ترددت كثيرا ومطولا قبل أن أخط هذه الرسالة المفتوحة. . لأنني من جهة، أأنف من تشخيص أو «تذويث» الخلافات، إلا نادرا واضطرارا. ولأنني من جهة ثانية، حسبت أننا طوينا صفحات الماضي وشمعنا دفاترها. لكنني في النهاية، رأيت أن من واجبي الرد على ما تفوه به الأخ بنسعيد في حواره مع أخبار اليوم- من أحكام ذاتوية في حق»رفاق الأمس«، ليس دفاعا عن الذات، فهذا ليس من هواجسي إطلاقا، وإنما بغاية تقديم نموذج عن « الحق في الاختلاف» يمكن أن يكون عبرة للمستقبل. قبل الدخول في تفاصيل لاحقة، أسجل في البدء، أن ما يحسب لنا في رصيدنا الإيجابي، أننا لم نلجأ، حتى في أوج الخلافات، إلى التجريح والتشكيك والطعن في مصداقية أي رفيق من الفريق الذي خالفناه الرأي، ولا مرة واحدة. ويمكن لأي مهتم أن يعود إلى إعلامنا ووثائقنا ومقالاتنا واستجواباتنا ليتأكد بنفسه من صحة هذا السلوك. وعلى عكس بعض رموز الفريق الآخر الذين هرعوا على الفور لحملات التجريح والتشكيك الفردي والجماعي. ولعل القارئ سيفطن من الوهلة الأولى لدلالة كل من السلوكين ولعلاقة كل منهما بالقناعات الديمقراطية والحداثية. ولذلك، اكتفيت في العنوان بوضع كلمة «الرفيق» بين مزدوجتين، لأترك لمخاطبي الحرية في مسؤولية الخيار، بين أن يتركهما أو أن يزيلهما، لأنني في الحقيقة لا أستطيع أن أجزم في أية منزلة يضع رفاقه القدماء، هل في المنزلة التي يستحقونها، أم في منزلة من تعاونوا مع الداخلية ضده وضدما يمثله من آراء..؟ والحب، كما يعرف، لا يكون من طرف واحد، إلا إذا كان فاشلا بالضرورة. من سخرية التاريخ، أنني أول من بعث للأخ بنسعيد في منفاه بالجزائر، بين سنتي68و1969، رسالة تتحدث باسم النواة الاتحادية التي ستؤسس فيما بعد، ومع سواها، ما سيعرف « باليسار الجديد». وها أندا اكتب أخرى، بعد أزيد من ربع قرن من العمل الحزبي الموحد، بمضامين مغايرة ومؤلمة. الأولى، كانت»سرية» ومغلقة تبحث عن سبل وأسس التعاون لبناء مشروع سياسي مشترك». والثانية «مفتوحة» وعلنية تبحث عن»الحق في الاختلاف» بل وعن الحق في»الطلاق الديمقراطي» كما يقال. لقد علمتني تجربتي المتواضعة خلال هذا المخاض النضالي الذي ليس بالقصير، أن »الحقيقة دائما ثورية«.. إن فهمت فهما صحيحا، أي بما تقتضيه من «صدق أخلاقي» و « تجرد فكري» موضوعي. وعلى عكس ما يتراء للناظرين من خارج العمل السياسي، فإن السياسة، رغم اكتظاظها بالمصالح الذاتية والمناورات و الدسائس وردود الأفعال وغيرها، فهي في نهاية التحليل ميدان لللعلاقات الموضوعية والوقائع العنيدة. و»الطبقة السياسية» التي تغتر في مزاولتها بغير هذا الاتجاه، يكون مآلها الفشل الحتمي إن آجلا أو عاجلا. السياسة الحقة، الثورية والناضجة، الفاعلة في التاريخ، هي السياسة التي تنبني على»التجرد الفكري« و»الصدق الأخلاقي». مناسبة هذا الكلام ما قرأته من أقوال مكرورة لدى الأخ بنسعيد في غير ما مرة، لم ينفع معها علاجات الزمان ولا مآزق التجربة اليسارية عينها. ودوننا