المغرب من خلال كواليس الدبلوماسية الاسبانية بين احترام الوضع القائم ومشاريع التدخل الاستعماري 1890-1886 خلافا لكانوﭬاس ديلكستيو “Cánovas del Carstillo”، كانت لدى ساكستا “Sagasta” الثقة التامة في وزراء حكومته خصوصا منهم وزير الدولة المكلف بالعلاقات الخارجية، السيد سخسموندو موريط “Segismundo Moret”، هذه الشخصية الفذة التي تميزت بحنكتها وتجربتها السياسية والدبلوماسية خلال تواجدها في السفارة الإسبانية في لندن منذ سنة 1881. وصفوة القول إن أعضاء الحكومة اللبرالية أبانوا عن مدى استعدادهم لتبني سياسة خارجية قادرة على إخراج البلاد من عزلتها السابقة. وقد مكنت المجهودات التي قام بها موريط من الحفاظ على علاقة وطيدة مع مختلف القوى الخارجية الأخرى، مدشنا بذلك مرحلة جديدة من الانفتاح السياسي. وبناء على ما سبق ذكره، يتضح أن قضية المغرب حظيت بأهمية خاصة في مخطّطات “موريط” السياسية نظرا لسببين رئيسيين: * أولهما: هو الوضع الذي عاشته الإيالة الشريفة بعد توقيع اتفاقية مدريد 1880. * ثانيهما: يرتبط بصورة المغرب في الحس الجمعي الإسباني، وما للجار الجنوبي من ثقل داخل المورث الثقافي الاستعماري الإسباني بحكم مكانته التاريخية والجيوسياسية. كان لمرض السلطان المولى الحسن الأول ما بين 1886 و1887، انعكاسا مباشرا على وضعية البلاد، بحيث احتدّت المنافسة بين الدول الأوربية حول مصيره. وقد تم تعليل هذا التكالب الاستعماري على المغرب، بغياب الأمن وارتفاع نسبة عمليات القرصنة التي تعرضت لها السفن التجارية الأوربية بالسواحل الشمالية للمغرب. وأخبرت بريطانيا العظمى في هذا السياق كلا من فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، بأن حكومتها ستبعث بوارج حربية إلى خليج طنجة، بدعوى انعدام الأمن، والاستقرار وضعف مؤسسات الدولة. بيد أن الحكومة البريطانية وبعد مدة وجيزة تراجعت عن قراراتها تفاديا لحدوث أي توتر دولي في السواحل المغربية. عموما وضعت الحكومة الإنجليزية على طاولة مفاوضاتها إمكانية مشاركتها في تأزيم الوضع الراهن بالمغرب وكشفت بذلك عن أطماعها الاستعمارية فيه. أمّا فرنسا، فمنذ أن احتلت الجزائر في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، لم تُخْفِ رغبتها في التوسع بالجهة الشمالية والجنوبية الشرقية من المغرب، كفكيك ومناطق أخرى. وهكذا استغلت مرض السلطان مولاي الحسن الأول، فوظفته كذريعة للتدخل في المغرب، وتغيير الوضع الذي كان يعيشه أنداك؛ ناهيك عن أنها استغلت الحدث نفسه لفرض حمايتها على شرفاء وزّان قصد حثهم على المنافسة على عرش السلاطين العلويين، ومن ثمة تسهيل عملية الاحتلال في حالة وفاة السلطان. ومن جهة أخرى لم تكن الوضعية الراهنة التي كان يعيشها المغرب في منأى عن الأطماع الاستعمارية الألمانية؛ إذ أكد خواكين كوستا في مقال له بمجلة الجغرافية التجارية “Revista de Geografía Comercial”، بأن السواحل المغربية كانت هدفا مسطرا من طرف ألمانيا بقصد إقامة قاعدة عسكرية بحرية. وحسب نفس