عوامل الأزمة ومظاهرها ومما زاد في تعميق هذا الخلل وأزم الوضع بشكل لافت ما عرفته كثير من مراكز التكوين في بنيتها الإدارية في ظل تشريع تحكمت فيه اعتبارات غير علمية ولا موضوعية، إذ علاوة على حذف كثير من المهام المطردة بها، مثل مهمة الحارس العام والمعيدين، ومهمة مدير الدروس في الكثير منها، فإن نزعة الإقصاء في إسناد مهمة المدير تبدو واضحة، لأن خبرة هيئة التدريس مهما بلغت لا تؤهلهم لشغل المهمة، وأقصى ما يمكنهم إدراكه هو التكلف والقيام بالأعمال عند الضرورة، ووقت الحاجة، وهكذا فالمؤهل وحده هو من يملك إطار مفتش، بغض النظر عن علاقته بالمركز وخبرته بشئونه. الأساتذة إذن محكوم عليهم بالخضوع للتجارب التوجيهية ، كلما أسندت مهمة الإدارة لإطار جديد محكوم عليه بالجمع بين مهمة التدبير اليومي للموارد البشرية، والشئون التربوية والإدارية بما تتطلبه من وعي وثقافة تربويين عميقين ومتخصصين في ذات الوقت ، ثقافة تخول لصاحبها المعرفة بجديد التربية أولا من خلال الاطلاع على مستجدات البحث فيها ، والمعرفة بحاجات المجتمع ثانيا ، وما يمكن لمراكز التكوين أن تقوم به من دور في تحقيق التنمية البشرية ، عبر إعداد أطر كفأة ، قادرة على المساهمة في وضع اللبنات الصلبة لمجتمع الغد ، والمعرفة ثالثا بمقتضيات التواصل التربوي والاجتماعي والمهني ، فضلا عن الخبرة الميدانية التي لا يكفلها إلا الإيمان العميق بالرسالة وشروط النجاح فيها . ولعل المتأمل في المشهد التعليمي في بلادنا يدرك في غير ما جهد أن غياب هذه الشروط والمواصفات تقف كعامل حاسم وراء صعوبة النجاح في التدبير الإداري والتربوي . إن وضع مراكز تكوين مدرسي التعليم الابتدائي ، خاصة في مجال التكوين والتأطير معقد ومختل للغاية ، إذ يشمل تركيبة هجينة تشمل أدنى سلم تعليمي وأعلاه ، لكن في وضع تأطيري واحد ، خلافا لمؤسسات التكوين التابعة للتعليم العالي وغيره ، وهو وضع لو تم استثماره إيجابيا لخلق بنية تكوينية جيدة ، لا سيما وقد أبدى الكثير من الوافدين عليها من حملة الإجازة وغيرهم رغبة في تعميق تكوينهم وإعداد أطروحات جامعية من شأنها تسليط الأضواء على ظواهر وحالات خبروها في الميدان ، ومن شأن البحث فيها أن يهيئ الفرصة لصياغة تصور تربوي أكثر نضجا وفاعلية . أما حاملو الدكتوراه ، وهم عدد مهم بالمراكز ، فإن انسداد آفاق البحث الموجودة أمامهم ، وانعدام فرصه وفرص التشجيع يجعلهم أبعد عن المساهمة الفعلية في تطوير البحث الأكاديمي وتنمية البحث التربوي ، مع ما يستشعرونه من غبن في إدارة شئونهم قياسا إلى نظرائهم من العاملين في التعليم العالي . وخلافا لما كان يتطلع إليه العاملون بالمراكز من فتح آفاق البحث أمامهم لتوظيف خبراتهم التربوية ، فإن ما عرفته المراكز من هدر على مستوى تدبير الموارد البشرية ، سواء بعد فتح الباب على مصراعيه للمغادرة الطوعية بحسابات مادية صرفة ، أو من خلال إجراء إعادة الانتشار في حق الكثير من الأطر، أثر بشكل بين على التكوين برمته وبرز على مستوى المردودية . يمكن تلمس ذلك بوضوح من خلال الوقوف على طبيعة المستفيدين من المغادرة ، وضعياتهم الإدارية ، تجاربهم