ما أطلقه من أحكام في حواره الأخير، إذ كل ما احتفظ به من خلاصات عن ذلك الماضي النضالي المشترك، وما أسعفه خياله عن تجربة قسم كبير من رفاقه القدامى، وهم في أغلبيتهم مؤسسون لما يتحدث برمزيته، أمرين لا ثالث لهما: * لقد حدرني وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، أن هؤلاء الرفاق المعنيين سيصوتون لصالح دستور 96، إن لم تتخذ المنظمة نفس الموقف وتنخرط في الإجماع الدستوري . وكان هذا كاف في نظره ليلقي بظلال الشبهة عليهم وعلى قناعتهم ومسارهم. * لقد اندمجوا في الاتحاد لمصالح شخصية، ظنا منهم، أن مؤسسات الدولة شتشرع أبوابها أمامهم.. لقد» تبهذلوا»، ولو ظلوا في مواقفهم لدخلوها « بوجه أحمر». هذا كل ما احتفظت به ذاكرة الأخ بنسعيد بعد عقود من العمل الحزبي المشترك وفي أحلك الظروف. وهذا كل ما تخيله لحاضر ومستقبل من عاشرهم نضاليا كل هذا التاريخ. وهو يعرف جيدا، أن كل أولئك الأربعمائة إطار الذين اجتمعوا لاتخاد تلك المبادرة المستقلة في ذلك اليوم المعلوم، لو استعرضناهم واحدا واحدا، بتاريخهم النضالي في المرحلة الصعبة، وكمؤسسين في المرحلة السرية وفي المرحلة الشرعية، وكمعتقلين ومنفيين، وبمواقع مسؤولياتهم الحزبية المختلفة، ورمزياتهم الثقافية والنقابية أو النسائية. أو الإعلامية لنقلبت الشبهة إلى فضيحة فاضحة لمن يقدف بها بهذه الخفة اللامسؤولة. نحن إذن، أما نموذج في التعاطي مع الخلافات السياسية، يحيلنا إلى ثقافة سياسية تقليدية ما زالت ماسكة بخناق الممارسة السياسية في مجتمعنا. ولولا ضيق المجال، وعدم الرغبة في إثارة العديد من الجهات ليست من .موضوعنا، لاستعرضت العشرات من الامثلة.تحول فيها، بين عشية وضحاها، من كان بالأمس، ولعقود عدة، رفيقا وحتى قائدا أو زعيما تصفق له الحشود، إلى تافه وحثالة ومصلحي» ملهوط» وعميل متآمر مع هذه الجهة أو تلك. وينسى هؤلاء أن عند كل خلاف من هذا النوع، وبهذا الأسلوب البدائي لا يصيبون» خصمهم» وحسب، بل هم يأكلون من تاريخهم الجماعي المشترك، ويبددون رصيد الثقة الذي راكموه، ويكرسون ثقافة حزبية ومجتمعية سترتد عليهم وسيكونون ضحاياها بدورهم. والثابت الدائم في كل كرة الخسارة الجماعية لكل القيم التي يدعون تمثيلها. لست ساذجا ولا واهما، لكي أدعو أو أتصور حزبا تقدميا مثاليا ملائكيا لن تجود به الأرض قط، لكن الذهاب نحو الأفضل، والسعي في اتجاه المثال وبدلالته، ضرورة تمليها ذات القيم والبرامج والمصالح التقدمية التي يجري التعبير عنها. وليس من طريق آخر سوى القبول بحق الاختلاف والتعاطي بعقلانية وموضوعية مع قضاياه، والإدانة المستمرة لتحجيم كل العقليات البدائية الغريزية الهمجية التي تنتمي للأخلاق المجتمعية المضادة، مادام هذا الصراع جزءا موضوعيا في صيرورة التقدم. دعنا إذن نرى، هل كانت أحكام الأخ بنسعيد في حق رفاقه القدماء أحكاما موضوعية وعقلانية، تنتمي إلى هذه المدرسة الديمقراطية الحداثية أم أنها واحدة من تظاهرات الثقافة التقليدية التي مازالت ماسكة بخناق الممارسة الحزبية في مجتمعنا؟ لم يكن خافيا على الرأي العام الوطني، ولاعلى الفئات المسيسة منه بوجه خاص، أن منظمة العمل كانت تعاني من انقسام حاد بين تيارين وتوجهين منذ مؤتمرها الوطني الثاني في 1990، بحيث دام هذا الصراع مدة ست سنوات متواصلة، بلغ خلالها أوجه في المؤتمر الوطني الثالث وما أعقبه. فهل هناك إذن وزير داخلية في العالم لا يكون على علم باتجاه الصراع الشبه علني داخل حزب من احزاب بلده؟ فما هي الأعجوبة في ذلك، وما هو»السر» الذي أدهش السيد بن سعيد لمجرد أن وزير الداخلية الراحل حذره» ولو بتهديد مبطن» بما كان يعرفه الرأي العام المسيس على الأقل؟ ولكني سألعب مؤقتا نفس اللعبة الظنية مع الأخ بنسعيد، وسأفاجئه بوجه آخر لحكاية وزير الداخلية قد لا يتسع أفقه ومنطقة لها : لقد بعث لنا وزير الداخلية قبيل انفجار الأزمة» بنصيحة منه» مفادها » من مصلحتكم الحفاظ على وحده المنظمة«(؟) هل سيصدق الأخ بنسعيد هذه » النصيحة الوحدوية« الصادرة عن وزير الداخلية ومن الراحل إدريس البصري بالذات؟ من الأرجح أنه لا يتصور هكذا موقف ولو في الخيال.. وكيف لا، والمنظمة في نظره وبقيادته كانت رافعة لشعار ساخن ضد دستور96، والذي لم «تقدر عليه» كل القوى الديمقراطية الذاهبة إلى إجماع وتوافق يرفضهما. ولذلك، فالمنظمة بالضرورة ستكون معرضة للاستهداف ودفع الثمن. وإن تركنا جانبا ما في هذا التصور من «تضخيم للذات» واستصغار لعقلية السلطة وحسابات» مراكز القوى» فيها، وحاولنا- بالتالي- تقديم تأول ظني ( كما فعل الأخ بنسعيد) للدوافع المصلحية الثاوية خلف النصيحة الوحدية وبمعقولية سياسية على عكس تلك التخريجة البوليسية، فإن الخلاصة إلتي توصلنا إليها وبتركيز شديد: أن وزير الداخلية في تلك الفترة اضطر عن مضض لمجاراة السياسة الرسمية العليا في البحث عن توافقات مع القوى الديمقراطية الرئيسية بالدرجة الأولى، وبوجه خاص مع الإتحاد الاشتراكي الذي مثل تاريخيا وشعبيا استمرارية المعارضة اليسارية. قلت، اضطر عن مضض، لأنه كان مستهدفا من قبل القوى الرئيسة في الكتلة في المفاوضات التي جرت في تلك الفترة، والأحداث معروفة لدينا جميعا. ولأن منظمة العمل سياسيا وعمليا ضد حصول هذا التوافق بالحيثيات التي جرى بها، ولأنها كانت في تناقض مع الاتحاد الاشتراكي بالذات، فإن من مصلحة وزير الداخلية في هامش الحركة الذي كان يتمتع به في وقته، استغلال هذا التناقض، وبالتالي، من مصلحته ألا تضعف المنظمة في تلك الفترة وألا تعاني من أي خلل داخلي. هذا هو تأويلي الظني لتلك «النصيحة الوحدوية». فالموقف السياسي الذي اتخذناه بالتالي، والمناصر للنهج الذي اختارته الكتلة والاتحاد الاشتراكي بوجه خاص، كان يضرب في الصميم حسابات» بعض مراكز القوى» التي كانت تعرف أن التوافق كان يجري في غير مصلحتها. والعكس أيضا صحيح، أي أن المواقف التي عبر عنها الأخ بنسعيد ومن معه، كان يمكن استغلالها والاستفادة منها في طاحونة «مراكز