المقال فإن حلم بسمارك “Bismark” كان هو تقوية ألمانيا في المجال الحربي البحري، ثم إن عدم امتلاك ألمانيا لقاعدة بحرية في البحر الأبيض المتوسط كان سيؤدي حتما إلى فشل مخطّطاتها الاستعمارية، وهي التي سعت إلى التفاوض مع بريطانيا العظمى للحصول على امتيازات في مصر مقابل التخلي عن أطماعها التوسعية في مناطق أخرى، أي المغرب. وأكد خواكين كوستا في نفس المقال أن بسمارك قد راهن منذ البداية على توطيد العلاقة مع الحكومة الإيطالية للقيام بمناورات بحرية مشتركة في سواحل شمال إفريقيا؛ إذ سيسهل على إيطاليا عمليتها قصد الاستيلاء على طرابلس. وخصصت إيطاليا لهذا الغرض نسبة هامة من جنودها، والتي وزعتهم على مختلف ثكنات صقلية باعتبارها أقرب نقطة للساحل الافريقي. أمّا المانيا فقد حاولت القيام بإنزال قوتها العسكرية في بعض السواحل المغربية قصد احتلالها وإنشاء قاعدة بحرية مؤقتة حتى يتم تحويله إلى ميناء عسكري فيما بعد. وبالمثل شكلت إسبانيا أحد الأطرف الكولونيالية المتنافسة على المغرب متبنية مواقف متذبذبة وخجولة، بحيث حاولت دبلوماسيتها تفادي الوقوع في أزمات دولية من شأنها أن توقد نار الحروب بين القوى الأوروبية. لكن خجل المواقف الإسبانية لم يمنعها من المشاركة في القضايا الدولية، والدفاع عن مصالحها بالمغرب. ثم إن استمرار الوضع القائم كان يعني بالنسبة إلى حكومة مدريد الوقوف في وجه فرنسا للحيلولة دون توسيع أطماعها الاستعمارية إلى حدود المحيط الأطلسي. وأنه لا يمكن لأي قوة أوربية كيفما كانت أن تستحوذ على سبتة ومليلية وأن تهدد سيادتها في أراضيها المتواجدة بشبه الجزيرة الإيبيرية وجزر البليار والكناري. إن الأهمية التي خصصتها حكومة مدريد للقضية المغربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر هي جد متميزة؛ إذا ما قورنت مع الحكومات الأوروبية الأخرى. فمنذ أولى الرحلات الاستكشافية والدبلوماسية إلى حدود حرب مليلية 1893-1894 ظلّ المغرب حاضرا في تاريخ إسبانيا كمحطة يختلط فيها الهاجس الأمني بالكرامة الوطنية وثقافة الآخر المعادية لمصالحها الاقتصادية. عموما فإن الوعي الجمعي الإسباني السائد كان يعتقد دائما أن المغرب هو مستعمرة ثانوية لا يحق لأي أحد التدخل فيه بدون موافقةٍ إسبانيةٍ. تميزت أولى خطوات الانفتاح التي تبناه موريط في سياسته الخارجية بنوع من البرغماتية بهدف تأكيد حضور إسبانيا على الساحة الدولية ومشاركتها في القضايا الأكثر تشعبا. وقد أبان موريط –في تصديه لأطماع فرنسا الاستعمارية وتهديدات ألمانياوبريطانيا العظمى-عن رفضه لأي تدخل في المغرب، أو تغيير للوضع القائم. فقد أكد في إحدى رسائله-سنة 1886 -لسفرائه في الخارج، “أنه يجب إقناع وزراء أوربا بأنه لا يمكن أن يحدث شيء في المغرب دون أن تتدخل فيه إسبانيا وتأخذ منه نصيبها“. وبعد مرور سنة واحدة عن ذلك، وجه موريط رسالة أخرى لسفرائه، أخبرهم فيها بما يلي: “يجب على جميع سفراء إسبانيا في الخارج أن يستغلوا أي فرصة أتيحت لهم ليؤكدوا بشكل حاسم أن حكومتهم