المؤسسات الأفريقانية الإسبانية: من الدراسات و الاستكشافات الجغرافية إلى الهيمنة المركنتيلية والتوسع الاستعماري في افريقيا حافظت مختلف المؤسسات الأفريقانية بإسبانيا على علاقة متميزة مع الحكومة اللبرالية، بحيث طُرحت خلال تلك الفترة قضية القارة الإفريقية وانعكاساتها على السياسة الوطنية والدولية. ويبدو أن هذا الاهتمام قد عجّل بتبنّي اسبانيا لسياسة توسّعية منفتحة على الخارج ومركزة في برامجها على تطوير المشاريع الاستعمارية في الضفة المقابلة لمضيق جبل طارق. وهو ما تؤكده شهادة إيلينا إرنانديث ساندويكا «Elena Hernández Sandoica» حين أشارت -في دراسة لها-إلى لقاء أجراه الملك ألفونسو الثاني عشر مع نخبة من الجمعية الجغرافية لمدريد «Sociedad Geográfica de Madrid» لتشجيع استكشاف واستغلال إفريقيا، وذلك في إطار برغماتي يميّزه التنسيق والتعاون بين المؤسسات العلمية وجماعات الضغط/لوبيات التوسعية-الاستعماري. جاء بزوغ الجمعيات الأفريقانية خلال تلك المرحلة استجابة للتحولات التي عرفها المجتمع الإسباني، وهو السياق الذي شجعت فيه الرأسمالية كل المؤسسات العلمية التي من شأنها أن تُسهم في إنجاح مخططات استغلال القارة السمراء. وقد كان للجمعية الجغرافية لمدريد دورا طلائعيا في ترسيخ الوعي التوسعي عبر ما كانت تنشره في منشوراتها. ففي سنة 1876 راسل كل من فرانثيسكو كوييو «Francisco Coello» و إدواردو سافدرا «Eduardo Saavedra» وخواكين ماكناز «Joaquín Macanaz» مختلف الهيئات الحكومية والنخب المنتمية لعالم الدبلوماسية والاستثمار، بالإضافة إلى لِجَن تمثل البحث العلمي، بغية تدارس وضعية العلوم الجغرافية في إسبانيا، وهو ما أسهم في انعقاد الاجتماع الذي نظمته الأكاديمية الإسبانية للتاريخ، والذي حضره باحثون ومثقفون وسياسيون ودبلوماسيون. وأكد فرانثيسكو كوييو خلال إحدى جلسات ذلك اللقاء على الدور الحيوي للمؤسسات الجغرافية في مشروع استكشاف واستعمار إفريقيا، خاصة بعد الحملات التي قام بها ليڤنستون وستانلي «.»Livingstone y Stanley وفي شهر مارس من نفس السنة، انعقد الجمع العام للجمعية الجغرافية لمدريد؛ حيث تمّ الإعلان عن تأسيس مكتبها المسيّر، وعن البنود والقوانين المنظمة لها، والتي تم نشرها على صفحات «نشرة الجمعية» «Boletín de la Sociedad Geográfica de Madrid" وركز أعضاؤها في مداخلاتهم على ضرورة تحفيز المعارف الجغرافية، ونشر كل ما ينتجه الباحثون في هذا المجال. واستجابة لذلك، نشرت "الجمعية الجغرافية لمدريد" العدد الأول لمجلاتها. وطلبت الأوساط الأفريقانية الإسبانية في أواخر سنة 1876 من ملك بلجيكا ليوبولد الثاني "Leopoldo II» إشراك إسبانيا في الجمعية الدولية لاستكشاف إفريقيا Association International africaine. وبعد أن وافق الملك على الطلب، تم إحداث «الجمعية الإسبانية لاستكشاف أفريقيا Asociación Española para la Exploración de África « في 16 شتنبر 1877 والتي ترأسها الملك «ألفونسو الثاني عشر» في مرحلتها الأولى. ووسّعت المؤسسات الأفريقانية نطاق أنشطتها في أوائل الثمانينيات؛ بتزامن ذلك مع تشكل الحكومة اللبرالية. واقترح خواكين كوستا "Joaquín