تنعقد "القمة العربية" في مارس المقبل، وهو الحدث الذي تشرئب أنظار العرب – من الخليج إلى المحيط – إلى النتائج التي ستتمخض عنه، بسبب ما يعصف بالعالم العربي من أزمات سياسية، ومُلِمّات اجتماعية واقتصادية، وما تتربص به من تحديات جيو-سياسية، وجيو-استراتيجية. وغني عن البيان أن انتظارات الرأي العام العربي إلى ما ستسفر عنه "القمة العربية"، الثانية والثلاثون، من قرارات وتوصيات في اتجاه العمل على احتواء ما يعصف ببعض أقطاره من احتراب، وما يحيق ببعضها الآخر من نزاعات حقيقية أو مفتعلة – إنما تعبر (الانتظارات) عن حالة شعبية "صحية"، وتفاؤل مشروع بمستقبل العلاقات العربية-العربية، في شروط جديدة، قوامها السلام والوئام، ومنطقها التفاهم والتعاون. بيد أن تصريحات فخامة الرئيس الجزائري الذي تستضيف بلاده "القمة العربية" في مارس المقبل (2022)، خلال اجتماعه، مؤخراً، بمنظومة سفراء الجزائر بالخارج، لا تبعث على الاطمئنان، إذ أنه زَجَّ يحدث "القمة" المنتظرة بتفاؤل وأمل، في دوامة النزاع المفتعل الذي تقوده الأوليجارشية المتحكمة في قرار بلادها – منذ عقود – ضد الوحدة الترابية للمملكة المغربية. فقد طغت على التصريحات التي أدلى بها الرئيس الجزائري في ذلك الاجتماع خلفية النزاع الجزائري-المغربي المفتعل، فجمعت بين ترهات الإدعاء، وإملاءات الموقف، إلى درجة تحديد جدول أعمال "القمة" الذي تعود مسؤولية اقتراحه – مسطرياً – إلى "جامعة الدول العربية"، بعد استمزاج آراء القادة العرب. وهكذا، يبدو أن جُنون النزاع الجزائري لوحدة التراب المغربي، يأخذ الرئيس المُضيف لِ"القمة"، إلى الاعتقاد أن الأخيرة ستكون طوع يديه، إذ يمكنه تكييف أشغالها مع ما يراه ضرورياً لاحتواء "كابوس" الوحدة الترابية للمغرب !! ومما لاشك فيه، فإن تصريحات من هذا النوع، صادرة عن فخامة الرئيس الجزائري، ليست "فلتة لسان"، أملاها اكفهرار مناخ العلاقات الجزائرية-المغربية، بسبب ما حققته المملكة المغربية من مكاسب دولية وإقليمية في موضوع دعم وحدته الترابية، بل هي خطوة مدروسة، مُبيتة، تُراهن على تكييف مناخ انعقاد "القمة العربية" بالجزائر، وترمي إلى استغلال استضافة هذا الحدث العربي الهام، للضغط على الأشقاء العرب، لتغيير أو تعديل مواقفهم القومية الثابتة من محاولات المساس بالوحدة الترابية لأي قطر من أقطار العالم، فأحرى أن يكون هذا القطر عضواً فاعلاً، وازناً في "جامعة الدول العربية". ونعتقد بكل ثقة، وبكامل الصراحة، أن هذا السلوك "المكيافيلي" في جانبه الانتهازي، لا يسيء إلى "العدو الجار"، المغرب، وحسب، بل يسيء أولاً وقبل كل شيء إلى الأشقاء العرب أعضاء "جامعة الدول العربية" لأنه يستهين بوعيهم بحقائق النزاع المفتعل، الجزائري-المغربي، حول الصحراء المغربية، ويستصغر ذكاءهم في إدراك عمق الحس الوطني، وأصالة الموقف القومي لدى شعب وقيادة المملكة المغربية. وحري بالأوليجارشية الجزائرية التي تقف وراء إملاء هذا السلوك المُشين أن تستعيد ذاكرتها التي لَفّها الحقد، وشلتها الضغينة، فستحضر حجم التضحيات الجسام التي تحملتها المملكة المغربية التي لم تتوان، يوماً، عن دعم وإسناد قضية تحرير الجزائر من ربقة الاستعمار، وأدت في سبيل ذلك ثمناً باهظاً في مواجهة التحالف الاستعماري، الإسباني-الفرنسي، في قلب الصحراء المغربية، في عملية "إيكوفيون" (Ecouvillon) الشهيرة التي استهدفت ضرب عصفورين بحجر واحد: صد المغرب عن تحرير صحرائه، وقد كان قاب قوسين أو أدنى من إنجازه (فبراير 1958)، ومنعه في ذات الوقت من إمداد حرب التحرير