القو ى» ... وفي كل الأحوال، فليس هذا إلا تأويلا ظنيا. خلاصتة: أن الصراع السياسي مركب ومعقد، وأن طريق جهنم قد تكون مبلطة بالنوايا الحسنة. وأن اللجوء إلى التفسيرات «البوليسية» السطحية في حق رفاق الأمس، هو بحد ذاته خدمة كبرى لمن توهموا أنهم يحاربونه. الشيء الوحيد المؤكد لدينا خارج كل التأويلات الظنية، أن الخلاف داخل المنظمة كان خلافا فكريا وسياسيا وتنظيميا بين فريقين من المناضلين، لا شك في مصداقية أي منهما، وأن هذا الخلاف امتد لسنوات خلت، ووصل ذروته في منعطف سياسي فاصل، لم يكن خاصا بالمنظمة، بل شمل الدولة والمجتمع معا. فلا بأس إذن من التذكير بعناوين هذا الخلاف لتنشيط ذاكرة الأخ بنسعيد التي يبدو أنها لم تحتفظ من كل ذلك إلا بأحكام ذاتوية ساذجة: - تبلور الخلاف (الذي كانت له مقدمات سابقة) في المؤتمر الثاني للمنظمة. والذي تجلى في حذف الخلاصة الجوهرية للتقرير السياسي المقدم إلى المؤتمر، وهي التي كانت تستشرف المستقبل، وتدعو لإتباع نهج سياسي توافقي مع المؤسسة الملكية، وتأهيل المعارضة لتحمل المسؤولية الحكومية على هذا الأساس ووفق منظور جديد يراعي التحولات الجارية في الوضع الدولي، والمأزق المسدود الذي وصله الوضع الاجتماعي والسياسي في بلدنا. ولقد أستعيض عن هذه الخلاصة بأخرى، وببيان عام يؤكد على «الكفاح الجماهيري» وبالمطالب الديمقراطية التقليدية. - وتجدد الخلاف في أعلى درجاته حدة لحظة اتخاذ الموقف من الانتخابات الجماعية لسنة 1992. وقتها قررت اللجة المركزية بأغلبية واضحة موقف المشاركة في هذه الانتخابات، بينما اتخذت الأقلية موقف المقاطعة. وهددت بالانسحاب والعرقلة، وكان على رأسها الأخ بنسعيد. ورغبة من الأغلبية في الحفاظ على وحدة المنظمة، تنازلت عن موقفها، وقبلت بموقف اللاموقف،وبتنظيم استفتاء داخلي جرى على أرضيتين متعارضتين في تصورهما. ومن بين القضايا الخلافية الرئيسية: من جهة، الموقف من المؤسسات التمثيلية المنتخبة بين المشاركة فيها من حيث المبدأ وفي أغلب الظروف، وبين المشاركة فيها على أساس شروط قاطعة لا يبدو في الأفق إمكان انجازها كاملة. وبالنتيجة سيكون الموقف الوحيد المتاح للمنظمة حيالها هو المقاطعة. ومن جهة ثانية، الموقف من التحالفات وخاصة مع الاتحاد الاشتراكي، بين نهج ماض في التحريض ضده ومحاولة استغلال تناقضاته الداخلية، واتهامه بعقد صفقة سرية مع النظام. وبين نهج يلح على ممارسة ايجابية وحدوية مع كل القوى الديمقراطية وخاصة مع الاتحاد الاشتراكي. وانتهى الاستفتاء، بصرف النظر عن التعبئة والتحشيد الداخليين اللامشروعين، بانقلاب نسبي على الأغلبية لصالح الأقلية. ومن هذه اللحظة دخلت المنظمة في منحى انحداري وفي تقلبات سياسية غامضة الأفق. - وجاءت الانتخابات التشريعية الموالية، وبدل الالتزام بالتوجه الذي خرج به الاستفتاء، دار أصحاب هذا الرأي دورة كاملة، بعد أن تسببوا في هدر لا يطاق أصاب المنظمة، فدافعوا هذه المرة عن المشاركة غافلين عن كل