Costa"، وهو سياسي ومثقف من رواد الايدلوجية الأفريقانية، في اللقاء الذي عقدته " الجمعية الجغرافية لمدريدSociedad Geográfica de Madrid " في 22 ماي 1883، على الحاضرين برنامجا تجاريا واستعماريا يخصّ القارة الإفريقية، مؤكدا في هذا الباب على أهمية المشاريع التي أنجزتها الجمعيات الأفريقانية الأوربية، وعلى ضرورة تبنّي بعض هذه المشاريع. وافتتحت في نفس السياق وبنفس الأهداف يوم 5 نونبر 1883 أعمال المؤتمر الإسباني للجغرافية الاستعمارية والتجارية "Congreso Español de la Geografía Colonial y Mercantil"، بحضور أهم المتخصصين في الحضارة الإفريقية. وقد أكد كل من خواكين كوستا وبديركال Pedergal" " -خلال إحدى الجلسات -على وجوب تقاسم المصالح في إفريقيا مع باقي القوى الأوربية؛ كما طالب أعضاء المؤتمر من الحكومة تمكين الجمعيات الأفريقانية من الحصول على جميع المعلومات التي تتعلق بتطلعات إسبانيا بالقارة الإفريقية. وهكذا حث الحاضرون في نهاية الجلسة على ضرورة دعم النشاط الاستعماري والتجاري الإسباني في الشواطئ الإفريقية، وذلك قصد الظفر بمكانة مهمة واعتماد وكلاء إسبان في القارة السمراء مع التركيز على ضرورة إشاعة الحس الإفريقي بين الرأي العام، من خلال تقديم محاضرات ونشر كتب ومقالات تتناول أهمية القضايا الإفريقية بالنسبة إلى إسبانيا. كان لانعقاد المؤتمر الإسباني للجغرافية الاستعمارية والتجارية نتائج مباشرة؛ حيث تأسست في نفس السنة -طبقا لما تم التعاقد عليه-، الجمعية الإسبانية للأفريقانيين المستعمرين Asociación Española de» Africanistas y Colonistas «، والتي ترأسها فرانثيسكو كويو. وأرسلت تلك الجمعية بعد مرور سنة واحدة عن تأسيسها بلاغا إلى الحكومة طالبتها من خلاله ببناء سفن كبيرة مجهزة بوحدات عسكرية قصد السيطرة على واد الذهب "Río de Oro " وسنترا "Cintra" « وخليج سانتا مريا « Golfo de Santa María». ولم تبخل الصحافة الإسبانية بدعمها لمختلف الأنشطة المؤسساتية التي نظمتها الجمعيات الأفريقانية. فقد نوّهت -على سبيل المثال لا الحصر-صحيفة الامبرثيال «El Impracial"، بالنتائج الإيجابية لمؤتمر الجغرافية الاستعمارية والتجارية. وكان تعليقها على هذا الأمر كالتالي: "تتجلى أهمية المؤتمر في توفير الوسائل والإمكانيات التي من شأنها أن تمكّن إسبانيا من توسيع رقعة تأثيرها وتجارتها، وهي بمثابة خطوة أولى لمد نفوذها في السواحل الشمالية والغربية لإفريقيا. لقد كشفت المحاضر التي كتبها منظمو المؤتمر عن وجود أحداث يجهلها الكثيرون والتي تؤكد بثقة أن إسبانيا تنتظرها آفاق مشرقة ومستقبلية في السواحل الإفريقية". وأشادت الصحيفة نفسها بدور "الجمعية الإسبانية للمستعمرين الأفريقانيين" في تشجيع الحضور الإسباني بسواحل إفريقيا الغربية وخليج غينيا. الأفريقانية في خدمة مصالح الحكومات الإسبانية في المغرب عكست القضية المغربية بوضوح خلال تلك الفترة مدى أهميتها الدولية، وتداعياتها في أوساط الرأي العام الإسباني. فالمفاوضات التي قامت بها الدبلوماسية الإسبانية مع القوى الأوربية الأخرى حول الوضع القائم أو الحالة الراهنة «Statu Quo» بغرب البحر الأبيض المتوسط، والمطالب التي قدمتها الجمعيات الأفريقانية الحديثة العهد للحكومة، جعلت من القضية المغربية المحور الأساسي للسياسة الخارجية الإسبانية. ومن هنا نطرح التساؤل التالي: ما هي مخططات ومواقف الحكومة الإسبانية والجمعيات الأفريقانية تجاه مسألة المغرب؟ إن التكامل والتوافق بين الجوانب الرسمية وغير الرسمية كان من ضمن الخاصيات التي ميّزت مختلف المواقف التي تبنتها إسبانيا تجاه الجار الجنوبي خلال هذه المرحلة. وهو ما يعني أن تلاحم الجانبين كان قويا، وكانت تفسره الرغبة الجامحة في الوقوف ضد أي محاولة أجنبية قد تمس بتطلعات إسبانيا الاستراتيجية والاستعمارية في المغرب . المؤسسات الأفريقانية الإسبانية ودفاعها عن المصالح الاقتصادية الاسبانية في المغرب أبانت سياسة الانفتاح التي ميزت علاقات إسبانيا بالمغرب خلال هذه المرحلة عن تحديث نسبي في البنى الاقتصادية والاجتماعية بإسبانيا. فقد برزت طبقة بورجوازية فتية حاولت العناصر الأكثر دينامية فيها ربط نظام إنتاجها بسياسة مركنتيلية توسعية، ناهيك عن أن اهتمامها بالأسواق المغربية جعل الحكومة الإسبانية تتجه نحو سياسة رأسمالية طموحة قادرة على إنشاء مؤسسات خاصة يتجلّى دورها في إضفاء الشرعية على أطماعها الاستعمارية، ولذلك كان لظهور عدة مؤسسات مهتمة بالحضارة الإفريقية الدور الأساسي في خلق أدب أسهم في نشر أفكارها، وأهدافها، وتقديم صورة دعائية عن مغرب خصب ومؤهل لخدمة المصالح الاقتصادية لتلك النخبة البرجوازية التي لم تبخل الحكومة على دعم مشاريعها. وبهدف إعطاء دفعة قوية للأنشطة التجارية التي تقوم بها هذه المؤسسات الأفريقانية، اقترح وزير الدولة في الخارجية الاسبانية، السيد موريط في الجلسة التي تم عقدها بمجلس الشيوخ بتاريخ 24 مايو 1887 نشاطا تجاريا إسبانيا موجها بشكل حصري وخاص نحو المغرب. واقترح أيضا ضرورة تشجيع العلاقات التجارية مع الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، وذلك عن طريق تقوية البنية التحتية، واعتماد جهاز المراسلات ووسائل النقل البرية والبحرية. ووقعت الحكومة الإسبانية التي يمثلها كل من فرانسيسكو ميري كولمو «Francisco Mery Colomo» في يوليوز سنة 1886 مع ممثل السلطان محمد برگاش، اتفاقية تتعلق بإقامة جهاز جمركي (ديوانة) في حدود مليلية، وذلك بهدف حماية البضائع الإسبانية في الأسواق المغربية. وبناء على البندين الرابع والثامن من تلك الاتفاقية خوّل للمنتجات الإسبانية حق التسويق في منطقة الريف. بالإضافة إلى ذلك تم تحرير التجارة الإسبانية من الضرائب في مختلف الموانئ المغربية. وتبعا لنفس النهج مكّن الدعم الذي قدمه وزير الدولة في الخارجية، السيد موريط للمؤسسات الأفريقانية المهتمة بمسألة المغرب من إنشاء خدمة البريد، وخط بحري يربط بين طنجة وطريفة وقادس. وقدّم موريط أيضا، إعانات مالية أخرى لإنشاء جهاز مواصلات يسهّل تنقل المسافرين بين الضفتين. وازدادت الأهمية التي خصصتها الحكومة الإسبانية للعلاقات التجارية مع المغرب بعد الاهتمام التي أولته شركة ما وراء الاطلسي»Compañía Trasatlántica» بالأسواق المغربية؛ بحيث كثفت استثماراتها في تصدير المنتجات المغربية ما بين سنة 