كانت الساعة قد شارفت على الرابعة عصرا، حين التقيته للمرة الأولى. كانت باريسُ الجميلة تضيء بخجلٍ بعض أنوار الشوارع تفاديا للظلام الذي يحلُّ باكرا في الشتاء. وصلت الى مكتبة جامعة السوربون بعد سير طويل على الاقدام تحت مطر خفيف. كنتُ أمشي قليلا متظللا بمظلتي السوداء الصغيرة، ثم ارفعها من فوق رأسي للتمتع بسقوط بعد الرذاذ على وجهي وأنا انظر الى السماء الرمادية المائلة قليلا الى السواد. هذا كان دأبي كل يوم تقريبا في السنوات الأولى لدراستي الجامعية، فقد وجدت في ذاك البحر الكبير من الكتب المجّانية في فرنسا ضالّتي التي تمنيتها منذ نعومة أظافري. لا أدري إذا كان حُبّي للكتاب كان فقط لمتعة القراءة، أم رغبة بالانعتاق مما حولي والسفر عبر الكلمات الى عالمي الخاص. مهما كان السبب، فلم أجد في الحياة أجمل من مصاحبة تلك الصفحات الساحرة التي تروي لنا ألف قصة وقصة، وتأخذنا بيدنا كالأطفال صوب عالم أجمل حتى ولو كان الكتاب في بعض الأحيان صعبا. في ذاك النهار، كنت قد أنهيتُ للتو اتصالا هاتفيا مع امي من غرفة هاتف صغيرة على قارعة الطريق. سمعتُ صوتها الدافئ يرشح بالحب والدعاء بأن تكون حياتي ميُسّرة. لا شيء يخفف من برودة الغربة، سوى دفء ذاك الصوت الذي يرافقنا أينما رحلنا، فيتسلل الى كل الخلايا يزرع فيها طمأنينة نخال أمام بعض العقبات أنها ترنّحت. دلفتُ من بوابة الجامعة. نفضتُ حبيبات المطر عن المظلة السوداء. خبطتُ قدمي بالأرض لينزلق من عليهما ما علق بهما. مسحتُ ما استقرّ من تلك الحبيبات على وجنتي وعيني. سويّتُ قليلا هندامي، وصعدت المدرّجات المطوقة بحيطان مليئة بالإعلانات الطلابية ومواعيد المحاضرات، واعلانات شقق طلابية، وكيفية الحصول على الأوراق الإدارية وبعض المنح. لا أدري لماذا، كلما تذكّرت جامعتي الفرنسية، استعيد تلك الرائحة التي لا وصف لها عل المدرجات وفي الممرات. ألقيت التحية بصوت خفيض جدا على عاملة المكتبة، رفَعت رأسها بتثاقل عن كتابٍ تقرأه، فأسِفتُ انها قطعتُ عليها متعتها. أخذت بطاقة القراءة من يدي، سجلت اسمي، واعادتها لي متمنية لي قراءة ممتعة مع ابتسامة لطيفة. كان خمسة طلاب موزعين على الطاولات المحاطة بهالة الصمت الجميل. هو صمت القراءة، الذي تسمع من خلاله آلاف السمفونيات الجميلة، ومئات السنين من الكلمات، وترى عبره تلك الايادي النابضة بالفكر والحب والأمل، بالفرح والحزن، بالنجاح والخيبة، تحمل الريشة او القلم تحكي، عبر العصور، الحياة بلغة خاصة لا يفهما الا من ينسجم مع الكلمة حتى يصبح الكلمة. كان هو، جالسا خلف طاولة في زاوية المكتبة تحت شباكّها، يُلقي رأسه على رحة يده، ويقلّب الصفحات باليد الأخرى. كان أكثر سُمرة من كل الطلاب. لم يخفف من سمرته آخرُ ضوء يتسلل من الخارج قبل العتمة، ولا خفف منها المصباح القديم الواقف منذ عشرات السنين فوق المكتبة. سُمرةُ وجهه تتقدم صوب نصف الرأس الأجلح، أما النصف الآخر فيغطيه شعرٌ أسود كالح مزيّن ببعض الشعيرات البيضاء. تبادلنا التحية مع ابتسامة من بعيد. خلتُه سودانيا، أو من الصحراء الجزائرية، وهو لا شك، أدرك أنى عربيٌ. لم تغيّر فرنسا طباعي. فطيلة سنواتي حياتي فيها، بقي قلبي يهفو لكل عربي، رغم ان معظم صداقاتي كانت مع الفرنسيين الذين احببتهم واحبوني. بقينا هناك أكثر من ثلاث ساعات، ننهل من الكتب ما طاب لنا، نسير بين الممرات الكثيرة المليئة بالمؤلفات. نختارُ ما شئنا، ثم نعود الى الطاولة، وكأننا نريدُ ان نخزّن كل هذه المعارف قبل ان تضيع، او قبل ان نعود الى بلادنا، حيث القراءة واجبٌ مدرسي للنجاح او للتظاهر بالمعرفة، الا ما ندر. كان الفيلسوف والاديب الكبير رونيه ديكارت يقول:» ان قراءة كتب قيّمة هي بمثابة الحوار لساعات مع عظماء القرون السالفة». انتهى وقتُ القراءة ولم ننتبه. سمعنا صوتُ الموظفة الجميلة يقول ان علينا إعادة الكتب الى اماكنها لان المكتبة ستقفل أبوابها بعد عشر دقائق. سرقنا آخر الكلمات من آخر كتاب بين يدينا، وودعناه على أمل اللقاء به في الغد. ما ان خرجنا من المكتبة، حتى بادرتُ الشاب الأسمر كثيرا، بالتحية وسؤاله عما يدرس، رد بتحية القريب، وقال انه يدرس علم اللسانيات. فرحتُ بذلك. أخبرته أني أيضا ادرسها ولكن من خلال تطبيق فلسفة اللغة على الخطاب السياسي والإعلامي. سألته عن مقصده، وسرنا سويا مسافة نصف ساعة وكان الرذاذ قد تراجع قليلا. واتفقنا ان نلتقي قريبا. التقينا كثيرا. تبادلنا عشرات الكتب. سرنا مئات المرات على ضفتي نهر السين . تناقشنا بواقع ومستقبل دولنا العربية. علّمني كثيرا عن الحركة اليسارية في المغرب، وعن النضال الطلابي. حكى لي عن قسوة الأمن في عهد الملك الراحل الحسن الثاني ضد التيارات اليسارية المتطرفة. وأنا اضفت الى معارفه الكثيرة عن لبنان واحزابه وواقعه قليلا مما كان يجهله، فهو كان يُحب وطننا، ويعرف عنه الكثير، ويعتبر بيروت ساحة حرية لكل مناضل عربي. كان قلبه ينبض على قلب فلسطين على غرار معظم أهل المغرب الذين طالما أشعروني كلما زرتهم اني في بيتي وبين اهلي. تعمّقت صداقتنا عبر السنين، وترسخّت ثقةٌ عميقة بيننا، فصار يروي لي ما كان يُحجم عنه في بداية تعارفنا. أخبرني بصوته الهادئ وعباراته التي تُشعرك بأن كل كلمة منها تأتي في مكانها المناسب، كيف سُجن مع رفاقه في المغرب، وكيف كانت احلامهم تُحلّق من فوق البوابات المغربية العريقة صوب الشرق. كان دائما يُرفق رواياته باستشهادات من روائيين وكتاب مشرقيين حفظ انتاجهم عن ظهر قلب حتى بات موسوعة متنقلة. وصار مع الوقت يخبرني عن حياته العائلية وعن مشاغله لضمان حياة افضل لأولاده. جمعتنا بعض المؤسسات الإعلامية سويا. وفتحتُ له أبواب صحيفة « السفير» التي كان مؤسسها الأستاذ الصديق طلال سلمان، اطال الله بعمره، يُشعر كلُ عربي بأنها بيته. كتب بعض المقالات التي تُدهشك بلغتها العربية المُتقنة، وبحبكة جملها، وبتدفق افكارها بحيث تجمع قديم اللغة مع جديدها في قالب فريد. كان مُنظّرا فكريا حقيقيا، وهو ما جعل رفعت الأسد شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ينتبه اليه، فاحتكر فكره لفترة غير قصيرة وساعده في تأمين حياة مقبولة بين باريسولندن. فهو الذين اخترع عبارة « التضامقراطية» التي تصدرت معظم وسائل الاعلام التي أسسها الأسد، ويعني بها جمع التضامن العربي مع الديمقراطية. جمعتنا الغربة، ثم افترقنا بعد عودتي الى لبنان واستقراره في لندن، لكننا كنا نتواصل هاتفيا او عبر وسائل التواصل الحديثة. يصل ُ الى مسامعي صوته الهاديء وكلامه الموزون وقلبه المحب، لكن في السنوات الأخيرة، بدأت اسمع في الصوت بعض يأس ومن القلب بعض حزن على واقعنا السياسي، وبعض قلق على صحته التي تدهورت ثم تحسنت، وكأن في الكلمات شيئا يُشبه رسائل الرحيل. اليوم وأنا افتح الفايسبوك، وجدتُ صورته على صفحة صديق مُشترك، وقرأت اسمه في بيان النعي الصادر عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربي. انتصر كورونا اللعين على الابتسامة الخجولة والقلب المُحب والعقل المتقد، وخسرتُ صديقا صدوقا ورفيق عمر. وعرفت من بعض اصدقائنا المشتركين في المغرب انه عاد مؤخرا الى بلاده من اوروبا وكأنه عاد ليموت على أرض بلاده واجداده. رحمة الله عليك يا أخي وصديقي الحبيب حسن السوسي. عساك في جنة الخلد، لأن قلبك الطيب كان يتسع لكل حب الأرض، ولان نبل أخلاقك ندُر في هذا العصر. كل تعازي الحارة لعائلة السوسي، ورفاقه اليسارين، والاتحاد الاشتراكي، ولاهل المغرب وكل من عرفه وأحبه. مؤسس ورئيس تحرير موقع خمس نجوم السياسي الفكري الثقافي