تلك الشروط التي وضعوها سدودا أمامها. ورغم النفحة الانتهازية في هذا السلوك، صرفنا النظر عن»الماضي«، وساندنا الموقف طمعا في أن يؤسس لتوافق سياسي على ما سيأتي. لكن ما أن ظهرت نتائج الانتخابات حتى عادت حليمة لعادتها القديمة. وفي استباق لم تفرضه الوقائع السياسة بعد، صدر بيان الكتابة الوطنية يحمل القوى الديمقراطية جزءا من التزوير ويدين مسبقا وبدون داع أية إمكانية لتوافق حكومي قادم. - وفي أجواء من الشحن السياسي الداخلي والمواقف المرتجلة ضد أي إمكان لتوافق وطني يخرج البلاد من أزمتها المركبة سواء لجهة النظام أو لجهة القوى الديمقراطية، انعقد المؤتمر الوطني الثالث للمنظمة، وسط أزمة مكشوفة بين التيارين الذين باتا شبه مهيكلين، ولكل منهما تصوره ومواقفة خاصة في القضايا التالية: الموقف من التوافق وضروراته وإمكانياته. الحدود الممكنة للإصلاح الدستوري المرتقب. العلاقة مع أحزاب الكتلة في هذا السياق، العلاقة الوضعية العملية بين الإصلاح السياسي والمؤسساتي وبين الإصلاح الاقتصادي الاجتماعي في ضوء تحمل المعارضة للمسؤولية الحكومية القادمة. كانت تلك هي القضايا التي حكمت مناقشات المؤتمر في شوطيه. وقد كان لنا الشرف في صياغة وثيقة وزعناها في حينها داخل المؤتمر تحت عنوان»في مسالة الحكومة القادمة» حددت بوضوح تصورنا في كل هذه القضايا... ورغم التعارضات الحادة بين التصورين، قبلنا بتعديل القانون التنظيمي، ليسمح بانتخاب الأمين العام على انفراد، أي الاخ بنسعيد، وصوتنا بالإجماع عليه، رهانا منا على أن يضطلع بالدور الضامن لوحدة المنظمة.. لكن ظننا خاب... فاستمرت أزمة القيادة ...إلى أن صدر بيان الكتابة الوطنية الذي وضعنا»خارج المنظمة«على إثر إعلان موقفنا المستقل من إصلاحات دستور96. اكتفي بهذه العناوين، وبهذه المحطات، والتي تعود بالخلافات إلى جذورها الفكرية والسياسية والزمنية الحقيقية. وبداهة أن انعكاسات هذه الخلافات كانت تطال كل مجالات الممارسة الحزبية الاعلام- العمل النقابي- التوجه «النسائي» والعلاقات مع المنظمات الموازية...الخ. ولقد شكلت جريدة أنوال ساحة مستمرة لهذا التناقض بين توجهين : أحدهما ينزع إلى الانفتاح على كل المشارب والمكونات المجتمعية، وإلى تنمية الاستقلالية المهنية وتجويدها. والثاني ينزع إلى الهيمنة الحزبية على كل شادة وفاذة تنطق بها الجريدة. ولأن الصراع على ملكية أنوال وظف هو الآخر في»بولسة» الخلافات، فلابد من توضيح سريع: أن القضاء الاستعجالي، وبعده، لم يحكم لصالحنا، كما أوهموا الرأي العام الوطني، ولا هو حكم لصالحهم.