1866 و1887. وأعلنت الحكومة الإسبانية في هذا الصدد على إنشاء غرفة تجارية إسبانية «Cámara de Comercio de Tánger» وهي الأولى من نوعها في طنجة في 7 دجنبر 1886 معتمدة في ذلك على أهم وكلاء جمعية الجغرافية التجارية «Sociedad de Geográfica Comercial». وبفضل التعاون مع مؤسسات أخرى تندرج ضمن نفس الإطار، حث أعضاء غرفة التجارة بطنجة على تكثيف كل الأنشطة التي من شأنها أن تساهم في تطوير وتقدم العلاقات التجارية مع الجار الجنوبي، وفي وقت وجيز أحدثت الغرفة نشرة إخبارية سمّتها «مجلة الغرفة الإسبانية للتجارة في طنجةRevista de la Cámara Comercial Española en Tánger «. وقد دافعت هذه المجلة من خلال مختلف أعدادها على تقوية الوجود الإسباني في جميع جهات المغرب، وذلك بالاستيلاء على الأراضي وغزو الأسواق بالبضائع الإسبانية، وهو ما تؤكده في إحدى مقالاتها بقولها: «لا أحد يتوفر على الشروط الملائمة للعيش وتحقيق الازدهار في المغرب مثل الإسبان. فاللغة الإسبانية هناك تحظى بعدد أكبر من المتحدثين، وفي الصفقات التجارية تهيمن العملة الإسبانية. ولذلك ينبغي البحث عن الوسائل الناجعة قصد تفادي بعض العوائق التي من شأنها أن تغير اتجاه المهاجرين الذين يتوجهون اليوم إلى إقليموهران الفرنسي نحو المغرب. ثم إن امتلاك الأراضي من طرف أشخاص، أو شركات يتوفرون على رأس مال وتعميرها بمهاجرين يعملون في القطاع الفلاحي، سيسهم في تقوية نفوذنا في المغرب». وتطرقت المؤسسات التي اهتمت بالدفاع عن المصالح التجارية الإسبانية في المغرب بما سمي بالقضية المغربية معتبرة إياها من أولويات برامجها. وخصصت الجمعية الجغرافية لمدريد Sociedad Geográfica de Madrid»، أولى أعداد مجلتها لدراسات شاملة ومتنوعة حول اقتصاد ومجتمع وسياسة وثقافة المغرب، والتي أضحت تحظى بدعم مادي ومعنوي كبير سواء من طرف الرأي العام، أو من جهة الحكومة الإسبانية نفسها. وهكذا أصبح موضوع التجارة، وقضية المنافسة في السوق المغربية من أهم مواضيع الساعة التي تناولتها مجلة الجغرافية التجارية Revista de Geografía Comercial». ونشرت في صفحاتها المداخلات البرلمانية لبعض السياسيين، الذين اعتبروا قضية المغرب؛ كقضية دولية راهنة. أدى الدعم الذي تلقته الجمعيات الأفريقانية من طرف الأجهزة الحكومية، إلى تنظيم المؤتمر الإسباني للجغرافيا الاستعمارية والتجارية Congreso Español de la Geografía Colonial y mercantil المنعقد في نونبر سنة 1887، والذي كان عبارة عن مبادرة هامة؛ إذ تم التركيز خلال أيام المؤتمر على ضرورة إنشاء مؤسسات افريقانية جديدة تهتم بالعلاقات التجارية مع المغرب، وهو ما أسفر عن تأسيس الاتحاد الإسباني-الموريتاني «La Unión Hispano-mauritana « في غرناطة، والجمعية الجغرافية التجارية لبرشلونةSociedad Geográfica de Barcelona «، والجمعية الإسبانية للمستعمرين الأفريقانيين Asociación Española de Colonistas y Africanistas» في مدريد. وعموما، فإن تأسيس كل هذه الجمعيات يعكس الاهتمام الذي حظيت به القضية المغربية من طرف الإطار المؤسساتي الأفريقاني الذي سخرته الدولة الإسبانية لخدمة مصالحها الاقتصادية، والاستراتيجية