وعلى صعيد أكثر حصرا، أتذكر مثلا أننا في مجموعتنا «رفاق الشهداء» ، طرح علينا آنذاك الاختيار ما بين إصدار جريدة سياسية تتابع الدفاع عن أطروحة المؤتمر الثالث، أو إصدار مجلة نظرية تهتم أولا بفهم المجتمع المغربي وبالتأطير الإيديولوجي قبل التفكير في التعبئة السياسية. وكان ذاك من أسباب تشتت تلك المجموعة. وحسب ما حكاه لي أيضا المناضل محمد عياد، عن مجموعته المعروفة سابقا في القطاع الطلابي الاتحادي، تحت اسم «المانونيين»، كان هذا الإشكال نفسه هو نقطة الخلاف الرئيسية بينهم وبين القيادة الحزبية. ومثل هذا النقاش أعتقد أنه تكرر آنذاك بين مناضلي 23 مارس، حيث كان للبعض منهم الفضل في تطوير مقولة «دمقرطة الدولة دمقرطة المجتمع»، وأيضا داخل أوساط الطلبة القاعديين، في تجربة مجموعة «المبادرة الجماهيرية» أو مجموعة «الكراس» .. ألخ. ومما قرأته آنذاك حول هذه الإشكالية ما كتبه مهدي عامل في كتابه «مقدمات نظرية»، حول مفهومي الإنتباذ والإنجذاب، حيث يشرح كيف تعمل الطبقة المسيطرة على إزاحة الصراع الطبقي أو إبعاده من المجال السياسي إلى المجال الاقتصادي أو الإيديولوجي، وكيف أن دور الحزب الثوري للطبقة العاملة هو أن يقوم بإرجاع أو جذب هذا الصراع إلى الحقل السياسي. غير أن ما لم توضحه أطروحة مهدي عامل هاته، التي بقيت وفية للمدرسة الماركسية البنيوية التي ينحدر منها، هو ما هي الشروط الموضوعية الكفيلة بنبذ أو جذب الصراع الطبقي نحو مجال السياسة، وتركت ذلك رهينا لتقدير وإرادة الحزب الثوري. إن الوجه الثالث من التعقيد الذي غاب عن هذه الأطروحة وربما عن باقي طرق المعالجة القديمة، هو التفاوت الحاصل بين أزمنة كل حقل من حقول الصراع الاجتماعي. فالزمن السياسي لا يكون مطابقا بالضرورة مع الزمن الإيديولوجي، وهذا الأخير غير مطابق بدوره مع الزمن الاجتماعي. وأن تتطابق هذه الأزمنة كلها في لحظة واحدة، أو ما يسمى في الأدبيات الماركسية باللحظة الثورية، فذلك نادر الوقوع، وهو لا يخضع بالضرورة للإرادات الذاتية. هذا ناهيك أن مثل هذه اللحظة، وإن كان ممكنا في المراحل الرأسمالية السابقة، أن تتحقق في إطار البلد الواحد، بالنظر إلى الاستقلالية النسبية التي كان لا يزال يتمتع بها كل بلد، فإنه في ظل مستوى التطور الحالي للعولمة، أصبح غير ممكن، ومن لا زال يتوهم أنه يمكن تحقيق الثورة أو نظام اشتراكي في دولة واحدة، فكأنه لا زال يعيش في عصر آخر غير عصرنا. وهذا ما حاولت توضيحه أيضا في مقالي أعلاه، من خلال مقاربتي للنظرية العامة للأنظمة المعقدة. إن الزمن السياسي مثلا قد يمتد على مدى دورة أو دورتين انتخابيتين، ونحن في المغرب نتكلم الآن عن مرحلة سياسية ابتدأت في أواسط التسعينات أو بداية العقد اللاحق، بحسب تقدير كل طرف، وأنها انتهت مع انتخابات شتنبر الماضية. بينما قد يقدر الزمن الإيديولوجي على مدى حياة جيل بكامله، أي بين لحظة دخول جيل جديد تحت هيمنة إيديولوجية جديدة، ولحظة تراجع هذه الأخيرة لصالح هيمنة أخرى بديلة. وفي حالة المغرب، قد نتكلم مثلا عن الزمن الإيديولوجي اليساري الذي بدأ منذ أواخر الستينات واستمر إلى حدود نهاية الثمانيات، أو ما عرف بجيل السبعينات، والذي استبدل بزمن إيديولجي آخر هيمن فيه الإسلاميون، هو الآن يقترب من نهايته، وهناك الآن زمن آخر في طور النشأة لم يكشف بعد عن كل معالمه. وهذا التمرحل يمكن أيضا ملاحظته على مستوى المجال الاجتماعي، حيث يمكن ربط أزمنته بالدورات الاقتصادية التي تمر منها البلاد بين الفينة والأخرى. وبهذا، قد تقاس نجاعة أي فاعل سياسي، بمدى قدرته على التقاط لحظات التحول في زمن كل واحد من أزمنة المجالات المكونة للفعل الاجتماعي، ومن تم اتخاذ القرارات المناسبة لذلك. فأن تنحاز بعض أطراف اليسار مثلا، لقرارات سياسية أكثر راديكالية في أواسط التسعينات، في ظل هيمنة إيديولوجية أصولية متصاعدة، لم يكن ليؤدي آنذاك إلا لرهن الحركية الاجتماعية والرصيد النضالي لليسار في يد هذا الطرف الأخير. وهذا ما كادت توصلنا إليه