مع أن الوضع القانوني للجريدة كان أكثر رجحانا لصالحنا. وفوق هذا وذاك، فإن الأسماء التي سهرت، وضحت بأوضاعها وحقوقها الاجتماعية لتصنع لأنوال ما كانت عليه من قيمة، كانت جميعها من ذات التوجه والتيار، كما كانت الحاجة ماسة في حينه لوسيلة تعبير عن موقفنا في الوقت الذي لم يكن للتيار أي وسائل مادية للاستمرار. ربما بقراءة اليوم، وبعد كل هذه السنوات، يمكن الخلوص إلى أنه كان بالإمكان تجنب هذا الصراع،كما جرت الأمور في الواقع العملي بإصدارنا لجريدة أخرى غير أنوال. لكن الذي لن يفهمه مخالفونا ، أن اللجوء إلى القضاء ،و الذي أصبح اليوم وسيلة معترفا بها في فك المنازعات الحزبية،كان ينم في ذلك الوقت المبكر عن عقيلة إصلاحية، تنتقد مؤسسات الدولة ولكنها تشتغل بها ومن خلالها. وتلك هي جدلية الإصلاح التي مازال « البعض» يتعفف أخلاقيا وسياسيا عن الخوض فيها. وجدير بالذكر والانتباه في هذا الشق المتعلق بجذور الخلافات، أن نضيف في ختامه: إذا ما وضعنا خطا ناظما أو رابطا بين هذه الخلافات ومقدماتها الأبعد في المرحلة»السرية»، فإننا سنجد أن جل العناصر الفاعلة في التوجه الآخر، كانت فيما مضى أيضا، إما معارضة أو مترددة في الاختيار بين»الاستمرار في السرية»أو الانتقال إلى الشرعية» الذي بادرنا نحن بطرحه. وكذلك الاختيار بين» النهج الثوري بمفاهيم السبعينات» و»النهج الديمقراطي» الذي بادرنا نحن أيضا بطرحه. وبين التردد في بناء»الهوية المستقلة« في تعارض مع »القوى الديمقراطية« أو في تحالف استراتيجي مبدئي معها. وكان اختيارنا أيضا على هذا المستوى اختيارا ثابتا وأكثر إيجابية واستقامة إستراتيجية . فالخلافات الأخيرة إذن لم تأت من فراغ، أو من حدس» بوليسي» التفكير، وإنما هي بنت تاريخ موضوعي وذاتي استمر على ملامحه الكبرى إلى اليوم. وها نحن اليوم مناضلون اتحاديون، في مبادرة وحدوية لا أتردد في وصفها، بأنها أنضج مبادرة سياسية عقلانية، وأنقاها وجدانيا وأخلاقيا في العقد الأخير . وهي خطوة موضوعية لاحقة بالمبادرة الكبرى التي دشنها الاتحاد الاشتراكي، وشاركنا فيها فكرا وعملا ومسؤولية حكومية، لما تخطى الاتحاد كل التحديات وكل الحسابات الصغرى، متحملا بشجاعة كل عواقب اختياره التوافقي. وإننا لنعتز بالدور التنويري الذي قام به الحزب الاشتراكي الديمقراطي في فترة تمهيدية دقيقة وحرجة، كانت فيها » حكومة الأخ عبد الرحمان اليوسفي« بحاجة إلى دعم سياسي قوي ينير الطريق أمام تحديات المرحلة التاريخية الجديدة. ونعتز بالدور الحكومي الذي قام به رفاقنا في وزارة التعليم وفي كل المؤسسات الحكومية والتشريعية والجماعية التي شاركنا المسؤولية فيها. فماذا يقول الأخ بنسعيد عن هذا الاختيار الوحدوي الجذري؟ إنها البهذلة ولا شيء غير البهذلة! لقد دخلوا لمصالح شخصية طمعا في أن تفتح المؤسسات لهم أبوابها.. ولو ظلوا في مواقعهم، كما نحن، لدخلوها « بوجه أحمر». وكأنه يقول: أنظروا إلينا، ها نحن »نقضي مصالحنا الشخصية« وندخل المؤسسات بدون هذه الوحدة التي أقدمتهم عليها... فلتعش التعددية اليسارية!. لا أدري لماذا غابت «وزارة الداخلية» هذه المرة لتكون صانعة هذا الحدث الوحدوي،ولكن إن هي غابت أو توارت هذه المرة، فلقد حضرت »المصالح الشخصية« لتنوب عنها... وكفى الله المؤمنين شر التحليل السياسي والتفنيذ الفكري !. وفي الحقيقة، إني أخجل تواضعا في تصنيف المشاعر