلى مجرد «مشارك في الحوار». وأتذكر أن عرفان نظام الدين سألني عبر الهاتف عما إذا كنت راضيا عن الطريقة التي نشر بها الحوار، وكان جوابي «المهم أننا حصلنا على حوار استثنائي». وعندما لاحظ أني لم أكن راضيا، بل مستاء، قال إن المسألة بروتوكولية، لأن الأمر يتعلق بملك، وعلقت قائلاً، وفي ذهني أن عرفان نظام الدين مارس الصحافة أصلاً في بيروت قبل أن ينتقل إلى لندن، «كان ميشيل أبو جودة رئيس تحرير «النهار» اللبنانية يجري حوارات مع قادة الدول وعادة ما يرافقه محرر من «النهار»، وعندما ينشر الحوار كان يكتب اسم المحرر قبل اسمه». كيف كانت ردود الفعل في المغرب؟ - عندما بث الحوار على التلفزة، وكانت حوارات الملك الصحافية تبث خلال ساعات الذروة، مباشرة بعد نشرة الأخبار، حيث كانت نشرات الأخبار تستهل بملخص لأهم ما قاله الملك، ثم يذاع في النهاية النص الكامل، أتذكر جيدا كيف تحولت إلى محط اهتمام في اليوم الموالي لبث ذلك الحوار مع الملك على شاشة التلفزيون، خاصة عندما ظهرت في لقطة مثيرة على الشاشة أرتشف فيها رشفة من فنجان قهوة كان أمامي، وكيف أخذ اسمي يتردد وسط الناس، حتى أن بعضهم تساءل قائلا: «من هو هذا الصحافي الذي كان يشرب فنجان القهوة مع الحسن الثاني؟». وأقول بكل موضوعية إنني لم أعط الأمر الهالة التي كان يستحقها، إذ كنت صغير السن، أي في العشرينات في ذلك الوقت، وليس ناضجا سياسيا وفكريا بما فيه الكفاية، ولا أزعم أو أدعي بأني استوعبت ماذا تعني محاورة الحسن الثاني. وفوجئت عندما ذهبت إلى وكالة بنكية، كان لدي فيها حساب في شارع محمد الخامس بالرباط، لسحب مبلغ من المال، فنهضت موظفة في تلك الوكالة البنكية، من مكتبها واتجهت نحوي رفقة آخرين وتحلقوا حولي وهم غير مصدقين أني، فعلاً، الشخص الذي ظهر في التلفزيون «يشرب القهوة مع الحسن الثاني»، كما قال أحدهم . فوجئت كذلك وأنا أسير في الشارع أن بعض الناس ينظرون إلي نظرات غير معتادة، وكنت أسمع بين الفينة والأخرى اسمي يتردد على ألسنة بعض المارة، لأن الجلوس إلى الحسن الثاني في تلك الفترة لم يكن حدثاً عادياً حتى بالنسبة إلى كبار الشخصيات، فما بالك بصحافي مثلي، كان لا يزال في بداية مشواره المهني. ثم إن الناس لم يكن لديهم ما يشاهدونه في تلك الفترة في منتصف الثمانينات سوى التلفزة المغربية. كما أتذكر أن صديقة كانت زميلة دراسة، تعمل في تلك الوكالة البنكية، وتدعى مدام بن علي، قالت لي مندهشة: «ما حدث معك أمر غير عادي، إذ لم يسبق حتى لشخصيات وازنة أن شربوا قهوة مع الحسن الثاني على شاشة التلفزيون». كانت كل الحكاية تمت بالصدفة، لأن الملك عندما طالب، بإشارة من يده، المصورين باستئناف التصوير، لم أنتبه إلى ذلك ورحت أرشف القهوة. وكانت تلك لقطة استثنائية. لكن كيف سمحت أجهزة الرقابة بمرور هذه اللقطة التي تبدو فيها تشرب القهوة أمام الملك الحسن الثاني على شاشة التلفزة؟ - أنا بدوري طرحت على نفسي هذا السؤال، لكن عندما التقيت صديقا من التلفزيون، روى لي أنه كانت هناك فعلا محاولة لحذف تلك اللقطة من الحوار أثناء عملية المونتاج، لكن كان يصعب اتخاذ هذا القرار دون الرجوع إلى الحسن الثاني شخصياً لاستشارته في الأمر، فكان رد الملك، حسب ما رواه لي هذا الصديق، هو أن يبث الحوار بتلك اللقطة التي أبدو فيها أشرب القهوة لأني كنت ضيفه. هذا ما نسب إليه، ولست متيقنا من أن ذلك حدث بالفعل أم أن مسؤولي التلفزة تركوا الأمور كما صورت. وكم تأثرت بعد وفاة الحسن الثاني في صيف 99 عندما أعادت التلفزة المغربية بث بعض حواراته وخطاباته السابقة، وكان ضمنها هذا الحوار الذي خص به «الشرق الأوسط». تأثرت كثيراً وأنا أشاهد تلك اللقطة التي أظهر فيها أرشف القهوة في جلسة مع الملك الحسن الثاني، وكنت يومها شبه عاطل عن العمل، ولا أجد ما أقتات به. وعلى المستوى السياسي كيف كانت تداعيات الحوار؟ - كان ذلك الحوار بداية النهاية للحملة ضد «الشرق الأوسط». وقد انعكس الأمر أيضا على مبيعات الصحيفة، حيث ارتفعت ارتفاعاً كبيراً، ولم نعد نجد أي إشكال في الاتصال بأي مسؤول وأخذ تصريحات منه. كما أن كثيرين حرصوا أن تنقل الصحيفة تصريحاتهم، وراحت تصلنا دعوات لتغطية كل الأنشطة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. وعلى المستوى الشخصي؟ - تمت ترقيتي من مسؤول تحرير «الشرق الأوسط» ومدير مكتب المغرب إلى مسؤول التحرير بمنطقة المغرب العربي، وأصبحت عملياً مسؤولاً عن جميع مراسلي الصحيفة في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا. وبهذه الصفة، أصبحت أتجول في المنطقة. وهذه الصفة هي التي أتاحت لي تغطية جميع الأحداث المهمة في المغرب العربي، وهي التي جعلتني أتردد على منطقة كان العمل فيها شاقاً وصعباً، وأعني ليبيا، وأنا شديد الامتنان للصحيفة بأنها أتاحت لي التعرف على شخصية ظلت مثيرة للجدل، وأعني العقيد معمر القذافي. لم يكن ذلك أمراً سهلاً. وقد أثمرت تلك اللقاءات كتاباً صدر في العام الماضي بعنوان «الملك والعقيد». أقول بكل موضوعية إنه انطلاقا من هذه المسؤولية، أوليت اهتماماً بمنطقة كانت غير حاضرة إطلاقاً على خريطة التغطية الصحافية، وهي موريتانيا. وكانت «الشرق الأوسط» أول صحيفة على الإطلاق تعتمد مراسلاً دائماً في نواكشوط. ثم إن المهمة لم تقف عند ذلك الحد، بل عينت في عام 1988 مسؤولاً للتحرير عن القارة الإفريقية. وبهذه الصفة استطعت أن أجري حوارات مع عدد من القادة الأفارقة، من الرئيس سياد بري في الصومال على الساحل الشرقي للقارة إلى الرئيس جوزيف مومو في سيراليون على الساحل. كما توليت تغطية الكثير من النزاعات والحروب في القارة الإفريقية.