وخبراتهم ، مستوياتهم العلمية ، قياسا إلى الكتلة المتبقية ، مثلما أثر على مردودية الملتحقين بالتعليم الثانوي والإعدادي بسبب التغيرات المتعددة التي عرفتها البرامج التعليمية في السلكين معا والتي لم يواكبها العاملون بالمراكز ، وهو ما يستدعي إعادة تكوين لهم مثلما هو مألوف في الأنظمة التربوية التي تحترم نفسها وأطرها . ويبقى الشكل الحالي لنظام التكوين والذي لا زال قيد التجريب بالرغم من انصرام سنتين عليه لن سيظل مهما بلغ عاجزا تجاوز سلبيات سابقه ، إن لم نقل متخلفا عنه وناقصا ، سواء من خلال برنامجه الذي لم يناقش بشكل معمق ، ولم تساهم فيه كل فعاليات التكوين بل تحكمت فيه اعتبارات وحسابات غير علمية وغير تربوية، فجاء بعيدا عن تطلعات الكثير منها ، غير مستجيب لحاجاتها وإمكانياتها ، ولا للظروف الداخلية والمحيطة بالبلاد، ولم يبن على تقويم لسابقه ، بل إن ما اعتمد فيه من أسس طبع بطابع الهجنة والميوعة من الناحية البيداغوجية ، فقد اعتمد صانعوه بيداغوجيا تعليم الكبار في تحديد حصص التكوين وأزمنته ، متناسين أن الأمر يتعلق بمتكونين لهم معارف ومعلومات وقادرين على التعلم الذاتي، وهو أمر مفارق كما يظهر من خلال اعتماد البحث التربوي الذي يحمل تسميات تعكس نوعا من الاضطراب الاصطلاحي وتنعكس على الإنجاز ، حيث يراه البعض مجرد تقرير عن مشكلة تربوية ، ويراه آخرون مشروعا شخصيا يبرز من خلاله الطالب مؤهلاته وإمكانياته ، في حين يذهب البعض الآخر إلى أنه ينبغي أن يحمل مواصفات البحث التربوي بما هو نشاط أكاديمي يتوقف النهوض به على قدرة على التأطير والتوجيه والمتابعة ، وتلك أمور تستدعي إعادة النظر كليا في المراكز لتكون مؤسسات لإنتاج المعرفة البيداغوجية وحسن تصريفها اعتمادا على مؤهلات ضرورية لا يتسع المقام لسردها . وإذا كان هذا الوضع قد خلف استياء ملحوظا لدى ما تبقى من الأطر ، فإنه خلق وضعا إشكاليا في بنية التكوين ، يتمثل في صعوبة استقدام أطر بديلة ، فضلا عن صعوبة تأهيلها للقيام بمهمة التكوين ، كما يتمثل في صعوبة النهوض بالتكوين في كثير من المراكز في ظل المستجدات التي عرفتها بنية الاستقبال ، وقد بدا أثر ذلك في اضطراب مباراة الدخول إلى المراكز ، خاصة على مستوى المقابلة الشفوية ، وتشكيل لجنها ، والمحاور التي استهدفتها لتقييم خلفية الممتحنين المعرفية وغيرها ، خاصة وأن شهاداتهم الجامعية متباينة التخصص ، بل إن تخصصات بعضهم تكشف في جوهرها عن عمق الهدر ، إذ ما الذي سيستفيده مجاز في الحقوق أو الاقتصاد أو اللغة الألمانية أو الإسبانية ... مما تعلمه سابقا ، وأي مجال أمامه لاستثمار مؤهلاته . لعل شعور المعنيين منهم يكشف بجلاء عن الاستخفاف الذي يواجههم وهم يسألون في مجال معرفي يجهلونه أو ما يملكون من معرفة به بعد العهد بينهم وبينها . أما البنية التحتية لمراكز تكوين أساتذة التعليم الابتدائي فلا تقل تعقيدا عما سبق ، إذ على الرغم من هشاشتها ، وعجزها عن الاستجابة لمتطلبات التكوين في صيغته الحديثة ، فإن ذلك لم يثن بعض الجهات عن تحويل المراكز عن غاياتها الأصلية ، متجاهلة الأدوار الطلائعية التي قامت بها حين أعدت