ستعتبر أي تغيير في النظام السائد بالمغرب وفي حدوده الترابية بمثابة قضية إسبانية، وأنها مستعدة لبذل كل ما بوسعها من إمكانيات للتدخل قصد معالجة الأمر”. استغلت إسبانيا موقعها الجغرافي وثقلها السياسي لتتدخل تدريجيا في الضفة الجنوبية للمتوسط. واستعملت دهاءَها الدبلوماسي لتفرض حضورها على المستوى الأوروبي، خصوصا في علاقتها مع الحلف الثلاثي الذي تربطها به التزامات سياسية، وأيضا في علاقتها مع فرنسا التي قدمت لها عروضا مُغرية فيما يخص مسألة المغرب. وقد استطاع موريط بحنكته أن يدافع عن مصالح إسبانيا الاستعمارية بالبلد الجار، وأن يحظى بدعم باريس وبرلين، وهو أمر ليس بالهَيّن في مرحلة لازال يخيم فيها شبح الحرب الفرنسية-الألمانية التي خلفت الآلاف من الضحايا. ولعل الحفاظ على التوازن الدولي في ظرفية كهذه كان من الدواعي التي جعلت كلا من فرنساوألمانيا يتعاملان بسخاء وود مع إسبانيا، ويدعمان سياستها الخارجية. هكذا يمكن القول، أنه بفضل المجهودات الدبلوماسية التي قام به ممثلو إسبانيا في برلين تم الحصول على مجموعة من الامتيازات، وهو ما أكدته اتفاقيات البحر الأبيض المتوسط من خلال المراسلات التي تبادلها السفيرين الإيطالي والإسباني، والتي ركزت على الأهمية الكبرى التي تمثلها القضية المغربية بغرب البحر الأبيض المتوسط، مع الإشارة إلى النتائج التي قد تترتب عن التوسع الفرنسي في شمال إفريقيا. إن دهاء الدبلوماسية الإسبانية خلال العهد اللبرالي ميزته خاصية التوفيق ما بين رضى الحلف الثلاثي والعروض الفرنسية المُغْرِيّة المتعلقة بتقسيم واحتلال المغرب. وقد اعتمدنا في دراستنا لهذه المسألة على مجموعة من الوثائق التي كشفت لنا عن الدور الذي قام به سفراء إسبانيا، خصوصا سفيرها في برلين، الكونت بنومر ” Conde de Benomar”. فما هي إذن الصورة التي تعكسها لنا المراسلات الدبلوماسية عن شخصية الكونت بنومر، وعن طموحه اللاّمتناهي في الدفاع عن مصالح إسبانيا الاستعمارية بالمغرب؟ بعث سفير إسبانيا في برلين يوم 12 أكتوبر 1887، برقية تتضمن كل ما يتعلق بالمفاوضات التي أجراها مع وزير الشؤون الخارجية الايطالي كرسبي”Crispi” والكونت بيسمارك “Conde de Bismark”. وحسب هذه المراسلة فإن إيطالياوألمانيا، ستدعمان إسبانيا في المغرب في حالة ما إذا وجدت مصالحها مهددة من طرف فرنسا، بهدف الحفاظ على توازن القوى في البحر الأبيض المتوسط. أما الكونت بنومر فقد اعتبر من جهته أن “جميع المفاوضات التي أجريت حول المغرب كانت إيجابية بالنسبة لسياستنا“. وأن حكومة ألمانيا “تدارست مع كريسبي مسألة المغرب وساقتها نحو اتجاه يلائم سياسة ومصالح إسبانيا وفق الاتفاقيات الموقعة مع ايطاليا، والمضي قدما مع الحكومة الإيطالية، وأيضا الإنجليزية التي لديها -كنظيرتها الإسبانية-مصلحة في الحفاظ على وحدة المغرب الترابية“. وأحال الكونت بنومر في السياق نفسه على تصريحات الوزير الايطالي الذي أكد له ما يلي:“قبل أن يرى فرنسا مستحوذة على المغرب يفضل أن تسيطر عليه إسبانيا