كيف يمكننا أن نفسّر هذه البديهية للذين يشكّكون فيها أو يجهلونها : القراءة متعة ؟ - لا ينتمي القارىء لأيّ موطن . كانت ل» سنيك « ( فيلسوف روماني من القرن الأول للميلاد ) عادة أن يُخصّص خزانة كتبه لزائريه بالقول إنّ كلّ واحد يملك الحق في اختيار أسلافه من بين : هوميروس ، سوفوكلس ، أفلاطون أو أيّ كاتب آخر : الموطن الحقيقي للقارىء هو بالفعل مواطن الكتّاب الذين يقرأ كتبهم . بالنسبة لي ، أنا المولود في الأرجنتين ، لم يكن بروست و ستيفنسون ( كاتب اسكتلندي 1850 1894 ) غريبين عنّي . كانا جزءا من عائلتي . هما جذوري و رفيقاي . القراءة هي الوسيلة المثلى للوصول إلى الآخر حيث في الإمكان أن نكون سعداء . في الواقع ، نقضي وقتنا في الاعتقاد أنّ المعيش و السياسة و الاقتصاد والدّين هي حقائق تحدّدنا . لكن هذه خديعة ! الحقيقة الواقعية الوحيدة التي في المستطاع لمس جذورها هي الحقيقة التي نكتشفها في الكتب . من خلال القراءة ، نرسو على ضفاف الآخر autre ، بمعنى ضفاف موطن ما زلنا بعدُ لا نعرفه ، و مع ذلك ، لا نعمل ، في الواقع ، باكتشافنا لهذا الموطن ، سوى العودة إلى مكان نعلمُه ، لكنّنا لم نذهب إليه أبدا . إعادة اكتشاف ما لم نكن نعرفه هو صلب متعة القراءة . أضيف ُ ، لمّا نقرأ ، نكون وحيدين غير أنّ العالم بأسره يلج الصّفحة و يمكننا عندئذ أن نتقاسم ما قرأناه . كيف رأت النور « مفكرة قارىء « المدهشة حيث تعيدون قراءة اثني عشر مؤلفا أدبيا كلاسيكيا على امتداد عام كامل و بمقتضى كتاب في الشهر ؟ - كنتُ أريد أن أوضّح ما الذي يجري لمّا نقرأ . إنّها طريقة ، إن شئنا ، تمكنني من أن أفتح ذهني ، أن أحدث فيه نافذة صغيرة ، أن أبيّن أنّ لحظة القراءة ليست لحظة مقفلة و مغلقة ، بل على العكس ، لحظة مفتوحة على العالم دائما . ماذا تريد أن تقول ؟ ما الذي يجري لمّا نقرأ ؟ - كلّ نص يُقرأ يُفسّر أوّلا بأوّل . نحن نفسّره انطلاقا ممّا يجري حولنا و في العالم : زيارة صديق ، خبر مذاع في نشرة الأخبار ، سؤال طفل ، تواجد حيوان من حولنا ، تغيّر في حال الجُنينة ، كلّ هذا يتسرّب إلى العمل الذي نقرأه و يلعب دورا حاسما . هذا الأمر يوضّح إلى أيّة درجة القراءة ، هذا الفعل المنفرد ، هي في الآن نفسه النشاط التفاعلي الوحيد حقا . اليوم ، ندّعي أنّ الحواسيب تقترح هذه التفاعلية ، لكن هذا غير صحيح ! حين تستخدم الحاسوب ، لا يمكنك أن تتواصل إلاّ تبعا لما هو مبرمج ، و لمّا تفعلْ ذلك ، عليك أن تتتبّع الأوامر المعطاة . القراءة ، بخلاف ذلك ، حرّة تماما . هناك في فعل القراءة فوضى مطلقة و مُنقذة . هذا ما أحاول تبيانه في هذه المفكرة التي تشمل سنة 2003 2002 حيث انتقيتُ ، بالاعتماد على الصّدفة ، كتابا يقودني كلّ شهر . ماذا تفيد هذه « الفوضى « التي تطالبون بها للقراءة ؟ - لنكنْ صُرحاء : ليس هناك إلا الحمقى و أساتذة الأدب الذين يقرأون في انتظام ، يقرأون وفق الترتيب الكرونولوجي أو وفق الانتماء القومي أو كلّ أعمال كاتب ما في نفس الآن ، مانعين على أنفسهم الانتقال إلى كتاب آخر ما لم ينهوا هذا الأخير . لكنّ القارىء الحقيقي فوضوي بطبعه ، يسمح بأن يُغويه عنوان ، يُغريه غلاف ، ينتقل من نص إلى آخر ، ليس له أيّ التزام ، حتى التزام أن يُتمم الكتاب الذي يباشر قراءته . دانييل بيناك * حدّد بإحكام ، في كتاب صغير جميل Comme un roman حقوق القارىء العشرة غير القابلة للتقادم . لن أعود إذن إلى هذه النقطة إلاّ لأقول بأنّ هذه الانتقائية تمنح حرية بلا حدود . القراءة ، إنّها تمرين الحرية المطلقة . غير أنكم تكتبون إنّ القراءة تنطوي على بعض الالتزامات حتى تكون المتعة تامّة . ما هي هذه الالتزامات ؟ - هذه الالتزامات موجودة بالفعل . إنّها تؤشر على مفارقة القراءة و هي مفارقة تمنع القارىء من أن يتماهى مع الفوضويّ المُطلق . يبدو لي أساسيا ، في البدء ، ترك العمل ينفتح على العالم حين نكون بصدد قراءته . ماذا يعني هذا الأمر بشكل ملموس ؟ - كلّ قراءة لها قيمة لأنّنا أحياء و لأنّنا لا ننسى العالم من حولنا . على سبيل المثال ، في شهر ديسمبر 2001 كنتُ في خضمّ قراءة شاتوبريان ( كاتب فرنسي 1768 1848 ) لمّا هاتفتني ابنتي التي تعيش في أوتاوا لتخبرني بما حدث في نيويورك . كنّا في الحادي عشر من ديسمبر . أنا لا أملك تلفازا . ابنتي كانت باكية . انغمستُ ثانية في قراءة شاتوبريان . أ تعلمون ماذا اكتشفتُ ؟ اكتشفتُ أنّ شاتوبريان يحادثني . في الواقع ، هذا ما يفعله حين يشرح في « مذكّرات من وراء القبر ّ لماذا لم يرغب في الانضمام إلى الثورة الفرنسية حين رأى رأسا مغروزة فوق رمح مُدمّى : « أبدا ، يكتبُ ، لم يكن القتل في ناظري موضوع إعجاب ، برهان حريّة ، لا أعرف من هو أكثر دناءة ، أكثر حقارة ، أكثر بلادة من إرهابي « . شاتوبريان رجل القرن الثامن عشر يتكلّم إذن إلى كلّ إنسان من القرن الواحد والعشرين . إنّه يعبّر عن حكم حول ما نستشعره ، في لحظة شعورنا به . كيف ؟ بفضل نعمة القراءة . في هذه الصّفحات ، يعرّف شاتوبريان ، لأوّل مرّة في التاريخ ، كلمة « إرهابي « . بالطبع ، المعنى مختلف قليلا لأنّه استُخدم استنادا إلى هول الثورة الفرنسية ، لكنه لا يبتعد كثيرا عن المعنى الذي يُعطيه له اليوم مسؤولو القاعدة . - هل ثمّة قواعد للقراءة الجيّدة ؟ - لا أحبّذ تقديم قواعد . ليست هناك بالأحرى قواعد . لا تُوجد طريقة جيّدة أو طريقة رديئة في القراءة . لكن ، من الأفضل بالفعل قبول الانفتاح على العالم و قد قدّمتُ مثالا بشاتوبريان و الحادي عشر من ديسمبر . يُمكننا مضاعفة هذه الأمثلة . فيما يخصّني و هذا موضوع جدّ شخصي و إن كنت أعتقد أنّي أقتسمه مع قرّاء عديدين أنتظر من القراءة أن تجعلني أنفتح على تجارب أخرى عدا تجربة القراءة . قد يبدو هذا تفصيلا ، لكنّه يستحوذ على العديد من القرّاء : كيف ترتب الكتب التي تملكها ؟ - في مكتبة بالطبع ! عشت زمنا طويلا دون أن أمتلك واحدة . كتبي مكدّسة في علب كرتونية مهيّأة لفساد الزمن ؛ بل حتى مع وجود مكتبة ، فإنّ القارىء هو الذي له الاعتبار أكثر من الكتاب . أريد أن أقول من خلال هذا ، إذا ما كلّ واحد رتّب الكتب كما يرغب ، يبدو لي من الضروري أن يترك ذوقه يعبّر عن نفسه بدلا من أيّ نظام خارجي . ثمّة علاقة غريبة تنشأ ، مثلا ، بين كتب موضوعة على نفس الرفّ أو التي تتراكم عند قدم سرير : ننتقل من كتاب إلى آخر دون أن نهتم كثيرا بمعرفة السّبب ، غير أنّنا نعثر دائما تقريبا على مرايا تعكس صفحة هذا الكتاب في صفحة كتاب آخر . القارىء يملك سلطة إعادة تشكيل كتاب ما ، بمعنى أن يُقرّر شكله . و لأجل هذا ، لا يجب مطلقا الثقة بناشر : عندما يُقال لنا بأنّ هذه الرواية بوليسية أو هذا كتاب للأطفال ، يلزم دائما أن نرتاب و أن نقرّر بأنفسنا انتماءه لهذا النوع أو ذاك . على سبيل المثال ، واحد من الكتب التي أتحدّث عنها في هذه المفكّرة « الرّيح في الصّفصاف ّ ل « كنيث غراهام ( روائي بريطاني 1859 1932 ) كان يُعتبر كتاب أطفال ، يحكي قصة صداقة بين خلد و جرذ و ضفدع ، و قد حصل أنّي أعدتُ قراءة هذا الكتاب في الوقت الذي ملأتُ فيه رأسي بفكرة البحث عن منزل . كنتُ قد غادرت كندا قائلا مع نفسي إنّه حان الوقت للعثور على منزل ، و من الأفضل أن يكون في فرنسا ، حيث يمكنني أن أقيم المكتبة الضخمة التي كنتُ أحلمُ بها دائما . و أنا أبحث بكلّ اليأس الذي يعرفه من لا يعثر على ما يبتغي ، من يتردّد ، من يتخلّى ، أو من يجهل ما سيحدث ، كنتُ أعيدُ قراءة « الرّيح في الصّفصاف « . انتبهتُ إلى أنّ الأمر لا يتعلّق بكتاب أطفال أبدا ، بل برواية تدور حول فكرة « المسكن الخاص « ، حول البحث عن مكان يمكن تسميته أخيرا « بيتي و سُكناي « و حكاية الحيوان هذه استجابتْ باستمرار لتساؤلاتي و ليأسي طوال هذا الشهر من البحث . اخترتم بيت كاهن في « بواتيي « حيث خزانات الكتب تحتل غرفا عديدة و الجدران ، تبدو ، أنّها ارتفعت من حول الكتب ... - بالفعل ، برؤيتي لبيت الكاهن ، تخيّلتُ ما ستكون عليه هذه المكتبة ؛ بمعنى ما سيجعل من قراءاتي قراءات حيّة . هذه الأخيرة تشبه مكتبة مدرستي الثانوية لمّا كنتُ صبيّا في « بوينوس إيريس « : كلّها من خشب مع إضاءات خافتة حيث نستشعر صمتا مُلبّدا . لا أحبّ المكتبات المضاءة ، لأنّه يبدو لي مهمّا أن لا نرى كلّ شيء ، أن لا نتمكّن من أن نقبّل بالعين كلّ الكتب التي تمّ إسكانها فوق الرّفوف . أريد أن يكون في مستطاعي التركيزعلى الصّفحة التي اخترتها . و بالطبع ، مكتبي يوجد داخل هذه المكتبة : فيها أشتغل ، فيها أقرأ و أحيانا أحبس نفسي فيها ليلا ؛ لأنّه في الليل ، هناك بيئة جدّ خصوصية في المكتبات . لمّا يكون الوقت نهارا ، أنت هوالشخص الأهم ؛ أنت القارىء ، تدخل إلى القاعة و تختار الكتاب الذي تريد . في الليل ، يحدث العكس : الكتب هي التي تكلّمك و يطلب هذا الكتاب أو ذاك أن يتمّّ إخراجه من الرفّ ؛ إنّها هي التي تختارك و تصطفيك . ماذا تريد أن تقول ؟ - إنّها تجربة مماثلة للتي يمكن أن تقوم بها حين تجد نفسك في حجرة بها أناس عديدون ، تحسّ نفسك على الفور منجذبا لشخص ، لشخص واحد : لأجل لا شيء ، لنظرة ، لطريقة في اللباس أو في الابتسام . يمضي الأمر نفسه مع الكتب . و كما أنّ القارىء ليس له أيّ موجب كي يكون ذا زواج أحادي monogame ، يمكن أن أنتقل من كتاب إلى آخر بكلّ سهولة . لكنّها ليست إرادتي التي تتدخّل : إنّها الكتب التي تعرض نفسها عليّ . المكتبة ، أ هي شبيهة بمتاهة ؟ - إنّها فكرة رائعة ، لكن فيما يخصّني ، لا أقبلها . أملك أكثر من ثلاثين ألف كتاب . إنّه من الصّعب أن تهتدي ضمنها بدون قدر من المنطق ؛ منطق قد لا يوافق ، لاشكّ ، قرّاء آخرين . إنّني أرتب كتبي حسب اللغات : هناك قسم فرنسي ، قسم إنجليزي ، قسم ألماني ، قسم إيطالي ، قسم روسي ، قسم إسباني ... و ضمن هذه الأقسام ، ترتيب أبجدي للكتّاب دون مراعاة للنّوع . لكن عندي بعض الأقسام الموضوعاتية حول القرون الوسطى ، حول الجسد ، حول أسطورة فاوست ، حول الأدب البوليسي ... إنّها ، أي الكتب ، تتحرّك كثيرا من رفّ إلى آخر ، أحيانا أجد نفسي بينها ضائعا . المكتبة هي إذن متاهة بالنسبة للزائر ، لكن لا يجب أن تكون كذلك بالنسبة إليك . المكتبة هي انعكاس لطريقة تفكيرك ؛ إنّها صورتك الشخصيّة . يمكنني أن أروي لك حياتي من خلال مكتبتي و يحدث لي مرارا أن أتصوّر أنّي أحبّ زيارة شخص لا أعرفه و أن أخمّن حياته فقط برؤيتي و قراءتي للكتب الموضوعة على رفوف خزانته . حتى من بين الكتب التي نحتفظ بها و ليس لنا شغف كبير بها ، يمكننا أن نعثر على مادة لصورة شخصية ؛ لا نرسم صورة لأحد فقط بالاحتفاظ بما اختاره من كتب ، ما نُهملهُ أو ما ليس في الإمكان اقتناؤه يرسمُ كذلك صورتنا الشخصية . هل الهوامش الموضوعة في الكتب تلعب دورا في الإحاطة بشخصية القارىء ؟ - الهوامش هي حيّز المُحادثة مع الكتاب . إنّه من خلال الهوامش ، نشرع في محاورة الكتاب . حتى ، و إن كنّا لاحقا ، غير قادرين على أن نعيد قراءة أو نتذكّرما كتبناه ، في الماضي ، في هذه الهوامش ، يبقى إلى الأبد أثر هذه المحادثة ، هذه المحاورة الصّامتة مع الكتاب المقروء . بالنسبة لي ، يبقى مؤثرا للغاية أن أجد في كتب الآخرين تعليقات قارىء ما . الهوامش تسمح بالتمثيل المادي لهذه العبارة الرائعة التي هي : « التحاور مع الكلمات « . لا نتحاور فقط مع الكاتب ، و لكن أيضا مع كلّ القرّاء الذين تناولوا هذا الكتاب بين أيديهم . هكذا ، لمّا أفتحْ نسختي من « كيم « ل « روديار كيبلنغ ( كاتب بريطاني 1865 1936 ) لا أسمع فقط صوت كيبلنغ ، بل أيضا أصوات « جيد «،» بورخيس « و « غراهام غرين « . كيف لكم أن تُفسّروا أنّ كتابا ما يمسّنا و يؤثر فينا ؟ - كيف يمكن أن نفسّر أنّ أيّ شيء في هذا العالم يؤثر فينا ؟ لماذا منظر ما أو شخص ما يحرّك شعورنا ؟ أجاب بورخيس عن هذا السؤال بالقول إنّ ما يمسّنا هو قرب حدوث كشف لا يقع . أحبّ كثيرا هذا التعريف . و أنا أقرأ في كتاب ، لديّ دائما إحساس أنّ شيئا ما سيُقال ، شيئا لا يمكن أن تترجمه الكلمات التي وظفها الكاتب ( مهما كان عبقريا ) . هذا ما يضع القارىء في كمائن ، في هذه الحالة من التوتر جدّ المثير . ما قيل في الكتاب يشرحه و يفسّره الكتاب نفسه و يمكن أن يفلت منّا و يفوتنا . و إذا ما أمسكنا به ، فدائما من خلال الكلمات الموظفة من قبل الكاتب و المقروءة من لدن القارىء . هذا هو التفسير الوحيد المقبول الذي يمكن أن نعطيه لهذه اللحظة السحرية و العجيبة حيث بُقع الحبر على الصّفحة تُحوّلّنا فجأة ، تجعل منّا شخصا لا يعرف كيف سيصير . لماذا إعادة قراءة كتاب بدلا من اكتشاف آخر جديد ؟ - قراءة جديدة هي مثل لقاء جديد : يجب القيام بمراسيم التعارف . هذا يفترض استيضاحا و تمرّنا على الآخر ( بالنظر إلى الكتاب ) . في المقابل ، لمّا يكون التعارف قد تمّ ، لحظة الدهشة قد انصرمت ، يمكننا الذهاب بعيدا جدّا . اكتشاف كتاب جديد هو أمر أخاذ ، لكن قراءة كتاب نعرفه و إذن أحببناه هي تجربة أكثر إثارة أيضا . ننغمس ثانية في الكتاب و نحن نقول :» أعرف الطريق ، لكن يمكنني أن أكتشف أشياء أخرى ، أن أنسج لقاءات أخرى في قلب التي سبق لي أن حققتها « . هل حصل أن أعدتم قراءة كتاب لم تتعلّقوا به و فجأة شرعتم في حبّه ؟ - بالتأكيد . هنا يتعلّق الأمر بتجربة مُحيّرة ، لكنّها حيويّة . هذا حدث لي مع « جزيرة الكنز « ل « ستيفنسون « التي لم أُشغف بها إطلاقا حين قرأتها مُراهقا . أعدتُ اكتشافها بمتعة فائقة منذ بضع سنين . في تلك اللحظة ، كنتُ أرى نفسي أتعرّف من جديد على القارىء الذي كنتُه في شبابي المبكّر و أقول في داخلي :» أية تعاسة إذ لم ينجح هذا الألبرتو ذي الإثنتي عشرة سنة في إقامة حوار مع ستيفنسون ، في تلك المرحلة من حياته ! أية سعادة كانت ستكون ! « . هذا يعني أنّنا لا نستحق دائما الكتب التي نكتشفها . يجب أحيانا الانتظار طويلا حتى نكون القارىء لكتاب سيُبلبلُنا . ماذا يعني « استحقاق « الملاقاة مع كتاب ؟ - الكتاب هو احتمال شيء ما . الكتاب في حدّ ذاته لا شيء بتاتا . لكن ، له إمكانية أن يصير شيئا ما في أعين و ذهن و عواطف قارئه . على أن تكون هذا القارىء ، فليس ممنوحا لأيّ أحد . القراءة نشاط نخبوي ، للأسف ! نحن عدد قليل من القراء في العالم و هذه الجماعة تضم ، هي نفسها ، القليل من كبار القراء . الامتياز الوحيد هوأنّ هذه الجماعة هي في الآن نخبوية و في وسع الجميع أن ينضمّ إليها . يبدو أنّكم تنقادون لهذه النخبوية المنفتحة ؟ - للأسف ، نعم . كنت أفضّل ، بالطبع ، أن تكون القراءة أكثر شيوعا . يمكن أن نتحسّر على هذه النخبوية ، لكن يجب أن نعي أنّ المرء لا يصير قارئا بسهولة . ثمّة تدريب شاق يلزم القيام به و الطبيعة الإنسانية لا تحبّ دائما بذل الجهد ... القراءة ليست نشاطا يسيرا كما ألعاب الفيديو و مشاهدة التلفاز . القراءة تستلزم تمرين الفكر ، إرادة الذهاب فيما وراء الظاهر ، التوغل أعمق فأعمق في النص ، الذهاب خلف ما يبدو أنّه قيل على سطح الصّفحة ... كلّ هذا يمثل جهدا حقيقيا ، و الحال أنّ زمننا لم يعد يعتقد في سعادة المشقة : نريد أن يكون كلّ شيء أكثر سرعة و أكثر سهولة . كيف الخروج من هذا المعضل ؟ - بالتذكير أوّلا بأنّ القراءة تمنح المتعة . نظن غالبا أنّ المتعة تقدّمها المُسلّيات ، في حين أنّ قمّة المتعة توجد في التعمّق ، في الفكر الوعر . إنّها متعة كبيرة ، بل أفضل : سعادة بالغة أن تشرع في حوار مع شخص ك « كيبلنغ « الذي يتركك غالب الوقت تعتقد أنّك أكثر ذكاء منه . أ يلتقي القارىء دوما بالكاتب ؟ - نعم ، على طريقته . بورخيس كان يقول أيضا إنّ الفارق بين الكاتب و القارىء هو أنّ الكاتب يكتب ما يستطيع و يقدر عليه ، في حين أنّ القارىء يقرأ ما يُريد و ما يشاءُ . بين هذه « القدرة « و هذه « المشيئة « هناك اختلاف كبير . أنْ تكون كاتبا هو أن تقوم بمهمّة ؛ أنْ تكون قارئا هي صيغة في الحياة . القراءة هي ما يحدّدنا باعتبارنا كائنات إنسانية . نأتي إلى العالم كحيوانات ، لكن حيوانات يمكنها من خلال القراءة أن تفكّ رموز العالم الذي تعيش فيه . ثمّة ما يشبه لغة الأثر الأدبي في كلّ ما يحيط بنا الكون ، الطبيعة ، وجوه الآخرين ، المناظر ... لهذا يجب أن نتعلّم القراءة . يمكنني أن أستغني عن الكتابة ، و لكن أبدا ليس عن القراءة . لمّا انتحر « مونترلانت» ( كاتب فرنسي 1869 1972 ) أعطى ، بين تعليلات أخرى ، كونه أصبح أعمى و لم يعد في إمكانه أن يقرأ ... - نعم ، أنا أوافق على ما قام به . لن أقتل بالتأكيد نفسي لشتى الأسباب و على اختلافها ، لكن سأحسّ أنّي ميّت . حين تتحدّثون عن الإثني عشر كتابا التي رافقتكم شهرا بشهر خلال تلك السنة ، تستحضرون العمل ، و لكن أيضا و بتوسّع ، السيرة الذاتية للكاتب . هل الإثنين غير منفصلين ؟ - هناك دائما لعبة بين القارىء ، العمل و المؤلف . هذا الأخير يتجلى في ذهن القارىء كما يتمّ تخيّله و ليس بالضرورة كما هو في الواقع . السيرة الذاتية تُبتدع من قبل النص نفسه . النص يطرح على القارىء أسئلة ، تسمح سيرة الكاتب بالإجابة عنها . لهذا في « مفكرة قارىء « أمزج انطباعاتي كقارىء بسيرة موجزة لكلّ كاتب . حين أقرأ شاتوبريان مثلا ، أحاول أن أتخيّل كيف كانت حالته الذهنية في اللحظة التي كان يكتب فيها المقطع الذي أكون بصدد قراءته . هذا ينطبق أيضا على كيبلنغ : في حالته ، يبدو لي ضروريا التفكير في صلاته بالأطفال . كيبلنغ عاش طفولة شقيّة جدّا ، حيث توالت على حياته الفصول الفظيعة حتى ليُمكننا أن نتساءل إذا ما استطاع التغلّب عليها أبدا . وُلد في الهند،غير أنّ أبويه أرادا أن يتربّى في إنجلترا ، أرسلاه إذن عند سيّدة تكشّفت عن امرأة سادية و قاسية القلب و لم يكن عمره سوى خمس سنوات ، برفقة أخته تريكسي ذات الأعوام الثلاثة . و لأنّ الأبوين كيبلنغ كانا خائفين من توديع