أطروحة الكتلة التاريخية في وقته. في المقابل، فنحن حين ندعو الآن إلى مواقف أكثر راديكالية على المستوى السياسي، فلأن الهيمنة الإيديولوجية الأصولية هي في طريق التراجع، وأن الذي أصبح يزاحم اليسار في دفاعه عن قيم الحداثة والانفتاح ويستقطب المثقفين والفنانين هو القصر، أو بعض من مكوناته، لكن بعد إفراغ هذه القيم من محتواها الديمقراطي السياسي الحقيقي، أو القيام بعملية انتباذية بلغة مهدي عامل. ونحن نعتقد أن الخطأ الذي كان قد سقط فيه دعاة الكتلة التاريخية في التسعينات، هو نفسه الذي يتكرر الآن، لكن بشكل معكوس، مع دعاة «الكتلة الحداثية» أو من قد يتجسدون مثلا في دعاة التقارب مع حركة علي الهمة. فأن يبرر بعض المناضلين، كما نستشف ذلك مثلا من كتابات رفيقنا الحبيب الطالب، مثل هذا التقارب، بأن النظام هو الآن يقوم بثورة تحديثية في البلاد، كما الشأن مع مدونة الأسرة، وما علينا إلا أن نسانده أو نهادنه، فذلك نوع آخر من التبسيطية واختزال مهمة اليسار في التحديث الإيديولوجي فقط، في وقت نحن أحوج فيه إلى إقرار ديمقراطية سياسية حقيقية في البلاد. بل أن حتى مطلب التحديث الإيديولوجي الذي هو أحد مكونات الهوية اليسارية، إذا ما تزعمته أطراف أخرى لا تحظى بالتعاطف الشعبي اللازم، قد تخلق حالة نفور من القيم التي يبشر بها هذا التحديث. ولا نعتقد أن الدولة هي مؤهلة الآن، أو في موقع يتيح لها إمكانية إقناع المغاربة بمثل هذه القيم. ولنا في علمانية تركيا المفروضة من فوق نموذج لذلك. فهذه المهمة، ليس هناك من هو أكثر تأهيلا لترسيخها في المجتمع المغربي من غير قوى اليسار، لكن على شرط أن يستعيد هذا الأخير إشعاعه الجماهيري المفقود. من هنا يطرح السؤال الحقيقي الراهن: كيف سيتأتى لهذا الأخير أن يسترجع موقعه، حتى يصير بإمكانه لاحقا، إقناع المغاربة بالقيم الحداثية، و تحقيق تغيير على مستوى الذهنية الثقافية السائدة؟ نحن ليس لدينا وهم، بأنه بمجرد أننا سنرفع الشعارات الراديكالية، من قبيل الملكية البرلمانية أو الإصلاح الدستوري، سيتهافت علينا المغاربة، لكننا نحن أيضا ضد الوهم المقابل، بأنه يكفي أن ننتظر حتى تنجز الدولة وظيفتها التحديثية، لتصبح الطريق ممهدة أمام اليسار. نحن فقط نبحث عن أنجع المداخل، في ظل ما هو متوفر حاليا، لأن يعود اليسار إلى مواقعه مع الشعب، على ألا ننتظر نتيجة من ذلك إلا على مدى متوسط أو طويل. ومن هذه المداخل، نعتقد أن خروج الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة، سيتيح له على الأقل الوقت لإعادة بناء نفسه تنظيميا والمصالحة مع مناضليه. كما أن وجوده في موقع المعارضة، سيسهل عليه التقارب مع باقي أطراف اليسار الأخرى والعمل على توحيدها، وتلك ستكون أفضل إشارة نرسلها في اتجاه متعاطفي وجمهور اليسار الذين سبق وأن ابتعدوا عنه بسبب مشاكله المتراكمة، لإقناعهم ربما بالعودة إلى العمل السياسي من جديد، والقيام بدورهم القديم في ربط قنوات التواصل بين اليسار والفئات المختلفة من المواطنين. أما المدخل الثاني، فسيكون هو التوجه إلى تأطير الحركات الاحتجاجية والمطلبية المتزايدة حاليا في المجتمع المغربي، والتي أصبحت تتم في جزء كبير منها خارج الإطارات التقليدية للإحتجاج. ونحن نعتقد أن الزمن الاجتماعي هو الآن أكثر مناسبة، لرفع سقف المطالب الاجتماعية والنضال من أجلها عبر مختلف وسائل التعبير المتوفرة أو التي يمكن إبداعها، باعتبار أن الدورة الاقتصادية التي يمر منها المغرب منذ عدة سنوات هي إيجابية على مستوى نسبة النمو المحققة، وما يلزم الآن هو أن توزع ثمرة هذا النمو بشكل أكثر عدلا، لا أن تحتكرها بعض الفئات المحظوظة لوحدها عبر استمرارها في الاستفادة من اقتصاد الريع والإعفاءات ودعم الدولة والتهرب الضريبي ... ألخ. وعود على بدء، نوضح للأخ حاضي أن خطاطتنا الحقيقية إنما هي متحولة مع تحول أزمنة مختلف واجهات الصراع الاجتماعي، وأن صفة اليسارية ليست مفهوما مجردا أو خارج التاريخ، ولكنه نسبي ويتغير مضمونه من مرحلة إلى أخرى.