بمساعدة إيطاليا وأن تبقى في موقع الاحتياط كل من ألمانياوالنمسا”. وأشار بنومر في إحدى البرقيات التي وجّهها لموريط إلى الموقف الألماني، مؤكدا أنه في إحدى المقابلات التي أجراها مع الأمير بسمارك أكد له على أن “ألمانياوالنمسا تفضلان البقاء بعيدا عن هذه القضية مخافة إيقاظ أطماع فرنسا، وأنه بإمكان إيطاليا وإسبانيا الوصول إلى حل فيما يتعلق بالقضية المغربية، وأنه إذا ما استدعى الأمر تدخلا حربيا فإن ألمانيا سوف لن ترسل سفنها وإنما ستكتفي فقط بدعمها لخطوات بريطانيا العظمى“. وحسب تقرير بنومر فان بسمارك اعتبر مصالح إيطالياوالنمسا في البحر الأبيض المتوسط وسواحل شمال افريقيا مهمة، مقارنة مع المصالح الألمانية التي هي قليلة الأهمية، مؤكدا على أن سياسة إسبانيا الخارجية تجاه هذه الجهة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح النمساوإيطاليا والاستشارة مع حكومة كلا البلدين في اتخاذ القرارات الملائمة.
* أكتوبر 1887، عندما حاولت فرنسا اغراء اسبانيا بمشروع لتقسيم المغرب بينهما بشكل حصري وخلخلة الوضع القائم وإلى جانب مشاركة إسبانيا الحلف الثلاثي في التخطيط لمستقبل غرب البحر الأبيض المتوسط، هناك قضية أخرى جعلت السياسة الخارجية الاسبانية تلفت أنظارها نحو العرض الذي اقترحته عليها فرنسا. ويتجلى في التقسيم الافتراضي للمغرب بين الدولتين. هذا العرض المغري الذي تقدم به السفير الفرنسي في مدريد السيد كامبون “Cambon” لوزير الدولة الإسباني موريط والذي اعتبره فرصة سانحة تجعل من تقسيم المغرب واحتلاله قضية إسبانية فرنسية بشكل خاص وحصري، بيد أن إسبانيا كانت تتخوف من أن يثير ذلك غضب دول التحالف الثلاثي، خصوصا ألمانيا التي ما فتئت أن أنهت الحرب ضد عدوتها المعهودة فرنسا وجعلها تغير موقفها. وعلى الرغم من ذلك فان موريط لم يمتنع عن مفاوضة الحكومة الفرنسية قصد إيجاد حل لهذا التقسيم؛ إذ أخبر سفيره في لندن، الكونت رسكون “Conde de Rascón“ في برقية وجهها له بتاريخ 25 أكتوبر 1887، بأن السيد كامبون قد اقترح ما يلي: * “أولا: الوفاء بالعهود المتفق عليها. * ثانيا: التحالف بين إسبانيا وفرنسا قصد جعل القضية المغربية مسألة فرنسية إسبانية بشكل حصري. * ثالثا: تقسيم المغرب بشكل افتراضي عندما يتأتى لنا ذلك”. عموما فإذا كانت الدولتان حسب موريط، “لم تتوصلا بعد إلى رسم الحدود و تقسيم المغرب فيما بينهما؛ بل لا تتوفران حتى على الوسائل والإمكانيات الملائمة للشروع في التقسيم”، فإن كامبون قد أكد في إحدى خطاباته أن المنطقة الشمالية للمغرب، وإلى حدود المحيط الاطلسي ستكون من نصيب إسبانيا، في حين سيكون من نصيب فرنسا المنطقة الجنوبية مرورا عبر نهر ملوية والسفوح الأطلسية الشمالية حتى المحيط الاطلسي، والذي ترى فيه حكومة باريس موضعا حيويا لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، وأيضا لبناء ميناء ذو أهمية كبرى، وذلك قصد تعزيز حضورها في إفريقيا. وتبعا لنفس النهج أرسل وزير الدولة في الخارجية الإسبانية برقية