طفليهما ، تركاهما دون أدنى كلمة توضيح عند هذه الأرملة الشنيعة . ظلّ الطفلان عندها خمس سنوات . كان الصّغير روديار يتعرّض للضّرب ، للإهمال و المرأة لم تلاحظ أنّه في الطريق ليصير أعمى . يبدو لي بالغ الأهمية معرفة هذه اللحظة من سيرة كيبلنغ لنُدرك كيف خلق أسمى أطفال الأدب : Kim et Mowgli . بالموازاة مع « مفكرة قارىء « ، كتبتم سيرة شائقة و لكن مختصرة جدا عن كيبلنغ و الحال أنّ هذا الأخير كان يكره السيرة : كان قد اعتنى بإحراق مراسلات والديه عند وفاتهما و زوجته « كاري « ستُحرق بدورها أوراقه قبل أن تموت . سيرة كيبلنغ هي سيرة انتهاكية . أ ليس كذلك ؟ - بأحد المعاني ، نعم . كيبلنغ عمل بالفعل حتى لا تكون هناك أبدا سيرة عنه . هذا العمل في الأصل ( كيبلنغ : سيرة ذاتية موجزة 2004 ) جاء بناء على طلب من ناشر كان يريد توجيهه إلى جمهور من « الفتيان « كما يُقال بمفردات التسويق . غير أنّ المشروع لم ير النّور إطلاقا . مع ذلك ، كتبتُ هذا الكتاب و ناشر كندي مبتدىء نشره سنة 1998 في طبعة شنيعة مليئة بالأغلاط المطبعية . كيبلنغ يدعو كتاب السيرة « بآكلي لحوم البشر « . هل ترتضون هذا الوضع ؟ - هذه التجربة تحدّد بشكل مناسب ، بالفعل ، عمل كاتب السيرة : يتعلّق الأمر بابتلاع الشخصية و إعادة لفظها . على كاتب السيرة أن يلبس جلد الشخصية التي يكتب عنها ، يستشعر نفس الانفعالات في خضم تقديم أجزاء من هوية هذه الشخصية . غير أنّ هذا المسعى يظل بلا جدوى : نُنشىء دائما شخصية متخيّلة . كيبلنغ»ي» ليس هو كيبلنغ»ك» . و إذا ماباشرت يوما كتابة سيرة عن كيبلنغ ، قد تكون سيرة ممتازة دون أن يكون كيبلنغ «ك» هو كيبلنغ قرّائك ... عدا هذا ، و فيما يخصّني ، فإنّ السيرة كنوع أدبي ، أعتقد من اللازم وضع ، بوضوح ، تمييز بين سيرة الثرثرة و السيرة التي تضيء العمل الأدبي : ليس كلّ الكتاب يستحقون أن تُكتب سيرهم . بالنسبة للبعض ، كبورخيس ، كلّ شيء موجود في الأثر الأدبي ، لن تضيف السيرة شيئا . لكن ، فيما يخصّ كيبلنغ ، الأمر مختلف : حياته تُغذي عمله بكيفية غير متوقعة . كيف ذلك ؟ - تُظهره السيرة رجلا يذهب ، بدون تردّد ، إلى ملاقاة ما يُنتظر منه . عندنا صورة لكيبلنغ امبريالي تسلّطي . في حين أنّه يبقى خلاف ذلك تماما . لأجل هذا ، يجب إهمال كتب الأدغال و الإنغماس في قراءة أقاصيصه المكتوبة في سنواته الأولى و عند نهاية حياته . نكتشف عندئذ شخصية معقدة تفلت من أيّ تنميط . كيبلنغ كان يحبّ القراءة ، لكنه كان يرتاب من النقاد الأدبيين ، هؤلاء « القراء المحترفين « . سيُؤلف قصيدة تستخف بالفعل النقدي : « لمّا الأشعة الحمراء الأولى لشمس وليدة تشع على خضرة و ذهب الفردوس الأرضي ، أبونا آدم ، جلس تحت الشجرة ، يُحرّك عصاه في الذبال ( تربة عضوية ) ، و أوّل رسم خشن يراه العالم يُبهج قلبه الجبّار إلى أن يهمس الشيطان من وراء ورق الشجر : جميل ، و لكن أ هذا من الفن ؟ « . كيف نُصالح بين القراءة و النقد ؟ - كلّ قارىء هو ناقد . لكن ، حين نمتهن القراءة ، نترك المتعة جانبا في أغلب الحالات . ثمّة بالطبع استثناءات تستحق الذكر . القارىء الذي ينتقد دون أن يسهو عن المتعة ، يبدو لي ، لم يفقد كلّ شيء . كيبلنغ كان يحذر من كتيبة المنظرين الذين يحلّلون و يُمحّصون عمله . القراءة لا تعني بالضرورة ممارسة التنظير على ما قرأناه . هناك العديد من الناس اليوم يكتبون عن الأدب دون أن يهووا الأدب ، مثلما هناك العديد من الحدّادين يطرقون الحديد دون أن يُحبّوا الحديد . نحن ندين ل» سانت طوماس « ابتكار ما يدعوه النقاد « قصد أو نيّة المؤلف « : ليكون في المستطاع التجادل حول إذا ما بلغ الكاتب قصده أو لا . غير أنّ الأمر ، على الدّوام ، أكذوبة . حين سُئل ت ، س ، إليوت ماذا كان يريد أن يقول حين كتب : « نمران ، تحت شجرة، يوم صيف « ، أجاب : « بهذه الصورة ، كنتُ أريد القول : نمران ، تحت شجرة ، يوم صيف « . هذا ما في مستطاع الكاتب أن يقوله . في المقابل ، يبدو لي ضروريا أن يكون النقاد الأدبيون موجودين مُذعنين للإنقياد للمتعة و ليس الميل إلى التألق من خلال نظرية من النظريات . في الجملة ، نقد يشبه الشمس solaire أكثر منه نقد مدرسي scolaire ؟ - نعم ، تماما . لتدعْ شطحاتك تعبّر عن نفسها و ستكون لي الرّغبة في قراءة الكتاب الذي تُحدّثني عنه . لكن ، إذا ما طلبت مني قراءة كتاب كنموذج لنظريّاتك ، صراحة لن أفتحه . هوامش : ( من وضع المترجم ) * ولد ألبرتو مانغويلAlberto Manguel بعاصمة الأرجنتين عام 1948 ، اكتشف مبكرا شغفه بالكتب و أثناء عمله بمكتبة أنغلو ألمانية تعرّف على الكاتب المعروف خورخي لويس بورخيس الذي سيطبع كيانه بأثر عميق . ما بين 1964 و 1968 كان يتردّد على منزل بورخيس حتى يقرأ له بعد أن أصبح هذا الأخير أعمى . بقربه تعلم أن يقرن فعل « القراءة « بفعل « المتعة « . غادر الأرجنتين و تنقل عبر بلدان عديدة ، منها كندا التي تجنّس بجنسيتها . نشاطاته كمترجم و ناشر و ناقد أدبي قادته إلى الالتفات إلى الكتابة ، فألّف العديد من الكتب و الروايات التي أضحت معروفة عالميا . منذ 2001 استقر بفرنسا و أنشأ في قرية « بواتيي « مكتبته الضخمة . من أهم إصداراته نذكر : Une histoire de la lecture _ 1998 Dans la foret du miroir _ 2000 Chez Borges _ 2003 Journal d'un lecteur _ 2004 La bibliothèque , La nuit _ 2006 La cité des mots _ 2009 * دانيال بيناك Daniel Pennac من مواليد الدارالبيضاء عام 1944 ، كاتب فرنسي ، أصدر العديد من الأعمال ، بعضها اتخذ طابعا بيداغوجيا منها : Comme un roman ( 1992 ) و فيه عالج حقوق القارىء العشرة ، نذكر منها : الحق في عدم إنهاء الكتاب / الحق في القفز على الصفحات / الحق في القراءة بصوت مرتفع / الحق في العزلة عند القراءة / الحق في القراءة في أيّ مكان ... و أيضا كتاب Chagrin d'école _ 2007 ** Magazine LIRE , n? 330 , 2004 , P : 114 _ 120