أجيالا مهمة من أطر المغرب ، هكذا اتخذ مركز الرباط التاريخي مقرا للأكاديمية وقزمت مراكز أخرى مثل القنيطرة وأكادير أو حذفت من خريطة التكوين نهائيا ، حيث يبدو للمتأمل في المشهد التكويني بالمغرب وكأن هذه المؤسسات استنفدت مهماتها ، في الوقت الذي ظلت فيه كثير من المراكز تشكو العجز والضيق ، وظل العمل بها في وضع بئيس : لا قاعة للمطالعة ، ولا للاجتماعات ، لا أندية ، ولامختبرات ، لا قاعات للعروض ، ولا للوسائل السمعية البصرية لا مكاتب ، لا ساحات للرياضة ... وأما ماظلت تحتوي عليه بعض مراكز التكوين من تجهيزات أنفقت عليه الدولة من المال العام الشيء الكثير ، فقد أصبح بفعل الزمن والاستعمال معرضا للتلاشي والضياع ، حيث لم تتوفر لبعضه فرص الاشتغال إطلاقا والبعض الآخر منه خضع للاستعمال الشخصي ، ضد على مصلحة البلاد والعباد ، وفي غيبة من المراقبة والمحاسبة . والأمثلة على ذلك كثيرة ، من خلال ما عرفته كثير من المؤسسات من تجهيز بالعتاد المعلوماتي الذي كان يبشر بانخراط قادم في مجتمع المعرفة والإعلام ، لكن ذلك لم يحصل مع الأسف ، نتيجة نزعة المحافظة التي كبلت العديد من المسؤولين ، وفوتت على المراكز فرص النهوض والتقدم . سؤال الأفق إن الوضع الذي عاشته مراكز تكوين أساتذة التعليم الابتدائي في الخمس سنوات الماضية ، والذي لا زالت ملامحه تلوح في الأفق ، يستدعي من كل غيور على التعليم ببلادنا ، خاصة من الذين هم في مستوى صناعة القرار ، أن يبادروا بإجراءات استعجالية من شأنها تدارك الوضع القائم،باختلاف سلبياته، واضعين في اعتبارهم أن مصير الأمة يحسب بأقل من الثواني وليس السنوات، وأن ضياعا سنة تكوينية، أو نقصا أو خللا فيها ، لا يمكن تدارك وطأته بسهولة ، ما دام الأمر يتعلق بتكوين أطر سيلعبون دورا مركزيا في صناعة المستقبل . إن الإجراءات الكفيلة بتجاوز واقع المراكز لا يمكن أن تستقيم إلا بإشراك الفاعلين المباشرين والاستماع إلى رؤاهم ومقترحاتهم ، مهما صغرت ، فتجاربهم على اختلاف مستويات عمقها كفيلة برصد حاجات التكوين وضروراته ، بعد قراءة نقدية للتجارب السابقة واستحضار النقط المضيئة فيها، مع الاستفادة من تجارب الأمم التي تفاعل النظام التربوي المغربي معها ولا زال ، وإن المسؤولية التاريخية والوطنية يقتضيان محاسبة موضوعية للوقوف على الخلل ومكامن الداء ، ذلك أن مجال التربية والتكوين لا يقبل بغير معايير التجديد والتأهيل والفعالية والنجاعة .. إن توحيد مراكز التكوين مسألة ضرورية وملحة ، وإن انفتاح الجامعة على المراكز ومتطلباتها التكوينية لا تقل عن ذلك أهمية ، لكن الحسابات الضيقة في النظر إلى الأطر وتصنيفها ، أو إحداث المسالك وتدبيرها ، أو تحديد مدة التكوين وشكله ، كل ذلك يقتضي نظرة هيكلية من شأن العاملين بالمراكز بخبراتهم الميدانية ومعرفتهم عن قرب بمواصفات تلميذ الغد الذي نريد ، ومن خلال ذلك بمواصفات الأستاذ ، أن يساهموا بإيجابية في تدبير عملية التكوين ، فهل يملك صناع القرار في هذا المجال كل الجرأة لإشراكهم ، سؤال يظل وحده المؤشر على حسن النية في إصلاح مؤسسات التكوين باختلاف المستويات المستهدفة منها .