بالمغرب. وفي سنتي 1884 و1885 قامت عدة مؤسسات أفريقانية، وجمعيات جغرافية وأخرى فلاحية وصناعية وتجارية، بما فيها «الجمعية التجارية لأصدقاء البلاد Asociación mercantil de los amigos del país» والمنتديات التجارية والنوادي الصناعية التي تكفلت بتقديم تقارير إلى البرلمان الإسباني طالبت فيها بتشجيع العلاقات التجارية والاجتماعية والثقافية مع جار إسبانيا الجنوبي. وحاولت هذه المؤسسات والنوادي تحفيز ممثليها من أجل الاهتمام أكثر فأكثر بما للمغرب من أهمية في المخططات السياسة الإسبانية. أمّا «الجمعية الإسبانية للمستعمرين الأفريقانيين»، فقد طالبت البرلمان بضرورة المصادقة على إلزامية تكثيف العلاقات الاقتصادية مع المغرب، والتي من شأنها أن تسهم في تحسن الوضعية الاجتماعية لذلك البلد. وقد أعطت هذه المطالب وفي وقت وجيز ثمارها. ومكنت الجمعية الإسبانية للمستعمرين الأفريقانيين من بسط سيطرتها على التصدير الحر للمواشي والحبوب ومنتجات أخرى مغربية. وقدمت مؤسسات أخرى للسلطات الإسبانية مطالب تندرج ضمن نفس الإطار. ففي 28 يونيو 1884، طلبت إحدى الجمعيات المهتمة بالشّأن الضّرائبي من البرلمان ضرورة تكثيف المفاوضات مع السلطان قصد دعم النشاط التجاري بين إسبانيا والمغرب مع الاعتماد على سياسة ضريبية توسعية ليبرالية وحّرة. موقع المغرب في الأهمية التي أَوْلاها الإسبان للقضايا الإفريقية لا يمكن الحديث عن سياسة إسبانيا الخارجية وعن علاقتها مع المغرب خلال السنوات التي استعاد فيها نظام الملكية السابق زمام الأمور، دون الإشارة إلى الاهتمام الذي أولاه الإسبان للحضارة الإفريقية، والذي ترتب عنه ظهور الأفريقانية كإيدلوجية تبنّاها رجال السياسة، وأيضا كظاهرة ثقافية انعكست على الوضع الاجتماعي والثقافي، بحيث تجاوزت الأفريقانية بعدها الرومانسي لتتبنى استراتيجيات جديدة أبانت من خلالها عن أهدافها التوسعية المسطرة وعن تغيير جدري سواء على مستوى المناهج المعتمدة أو على مستوى الخطاب. ويتعلق الأمر إذن بتيار جديد تجلّت وظيفته في تلبية حاجيات الرأسمالية الإسبانية الفتية التي أضحت تبحث عن أسواق جديدة في البلد الإفريقي الأكثر قربا من أوربا، خاصة بعد استقلال آخر المستعمرات الأمريكية. كثيرة هي الدراسات التي أنجزت حول المغرب والأفريقانية الإسبانية. ونسبت «إلِينا اِرنانديث ساندويكا Elena Hernández Sandoica « نجاح هذا التيار إلى الارتباط الوثيق بين مصالح طبقة برجوازية طموحة وفتية، والتطلّعات الاستعمارية التي تبنتها الحكومات المتناوبة على الحكم في إسبانيا عبر إطار مؤسساتي وجمعوي أبدى اهتماما متميزا بالشأن الإفريقي. وأحالت «ساندويكا» في دراستها على ما سماه «فيكتور موراليس ليثكانوVíctor Morales Lezcano «، المَغْرَبة «Marroquismo» باعتباره قاعدة مناسبة لدراسة هذا الارتباط. وجدير بالإشارة أن نمو الرأسمالية الإسبانية لم يَحُلْ دون توطيد الروابط مع مختلف المؤسسات الأفريقانية، والتي ستطالب خلال كل هذه الفترة بضرورة التدخل في إفريقيا عامة والمغرب على وجه الخصوص، مذكرة بفوائد هذا التدخل. وشكلت هذه المؤسسات فضاء تتداخل فيه أحلام التوسع مخلّفة في أوساط