النفسية التي تنبعث عنها مثل هذه الأحكام، حيث لا مناص لي في مثل هذه الحالة من الاستغاثة بالتحليل النفسي، وهو ما ليس في اعتباراتي. وبكل صدق، فإننا كنا سنصفق بحرارة وبابتهاج ما بعده ابتهاج، لو أن المواقف السياسية التي يعبر عن فريقها الأخ بنسعيد، كانت تحصد نتائج مذهلة على صعيد كل المؤسسات المنتخبة وغيرها.. حتى ولو كانت هناك بعض المصالح الشخصية.. لكن هيهات، وللأسف الشديد، فالحقيقة المؤلمة غير هذا، وتطرح على الوعي الصاحي أكثر من سؤال نقدي لا على مستوى الاختيارات وحسب بل وعلى مستوى الوجود الحزبي نفسه. يرتكب الأخ بنسعيد في حكمه على عملية الوحدة الاندماجية نفس الخطأ المركب الذي ارتكبه في الحكم على » أوراق الماضي«. فهو لا يأبه للسيرورة التاريخية، الموضوعية والفكرية، وللوثائق الشاهدة عليها. وهذا ليس تبخيسا و إزدراءا بالجانب الفكري في الممارسة النضالية وحسب، بل هو احتقار للموضوعية وبإطلاق. لو اطلع الأخ بنسعيد بالعناية اللازمة على وثيقة» لماذا الاتحاد الاشتراكي« التي على أساسها تم قرار الاندماج لتوضحت له عدة أمور، ومن بينها: أولا: أن مجموعتنا المؤسسة لما سمي باليسار الجديد جميعها كانت من أصول اتحادية. وأن»حبل الصرة» هذا استمر حيا على الدوام، حتى ونحن خارج الاتحاد، سواء على المستوى الوجداني، أو على المستوى الفكري والسياسي. ألم نكن نتداول في الماضي وعند المقارنة مع أطراف اليسار الجديد الأخرى، أننا ورثنا عن المدرسة الاتحادية، الانفتاح على الواقع، والعقلية التجريبية بالمعنى الإيجابي، وموقعة الصراع الاجتماعي ضمن المنظور الوطني، أو ضمن أولويته. وتعددية التيارات التي لازمتنا طوال تلك التجربة. أما عن ارتباطنا الوجداني فحدث ولا حرج. هذه المواصفات الموروثة تقاسمناها بتفاوت ولا شك، وكان تيارنا في هذه المجموعة الأقرب على الدوام وفي جميع المحطات النضالية الكبرى إلى مواقف الاتحاد الاشتراكي. ثانيا- أما عن الخلفية الاستشرافية لعملية الوحدة الاندماجية، فالوثيقة لم تكن ساذجة ولا غافلة عن الكوامن الخفية للأزمة المجتمعية التي ما زالت تكبح عملية الانتقال الديمقراطي. وهي الظاهرة التي يعبر عنها البعض»بالموت البطيء للسياسة« في مجتمعنا، ويعبر عنها آخرون»بإرجاع الاعتبار للسياسي«، مع اختلافات متنوعة في تحليل الجذور والأسباب. وإنما بسبب هذه الظاهرة المزمنة، وبسبب أن الانتقال الديمقراطي ينقل مركز الصراع السياسي-الاجتماعي إلى المؤسسات المنتخبة في موازين قوى، مازالت وإلى زمن غير منظور، لصالح القوى التقليدية، استنتجنا وأكدنا على أن لا مبرر في الشروط الموضوعية القائمة والمنظورة، لتعددية يسارية، خاصة وأن خلافاتها ثانوية، وأن العامل الأيديولوجي لم يعد له، على الأقل إلى مرحلة ما، نفس الدور الذي كان له في مراحل سابقة. أما أن نكون نحن في قيادة الحزب في هذا المؤتمر أو ذاك، فهذه مسألة ثانوية ولا «بهدلة» فيها، من هذا المنظور ألاستشرافي الصادق. والجانب الآخر في الخطأ المركب، كما قلت، أن الأخ بنسعيد لا يعير لكافة المناضلين وللقواعد الحزبية أي اعتبار. وهذا لا يليق بأي ديمقراطي حداثي، وإلا كيف نفسر تمجيد الديمقراطية عندما يخص الأمر حزبه، وتجاهلها أو الطعن فيها عندما يختص الأمر بغيره، ألا يدل ذلك على أن القناعة الديمقراطية لم تصر بعد منهجية مبدئية، وأنها مجرد ألعوبة سياسية لا أكثر؟. فالأخ بنسعيد يعلم كغيره، أن الاندماج أتخذ بشكل جماعي، وبعد مناقشات عامة وجادة دامت أشهرا متواصلة، وفي مؤتمر وطني شارك فيه أزيد من ألف مؤتمر، وتم اتخاذ القرار بشبه إجماع لكافة المؤتمرين. فأين المصالح الشخصية في هذه الواقعة؟ اللهم إلا إذا كان كل هؤلاء أغبياء وسدجا وموريدين، وحتى في هذه الحالة الافتراضية، فالمسألة فيها نظر. لا..إني سأذهب إلى أبعد من ذلك، فهذا الخطأ ذو المرجعية الثقافية التقليدية، ليس مرده تصفية حسابات ذاتية مع رفاق الأمس، بل هو من تجربتنا المشتركة منهجية فكرية تعتقد أن رؤوس الجماهير فارغة يحشوها الزعيم ونخبته بما يشاؤون. وإن اشتكى الزعيم وفريقه من وجع سياسي ما، تداعت لهم سائر الجماهير»بالسهر والحمى». وفي ختام هذه الرسالة التي أريد منها، وأتمنى، أن تغلق هذا الملف نهائيا.. لا بد لي من تعليق سياسي يخص الوضعية الراهنة. ذلك أني أتصور، أن حال لسان الأخ بنسعيد، والخطاب الذي يروج لهذه الأطروحة، يرددان بنوع من الاعتزاز والزهو: ألم نقل لكم، أن لا حل لمعضلتنا، كل معضلاتنا، سوى بإصلاح دستوري فعلي، وها أنتم قد وصلتم وعدتم منكسرين خافضي الجناح إلى دعوتنا. ليست هذه أول مرة في التجارب التاريخية تتكرر مثل هذه المحاججة. فلقد شبه مرة «غرامشي» أصحاب هذا المنطق »بمن كان يريد أن يغتصب قاصرا، بدعوى أنها في كل الأحوال ستصير أماً لا محالة«. لا، أيها السادة: ليست هذه القراءة إلا هروبا إلى الأمام تحجب أوهامها عنكم، واقعكم الذاتي الفعلي. وألتمس من الأخ بنسعيد في هذا السياق أن ينشر علانية المذكرة التي سلموها لوزارة الداخلية في فترة الأزمة وحين خروجنا من المنظمة ليكتمل لدى الرأي العام التلوين الدقيق لموقفكم الدستوري. لكن المهم لدينا، أن هناك فروقا كبيرة ونوعية بين سنتي 9619و2009. ومن بين هذه الفروقات، أن المسألة الدستورية اليوم، تجري وستجري، في سياق التوافقات التي دشنها ذلك التصويت الإيجابي المعلوم، بينما كانت إلى حينها مشدودة بقوة إلى ماضي الصراع الحاد بين المعارضة الديمقراطية والمؤسسة الملكية، والذي أورثها(المسألة الدستورية) الكثير من الشك والحذر والتوجس بين الطرفين. هذا الفرق لوحده، عدا التحولات الايجابية الأخرى، كان يستحق كل تلك «التنازلات» التي أقدمت عليها المعارضة لضمان تطور ديمقراطي سلس ومستقر وهادئ .. رغم كل النواقص. فلنقرأ أوراق الماضي بموضوعية، ولنغلقها نهائيا، ولنلتفت إلى المستقبل لكي نؤسس ليسار موحد عقلاني ومترفع عن الحسابات الذاتية الضيقة، ولنستحضر دائما «أن الخلاف لا يفسد للود قضية» مع خالص التحيات والتقدير.