الجزائرية بدعم عسكري حاسم. ولسنا هنا بوارد تنبيه أشقائنا العرب بهذه البوادر السلبية التي تستبق انعقاد "القمة العربية"، ولكن ما يقلقنا من هذه التصرفات اللامسؤولة هو محاولة تلغيم أشغال "القمة"، بفرض أجندة "خصوصية" مُحرجة، من شأنها الزج بأشغال "القمة" في مأزق سياسي يَحُول دون إنكبابها على مناقشة ومعالجة القضايا الحقيقية، الأساسية، التي تستحوذ على ترقبات الشعوب العربية، وفي مقدمها استعادة "جامعة الدول العربية" لِزمام المبادرة في مقاربة التحديات الحقيقية التي تواجهها الأمة العربية، وتستحوذ على ترقبات شعوبها، وفي صدارتها محاولات زعزعة أمن واستقرار الأقطار العربية، شرقاً وغرباً، وضرورة استعادة "جامعة الدول العربية" لمبادرة الفعل السياسي، والتحرك الميداني لتنقية أجواء العلاقات العربية-العربية، وتأطير مسارات معالجة النزاعات الحقيقية التي ما انفكت تفتك بأواصر العلاقات التضامنية التي تجمع بين الأقطار العربية. واعتباراً لدقة الظرفية الإقليمية والدولية التي تنعقد فيها "القمة"، فإن نتائج أشغالها ستكون بمثابة اختبار عسير لمصداقية وفعالية "المنظمة الإقليمية" ("جامعة الدول العربية") التي تجمع شمل الأقطار العربية، وتعزز كلمتها وترفع من قيمة دورها على الساحة الإقليمية والدولية. ومن تم، فإن حرص كافة الأطراف العربية على العمل المشترك من أجل تعزيز وحدة الصف العربي حول القضايا الأساسية المشتركة، بمقاربات واقعية، توافقية، بناءة، لَتُمثل اليوم فرض عين بالنسبة لمكونات "جامعة الدول العربية". وفي صدارة مقومات هذا السلوك المسؤول: احترام القرارات السيادية للدول الأعضاء بِ"الجامعة"، وتجاوز الخلافات "العقدية"، والأخذ بزمام التوافقات السياسية، واحتواء "الأجندات الخصوصية" لصالح القضايا العربية المشروعة، المشتركة. وحينما نعتصم بحبل هذا التوجه المسؤول، فإن ما بدا من مواقف وتصرفات الرئيس الجزائري بصدد أشغال "القمة العربية" التي يستضيفها، ليثير القلق ويبعث على التوجس بالنسبة لحظوظ نجاح "القمة" المقبلة في تحقيق نقلة نوعية في مسار العمل العربي المشترك. ومع ذلك فإن تساؤل الرأي العام العربي حول مصير انعقاد "القمة" بالجزائر، في ظل الملابسات المقلقة، السالفة الذكر، تبدو مشروعة، دافعُها الأساسي الحرص على توفير شروط نجاح أشغالها، بغية تعزيز وحدة الصف العربي. وهي الحيثية التي تدعونا إلى مطالبة "جامعة الدول العربية"، بموقف استباقي في ما يخص مكان انعقاد "القمة العربية" المقبلة، تتوفر فيه شروط النزاهة وروح المسؤولية التي تقتضي تغليب المصلحة العربية الجمعية العليا، على نوازع الهيمنة الفجة الدنيا. ولا يخامرنا أدنى شك في أن خصوم وحدتنا الترابية لن يتوانوا عن إثارة موضوع الأزمة الناشبة بين المملكة المغربية والأوليجارشية الجزائرية، من زاوية إدعاءاتها الباطلة وافتراءاتها المعروفة. كما لا يخامرنا أدنى شك في أن وعي ويقظة وموقف "الجامعة العربية" إزاء محاولات بث الشقاق، عبر النفاق، في الصف العربي، بعد أن عمدت هذه الأوليجارشية اللامسؤولة إلى تجميد دينامية وحدة الصف المغاربي، على خلفية محاولات عزل المغرب عن محيطه العربي والمغاربي، بعد أن فشلت في عزله عن محيطه الإفريقي – نعم، لا يخامرنا أدنى شك في أن "جامعة الدول العربية" لن تتوانى عن صد محاولات الالتفاف على مقتضيات "ميثاقها"، ومبادئ أخلاقيتها، وأصالة حنكتها، فتقف سداً منيعاً في وجه كل ما من شأنه أن يمس أو يصادر حظوظ نجاح أشغال "القمة العربية" المقبلة. و"إنما الأعمال بخواتيمها" كما تقول الحكمة العربية.