يبدو أننا أمام مشهد سياسي يراوح مكانه، نفس الوجوه دأبت على لعب نفس الأدوار، الشيء الجديد أنه قبل عقد من الزمن كانت الصورة واضحة، نخب خلقت لتكون موالية وأخرى تحددت وظيفتها في ممارسة المعارضة، لم يكن السؤال مهما: ماذا تعارض ومن تعارض؟ المهم هو أنها تعارض، ولم يكن السؤال مهما بالنسبة إلى النخب الموالية: من توالي وضد من؟ لقد تجنبت النخبتان الدخول في التفاصيل ما دام الشيطان يكمن فيها، وخلف عدم الخوض في التفاصيل ضاعت أشياء كثيرة وتكرست ثقافة القبول بأنصاف الحلول وأصبحت الحدود الفاصلة بين النخبة الموالية والنخبة المعارضة غير واضحة المعالم. لنبدأ من البداية ونطرح السؤال: هل يمكن تسمية هؤلاء الذين اعتدنا على وصفهم بالفاعلين السياسيين نخبة سياسية؟ فمن المعلوم أن النخبة السياسية هي نتاج الدولة الحديثة، أولا، ونتاج الديمقراطية التمثيلية، ثانيا. لقد ساهمت الاستحقاقات الانتخابية، إلى حد كبير، في تشكل النخب السياسية التي احترفت تدبير الشأن العام انطلاقا من تفويض شعبي معبر عنه من خلال صناديق الاقتراع. لا داعي إلى التذكير بأن تشكل ما نسميه بالنخبة السياسية في المغرب كان بعيدا عن هذا المسار. لقد تشكلت هذه النخبة في سياق صراع من أجل الحفاظ على توازنات نسق سياسي يقاوم باستمرار عملية الذهاب بعيدا في استبطان منطق الحداثة، تارة باسم مراعاة التدرج وتارة أخرى باسم احترام الخصوصية. منذ وصول محمد السادس إلى الحكم، كان لافتا للاهتمام إصراره، في كثير من خطبه، على الدعوة إلى تأهيل الحقل السياسي وإصلاح الأحزاب السياسية. فهذه الدعوة تتضمن بكل تأكيد نقدا صريحا أو مبطنا لما نسميه بالنخبة السياسية. ومن حقنا أن نتساءل عن الخلفيات التي حكمت هذه الدعوة. تتميز الديمقراطيات الغربية بدوران النخب، فهذا الدوران هو الذي يسمح بضخ دماء جديدة في شرايين الأنظمة السياسية، وذلك ليس من خلال تجديد الأشخاص فقط بل وتجديد الأفكار كذلك. لا جدال في كون الحديث عن دوران النخب في المغرب يبدو أمرا غير مستساغ وغير واقعي، القيادات الحزبية، على قلتها، التي تخلت عن مواقع القيادة اضطرت إلى ذلك، فتلك القيادات لا تؤمن بالتناوب ولا تؤمن باختيارات قواعدها الحزبية.. إنها تؤسس أحقيتها في القيادة على ماضيها النضالي أو على تمتعها بالثقة المخزنية، فأي دوران للنخب يمكن الحديث عنه ونحن نستمع إلى الأمين العام للحركة الشعبية، بعد قضائه أكثر من ربع قرن على رأسها، وهو يقول إنه في ولايته الجديدة سيجعل من أولوياته إعداد خلف له...!! أليس مثيرا للانتباه هذا الالتفاف على دوران النخب من خلال عدوى تأسيس مجالس للرئاسة من قبل بعض الأحزاب السياسية التي غيرت قياداتها، بل عفوا نقلتها من مكان إلى مكان آخر. تاريخيا، نتفهم دواعي إقدام حزب الاستقلال على إحداث هذا المجلس، خاصة عندما توفي علال الفاسي سنة 1974، ولكن ما هي دواعيه بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية والحركة الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية؟ لم يكتف الملك محمد السادس بالدعوة إلى تأهيل الحقل السياسي وإصلاح الأحزاب السياسية، بل شدد على ضرورة إعادة الاعتبار إلى العمل السياسي بمفهومه النبيل. ولعل هذا التشديد يفيد بأن النخبة التي تسمى، تجاوزا، سياسية لديها تمثل غير سياسي للسياسة، فالسياسة لم تعد تعني المشاركة في تدبير «شؤون المدينة» بالمفهوم اليوناني، بل أصبحت تعني القدرة على «المناورة» و«المساومة» كما أصبحت تعني القدرة على تبرير الشيء ونقيضه في نفس الوقت، لقد أصبحت السياسة في ثقافة تلك النخبة تفيد البحث عن «الغنيمة». كيف تمت أجرأة هذا المفهوم غير السياسي للسياسة؟ نميز هنا بين مستويين، يتعلق المستوى الأول باختيارات النظام السياسي في عهد الملك الحسن الثاني على صعيد سياسته الحزبية، فالسماح لشخص بتأسيس حزب سياسي كان محكوما بمنطق «اقتصاد الريع»، لقد اكتشفت النخبة المغربية حجم المنافع المادية التي يمكن أن تحصل عليها جراء انخراطها في العمل السياسي، بل وأدركت في العهد السابق أن أقرب طريق إلى «دار المخزن» هو الذهاب بعيدا في المزايدة على اختيارات النظام السياسي القائم. ويبدو أن النخبة المعارضة سابقا لم تواجه النخبة الموالية لاعتبارات تتعلق بالاختيارات السياسية بقدر ما كانت متعلقة بالمواقع السياسية. وهذه الحقيقة أدركها مبكرا «أحمد رضا اكديرة» الذي كان وراء تأسيس «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» سنة 1963 عندما أكد أن النخبة المعارضة تريد السكن في منزل بَنَتْه النخبة الموالية. يرتبط المستوى الثاني بتحويل القيادات الحزبية لأحزابها السياسية إلى جماعات ضغط أو مجموعات مصالح، لم يعد الحزب السياسي تجمعا من أجل الدفاع عن مشروع سياسي، بل أصبح أداة للحصول على امتيازات مادية ووسيلة لتحسين الوضع الاجتماعي. في الوضع السليم، عندما يخير المسؤول الأول لحزب سياسي بين البقاء على رأس الحزب أو الاحتفاظ بمنصبه الوزاري، أكيد أنه سيفضل البقاء على رأس الحزب، غير أنه في المغرب يحدث العكس. لم تعد الأحزاب السياسية، إذن، تنظيمات للدفاع عن المطالب الشعبية وإنما تحولت إلى جماعات ضغط تعبئ كل طاقاتها من أجل إيصال قياداتها ورموزها إلى المناصب الوزارية ورئاسة البعثات الدبلوماسية وإدارة كبرى مؤسسات الدولة. استراتيجية الغنيمة التي تتبناها النخبة السياسية هي التي تفسر العديد من السلوكات المنتهجة من قبلها، فهي التي تعطي معنى لاحتكار بعض العائلات جملة من الوظائف والمهام، ما ظهر منها وما بطن، وهي التي تشرح أو تفضح ذلك الاستهتار في التعاطي مع المال العام عندما يتحمل قياديون، من أحزاب سياسية لا تتقن إلا إعطاء الدروس في تخليق الحياة العامة، مسؤولية تسيير بعض المؤسسات العمومية. وعندما يفتضح أمرهم، لا يفضلون مواجهة الحقيقة بل يختبئون وراء ماضيهم النضالي...! وكم هي مفجعة تلك الحقائق التي تكشفها تقارير المجلس الأعلى للحسابات ومفتشيات وزارتي المالية والداخلية. إن تحول الأحزاب السياسية إلى جماعات ضغط أو مجموعات مصالح هي التي تفسر أسباب ابتعاد هذه الأحزاب عن الاقتراب من دائرة (الفلسفة السياسية) لنظام الحكم القائم بالمغرب، وكم هي كبيرة تلك المفارقة عندما تتحدث بعض الأحزاب عن ضرورة مباشرة الإصلاحات الدستورية وتؤكد أنها لا تقصد بمطلبها المساس بصلاحيات الملك بل تريد إضافة بعض الصلاحيات إلى الوزير الأول، وأهمها السماح له بالتعيين في الوظائف الكبرى..!! إنه البحث عن «الغنيمة» مرة أخرى. إنها لمفارقة كبرى بعد مرور أكثر من عقد من الزمن في ظل تبني إيديولوجيا الانتقال الديمقراطي أن يتحدث الجميع عن سيطرة «الأعيان» على الشأن الانتخابي، فمفهوم «الأعيان» هو في حد ذاته نفي لمفهوم النخبة السياسية.