الرأي العام خلطا اصطلاحيا بين كلمتين مختلفتين: إفريقيا والمغرب. وقد أكد خواكين كوستا "Joquín Costa" وگونثالو دي ريبارث «Gonzálo de Reparaz» على «أن السياسة الإسبانية في إفريقيا تعني نفسها بالمغرب». أمّا الرأي العام فقد اعتبر المغرب دائما مرادفا لإفريقيا، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن ساكنة البوادي في إسبانيا لم تستطع قط الفصل بين «هاڤانا وكوبا» و»مانيلا والفلبين» معتقدة أنها تقصد نفس الموضع الجغرافي. إن الخلط الذي رسخ في العقلية الإسبانية بين مصطلحين مختلفين، أي «إفريقيا والمغرب»، يؤكد لنا أن العقلية الإسبانية استوعبتهما بشكل متداخل وأنهما وجهين لعملة واحدة، وأن علاقة إسبانيا بالمغرب كانت تعني دائما علاقتها بإفريقيا. وجدير بالذكر أن تسمية حرب تطوان 1860 بحرب إفريقيا «Guerra de África» لم تكن نعتا عفويا، بل لأن المغرب وإفريقيا كانا يعنيان نفس الشيء. وقد اعتبر موراليس ليثكانو أن الأفريقانية الإسبانية كانت إلى حد ما مُمَغْرَبَةً «Marroquista»، أي اتخذت المغرب هدف لها. إن الطابع المغربي الذي ميز الاهتمام الإسباني بالحضارة الإفريقية كان نتيجة مسار تداخلت فيه أحداث تاريخية وثقافية وسياسية، مما أدى إلى ظهور تيار ثقافي استشعر كل المخاطر الاستعمارية التي تهدد مغرب القرن التاسع عشر. وتجدر الإشارة في هذا الصداد إلى أن العالم والجغرافي الأفريقاني الشهير فرانثسكو كويو، قد ندّد في إحدى تصريحاته بالتهديدات التي يعانيها المغرب من قبل فرنسا، مشيرا إلى الصدمة التي قد تصيب إسبانيا والأضرار التي قد تلحق بمصالحها إذا ما تدخلت قوة أوربية أخرى في البلد المجاور، بحيث قال: «ماذا سيحلّ بإسبانيا اليوم الذي قد تستولي فيه قوة أخرى على كافة التراب والسواحل الإفريقية المجاورة لنا؟ إن إسبانيا بحكم موقعها الجغرافي هي الوحيدة التي تستطيع رؤية الأجواء في تلك السواحل المطلة على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. لكننا نعتقد أن إحساس إسبانيا بكرامتها لن يدعها ترضى بأن ترفع قوة أخرى قوامها في المغرب. إنها مسألة وطنية، وعيب كل العيب أن نسمح لقوة أجنبية بأن تستحوذ على جزء من سواحل المغرب، لان ذلك يعني الاستيلاء على جزء من ترابنا الوطني». وما يستخلص من خطاب فرنثيسكو كويو، هو أن الدفاع عن المغرب واستقلاله لم يكن بمحض الصدفة، وأن بروز مصطلحات هيمنت على الأدبيات الأفريقانية خلال هذه الفترة، كالتقدير والاحترام والتسامح تجاه البلد الجار الجنوبي، كانت تستجيب ضمنيا لخطّة مفادها الحفاظ على المصالح السياسية، والاستراتيجية، والاقتصادية الإسبانية في مغرب باتت تتهدده التوسعات الامبريالية الأوربية. وخلاصة القول، إن الموقف المتساهل والمتسامح الذي تبناه الخطاب الأفريقاني يجلي في واقع الأمر عن حقيقة تاريخية تؤكد عدم استعداد إسبانيا لتبني مشروع استعماري تجاه المغرب كباقي القوى الأخرى. ثم إن دفاعها عن حرية واستقلال (البلد المجاور) كان ينبثق من الحيطة والتخوف مما قد يثير أي تدخل أجنبيي في المغرب والذي من شأنه أن يهدد أيضا سواحل شبه الجزيرة الإيبيرية وحضور إسبانيا الاستراتيجي بجهة مضيق جبل طارق.