أخرى إلى كونت بنومر يخبره فيها بما يلي: “لقد عجل السفير الفرنسي بعودته إلى مدريد كما كان منتظرا وعند وصوله توجه إلى الوزارة. وفي محادثته لم يكن متحيزا لكنه بادر إلى تأكيد الاقتراحات التالية: أن فرنسا لا تطالب إلا بتحقيق وعودها مع إسبانيا والتي أوفت بها من جهته. وأن الهم الأكبر لفرنسا هو جعل القضية المغربية قضية إسبانية-فرنسية، وفور تحقيق ذلك بإمكاننا فعل ما نشاء، بل أكثر من ذلك سنقسم المغرب وستأخذ إسبانيا الساحل الشمالي والباقي لفرنسا” . وعكس رد الكونت بنومر فيما يتعلق بالتقسيم، وضعية إسبانيا أمام قضية جد معقدة بإمكانها أن تُخِلّ بعلاقتها مع الحلف الثلاثي؛ وهو ما جعله يحذّر حكومته من النتائج الوخيمة التي قد تترتب عن الاقتراح الفرنسي، مؤكدا على ضرورة استشارة ألمانيا في كل صغيرة وكبيرة. وقد أكد في برقية أخرى وجهها إلى موريط، أن “ما تريده فرنسا هو عزلنا عن أوربا والتشويش على العلاقة التي تجمعنا بها، والبقاء في المغرب وجها لوجه مع فرنسا لوحدها من أجل استيلائها على ذلك البلد. وأنّ كون القضية المغربية، قضية أوربية أو غير أوربية لا يتعلق برغبة وقرارات فرنسا، بل لأنها كانت كذلك (أوربية) منذ الوقت الذي أعلنت فيه قوى أخرى عن مصالحها في المغرب”. وعلق كونت بنومر في أحد التقارير التي أرسلها إلى مدريد على المحادثات التي أجراها مع أعضاء الحكومة الألمانية قائلا: “فيما يخص اقتراح “كامبون” في جعل القضية المغربية قضية فرنسية-إسبانية، نحن كنّا واثقين من أن السيّد “كامبون” لا يمكنه اعتبار تلك القضية في قبضة أيدي فرنسا ولا إسبانيا، ولا حتى أيدي قوى أخرى، إنها قضية أوربية محضة منذ أن سطرت انجلتراوإيطاليا أولوية مصالحها هناك”. وكان بنومر يعلم بأن إسبانيا ستبدي اهتمامها تجاه أي فرصة للتقسيم، وهو ما جعله يركز كل جهده للحصول على موافقة الحكومة الألمانية، الشيء الذي لم يكن سهلا. إن تقسيم المغرب بين إسبانيا وفرنسا يعني تهميش مصالح الحلف الثلاثي في البحر الأبيض المتوسط. وأن احتلال فرنسا للمغرب لم يكن ليرضي ألمانيا باعتبار أن ذلك سيمكنها من تحقيق حلمها وهو إنشاء الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية الكبرى في إفريقيا. وأجرى بنومر مجموعة من المقابلات مع وزير الشؤون الخارجية الألماني حول مسألة التقسيم الثنائي للمغرب ومدى انعكاسه على التوازن الدولي المتعلق بغرب البحر الأبيض المتوسط. وأشار في إحدى مراسلاته إلى المحادثات الأخيرة التي أجراها مع المسؤولين الألمان، والتي تطرقوا فيها للاقتراح الخاص بتقسيم المغرب بحيث أوصى ممثل الحكومة الألمانية السفير الإسباني بأن توضح فرنسا اقتراحها؛ مع تساؤله حول ما إذا كانت ستمنح إسبانيا السواحل والموانئ فقط، أو ستخول لها حق احتلال جل التراب المغربي. وذكّر الوزير الألماني السفير الإسباني في المحادثة نفسها بضرورة التفاوض مع ممثلي القوى الأخرى المنضمة للحلف الثلاثي، أو المتعاطفة معها، والتي لديها مصالح في المغرب، مؤكدا له أنه “يجب أن تكون