طرحنا على مهتمين بالشأن التعليمي أسئلة تتناول دور المدارس العتيقة أو القرآنية، في التربية على المبادئ الأولى للتعلم الأبجدي، أسئلة حول ما إذا كان هذا النسق التعليمي ما قبل الأولي، مازال يحتفظ بمقوماته، أو بدأت ملامحه تنجلي مع توالي السنوات.التعليم العتيق جزء لا يتجزأ من منظومة التربية والتكوين كانت أجوبة العديد ممن استقت "المغربية" آراءهم تسير نحو اعتبار هذا الموروث الثقافي والتربوي، الذي انجلى ولم يعد له أي تأثير في حياة الناشئة، وأبرز بهذا الخصوص عبد الحفيظ المرابط، باحث في علوم التربية، أن المدارس القرآنية كانت في سنوات مضت "أساسية وضرورية في حياة المتعلم، فهي السبيل الوحيد لإعداد الطفل إلى ما بعد المدرسة"، ففي هذه المدارس البسيطة، التي تعتمد على تعليم القرآن كأولوية، يقول المرابط، "كان الطفل يكتسب خاصية الإدراك والانتباه والحفظ، عبر طريقة بسيطة تعتمد على الترديد والتكرار لما يمليه فقيه المسيد". وبعد أن يتعود المتعلم على التخزين العقلي والحفظ، يقول الأستاذ الباحث "ينتقل إلى مرحلة تعليم الأبجديات الأولى للغة العربية، عبر طريقة لا تختلف عن سابقتها، ثم تأتي مرحلة الكتابة، وهكذا يكون المتعلم في سن طفولي دخل حومة التعلم، وأصبح جاهزا لخوض غمار مراحل التعليم الأولي، ثم الابتدائي، فالإعدادي، والثانوي فالجامعي"، ويكون التلميذ حسب المتحدث نفسه، "جاهزا للتفوق والأخذ السلس لكل المعارف". لكن هذا التوجه لم يعد قائما حاليا حسب سعيد رزوقي، متفقد الكتاتيب القرآنية، باعتبار أن هذه المدارس العتيقة "لم يعد لها وجود في فضاءاتنا السكانية، رغم أن طريقة اشتغالها وسيرها ينتمي إلى صميم الثقافة الوطنية، وهي موروث ينتمي إلى الذوات المغربية، وعوض هذا المستتر حاليا، روض أطفال ومدارس ما قبل التعليم الأولي، لا تحمل الخصوصيات الماضية نفسها التي كانت تميز المسيد". وأبرز رزوقي، الذي تقاعد نهاية السنة التي ودعناها أخيرا، أن هذه الروض "تتجه نحو تربية الطفل على أبجديات غربية بمنط عيش حديث، ويبقى الغائب الأكبر فيها هو تعليم القرآن الكريم وفق النمط القديم، إلى درجة أن الكثير من الأطفال يجدون صعوبة في السنوات التعليمية الموالية في حفظ القرآن، واستنباط كنهه، بالنظر إلى تعدد المقررات وتنوعها"، مضيفا أن هناك الكثير من المدارس الخاصة "تضع هذه المادة الدينية في خانة الاستثناء". من جانبها، اعتبرت نجاة الساخي، ناشطة حقوقية، مهتمة بقضايا الطفولة، أن إهمال الجهات الوصية على الشأن التعليمي للمدارس القرآنية، وعدم ترسيخها كموروث هوياتي وثقافي ومعرفي في مجتمعنا، "جعل قلة من الناشئة تفقد أنزيم الروح الهوياتية وترمى في أحضان مناهج تعليمية دون بوصلة"، في إشارة إلى برامج بعض المدارس الخاصة، التي تعتمد، حسب المتحدثة، على "مقررات أجنبية، تتناول مواضيع لا تمت بصلة لمجتمعنا، كأن تسوق نماذج من عادات غربية، أو تتناول حضارة مجتمع ليس بمجتمعنا". وأبرز سعيد الفارسي، رجل تعليم، أن هناك "خصوصيات محلية يجب أن تكون الأساس الذي يبني عليه التلميذ مساره التعليمي، باعتباره ابن بيئته، سواء من الناحية العقائدية أو التاريخية أو العادات والتقاليد، فعندما يكون التلميذ متشبعا بهذا الغذاء الروحي والفكري، يكون على استعداد لخوض مساره التعليمي دون أدنى نقص أو تردد". ويعتبر الفارسي التعليم العتيق، الذي ركز فيه بالأساس على الكتاتيب والمدارس القرآنية، "شحنة أولية كي ينتمي التلميذ لمجتمعه ويشعر بخصوصياته ". الشيء نفسه بالنسبة لفحوى المقررات الدراسية، التي يرى المصدر ذاته، أنها من اللازم أن "تتناول وتركز على كل ما ينتمي للموروث المحلي، حتى نساهم في ترسيخ مبادئ الوطنية الصادقة في نفوس أبناء الغد، ونجعلهم مواطنين من درجة خاصة". وفي السياق ذاته، أكد محمد بركاوي، إطار تربوي، على أن الإعداد القويم للناشئة "يبتدئ من التعليم ما قبل الأولي، الذي هو المفتاح الذي يمكن أن يوصلنا إلى إغناء مدارك التلميذ، ومن ثمة فالاهتمام بهذه الكتاتيب والمدارس العتيقة، وإعادة تفعيل أدوارها وتكوين مربيها، لمن شأنه أن يعيد الاعتبار لهذا الموروث الثقافي كي يؤدي مهامه بكل قوة وفاعلية". وما من شك أن البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم، يقول المصدر ذاته "يعتمد من ضمن مرتكزاته على البناء القويم لفهم وسلوك التلميذ لإعداده كي ينخرط بكل تلقائية وبفعالية في سيرورة التعلم"، مؤكدا أن انتماء هذه المدارس للماضي، "لا يعني قدمها وانتهاء عمرها الافتراضي، إنما حمولتها وأدوارها أصيلة ومتأصلة تتطلب فقط أن نساهم في عصرنتها وتفعيل أدائها من أجل أن تكون النواة الأساسية لبناء مجتمع الغد". إن المسألة التعليمية كل لا يتجزأ ابتداء من الكتاب فالروض ومؤسسات التعليم الأولي والابتدائية وما يليها، إلى أن يصل التلميذ إلى المستوى العالي، فأي إخلال بهذا التسلسل الهيكلي، سيضر بالعملية التعليمية ويجعلها غير مكتملة وتفقد المناعة اللازمة لخوض ما يواجهها من تحديات، ومن هنا فالاعتناء بالكتاتيب القرآنية والمدارس العتيقة يبقى شأنا حساسا، يجب أن تخصص له الوزارة الوصية آليات ووسائل لمراقبته ومواكبة تطوره باعتباره الحقل الذي يزرع البذور الأولى للتمدرس.