إنجلتراوإيطاليا على علم بهذه القضية لكي لا تظنا أن إسبانيا ستخونهما“. لم تستطع إسبانيا إخفاء الحماس التوسعي الذي أثاره العرض الفرنسي المتعلق بتقسيم المغرب، بالرغم من الضغوطات التي مارستها عليها ألمانيا. أمّا السفير الإسباني في برلين فلم يُخْفِ أبدا تطلعاته الاستعمارية تجاه ما اقترحته فرنسا. ففي إحدى المراسلات التي وجهها إلى وزير الحكومة الإسبانية أدلى بالتصريح التالي: “لقد تفحصت جيدا اقتراح كامبون ولم أجده سيئا للغاية. بيد أنه إذا تم توسيعه سيكون اقتراحا جيدا لخدمة السلم العام والحضارة المغربية، وبذلك يجب على إسبانيا أن تقبل ما تقترحه عليها فرنسا […] لذا فهي مستعدة لبسط نفوذها وحمايتها للمغرب وممارسة الحكم بموافقة السلطان، وتنصيبها لمقيم عام بالمغرب، وتزويده بقوات عسكرية إسبانية لحماية بعض مواقعهم مع إعطاء كافة الضمانات ليس لاحترام المعاهدات المتفق عليها فحسب؛ بل من أجل فتح أبواب التجارة والصناعة الأوربية لهذا البلد الذي لازال حتى اليوم يعيش في عزلة تامة“. وبالرغم من سخاء عرض فرنسا، فإن كونت بنومر جعل من مواقف القوى الأخرى مسألة ضرورية ترتبط ارتباطا وثيقا بالوضعية الدولية، وبعلاقات إسبانيا الدبلوماسية. ولعل ذلك هو ما جعله يؤكد أن “الحكومة الإسبانية لا يجب أن تخطو ولو خطوة واحدة في هذا القضية، دون استشارة حلفائها الثلاثة وإنجلترا أيضا، ولا يجب القيام بأي شيء إلا بالاتفاق معهم”. والحقيقة أنه سواء تعلق الأمر بسفير إسبانيا في برلين أو بوزير الدولة في الخارجية أو بباقي سفراء البلاد، فإنه لم يكن لأحد منهم الجرأة لإقحام إسبانيا في قضية قد تثير لها مشكلا ذا تداعيات دولية. وهكذا عمل زعماء السياسة الخارجية الإسبانية على تأخير مشروع فرض نظام حماية على المغرب. ثم إن التقارير التي كانت ترسل من ألمانيا كانت تنذر بالتوتر الذي من شأنه أن يثير العرض الفرنسي بين دول الحلف الثلاثي. وهذا هو السياق الذي تخلّى فيه كونت بنومر عن موقفه الإيجابي تجاه ما كانت تقترحه فرنسا ليطلب من حكومته ضرورة المحافظة على الوضع الراهن تجاه الدولة المغربية، مؤكدا على ضرورة احترام التوازن الدولي حول المغرب ومعتبرا إياه موقفا وطنيا “شريفا لأن دعمنا للقوى الأخرى سيكون بمثابة الحل الوحيد لإيقاف فرنسا. ووطنيا؛ لأنه لم يحن بعد وقت المبادرة إلى المشروع المغربي. وإذا ما حتّمت علينا الظروف ذلك، فإننا سنحتاج إلى إعادة بناء قوتنا الوطنية وضمان مستقبل ملكنا القاصر، وهذا يتطلب منّا بعض السنوات، وفيما يخص المستقبل فإذا كان المغرب سيكون ملكنا، فيجب أن يتم ذلك بمراقبة جميع القوى المعنية بالأمر”. والظاهر أن إسبانيا وهي الدولة المنهمكة في مشروع إعادة هيكلة بُناها الداخلية معتمدة في ذلك على مخططات جديدة تهم سياستها الخارجية، أفرغت في المغرب كل طاقتها وأنشطتها الدبلوماسية وجعلتها مشروطة بعلاقاتها مع القوى الأوروبية الرائدة، وكذا بمصالح بورجوازية تجارية فتية أبانت منذ البدء عن رغبتها الجامحة لاستغلال الأسواق المغربية.