سمعت طرقا خفيفا على باب الغرفة، وقبل أن أتحرك من مكاني، دخلتْ. امرأة من ريشة وألوان تقتحم غرفتي، ممتلئة بشجاعة وتحدٍ. كانت كما تركتها في المرسم. لوحة في غاية الجمال، عارية الذراعين والكتفين، ولون أسود يغطي باقي الجسد. كان بها شيء غامض، وكأنه ظلام لا آخر له. قالت إن الإطار الذي وضعتها فيه كان ضيقا، وأن غرفتي واسعة ودافئة، وهي مناسبة لنوم هانئ وعميق. أخرجتْ من الدولاب قميصا أبيض من أقمصتي، سألتني عن مكان الحمام، فأشرت بيدي إلى اليمين. طلبت مني أن أقدم لها وجبة عشاء ومشروبا ساخنا، لأنها جائعة وتشعر بالبرد. وقبل أن تخرج من الغرفة قالت: –بالمناسبة، لقد رأيت مجموعة من اللوحات المعلقة قبل أن أصل إلى الغرفة… لوحات لا بأس بها، لكنها تحتاج إلى كثير من التعديل. كنت جامدا في مكاني، مصعوقا من الدهشة. تملكتني رغبة وحيدة؛ أن أدخل إلى الحمام وأسحبها من ذراعها إلى المكان الذي أتت منه. لكني لم أفعل. لا أعلم ما الذي جعلني أشعر بدفء مفاجئ وإعجاب شديد تجاه هذه المرأة الغريبة. كانت لوحة قبل قليل، والآن أصبحت امرأة تعطي رأيها بكل جسارة في عملي. قدمت لها لحماً مجففاً وحساءً بالخضر. كان شعرها الأسود المبلل ينسدل على كتفيها. كانت تبدو في قميصي الأبيض لوحة أخرى، أكثر جمالا وأناقة مما كانت عليه. كانت تأكل اللحم المجفف بشهية كبيرة، دون أن ترفع بصرها عن الطبق. فكرت «يجب أن تعود هذه المرأة الليلة إلى اللوحة. إنها تتصرف وكأنها لا تعلم حجم المأزق الذي وضعتني فيه. لا شك أنها تعلم جيدا، أنها هي اللوحة التي سأشارك بها غدا في المعرض. لا بد أن تعود هذه الليلة، لا بد أن تعود…» تركت الطعام جانبا. كانت االمرآة تعكسها، ربما كانت ترى نفسها لأول مرة. كانت تتأكد من كل جزء في جسدها، لكنها لم تكن راضية عنه. اتجهت إلى النافذة وقد ارتسم على جسدها ظل شجرة متمايل. أخذتْ نفسا عميقا وقالت «لن أعود إلى تلك اللوحة مرة ثانية. هل تعلم معنى أن تكون محاصرا بين أربع زوايا داخل ألوان غامقة لا تناسبك، وأنت تحب الحياة والحرية؟ طلبت منها أن تجلس وتخبرني ماذا حدث حتى قررت الخروج من اللوحة فجأة. لكنها لم تكن تستطيع الجلوس ولا الاستقرار في مكان واحد. قالت إن شيئا غريبا حصل لها بعد أن اكتملت اللوحة، لا تعلم ما هو، وأن الشيء الوحيد الذي تعرفه، أنها لن تبقى في مكان لم تختره ولا العيش مع ألوان لا تناسبها. كانت ترتعش، وتتحرك بكثير من الاضطراب، لكنها كانت تحاول جاهدة، أن تبدو في حالة طبيعية. اتجهت نحو الخزانة وقالت «ما رأيك بقليل من النبيذ». شكرتها، وقلت «لا، لا أشرب عادة في الليل». سكبت لنفسها كأسا وسحبت كرسيا وتقدمت به نحوي. جلست، صبت في جوفها ما في الكأس دفعة واحدة. قالت: -لا أعلم من أين سأبدأ الكلام، لكن يجب عليك أن تفهم ما سأقوله جيدا، لأني في نهاية المطاف لن أعود إلى تلك اللوحة، ولن أقبل أن يقف الجميع أمامي لأعرض عليهم هذا الجسد وهذا الجمال الذي صنعته، فيصفقون لإنجازك العظيم. أن تكون فنانا موهوبا، لا يعطيك الحق أن تخلق ما تشاء دون أن تسأله عن الشكل الذي يريده. أشعر بأني لست أنا، مسجونة داخل جسد غريب لا أعرفه… تنهدتْ قليلا وأضافت: -يجب أن تفهم أني هنا بعد الآن، وأنك فقدت السيطرة علي، ولن تستطيع العودة بي إلى اللوحة ورائحة الألوان مرة أخرى. فكرت في أن هذه المرأة تعلم جيدا ماذا تفعل، وما دامت تقول بأنها لن تعود، فإنها لن تعود. قلت «ما المطلوب مني الآن». قالت وهي تهيئ نفسها للنوم: – ما أطلبه الآن هو أن أنام. سأستعمل قميصك للنوم إذا لم يكن لديك مانع، ولا تنسى أن تطفئ المصباح قبل مغادرتك للغرفة. قررت أن أقضي الليلة في الصالة، ولم أقرر بعد ماذا سأفعل بالمرأة التي تنام الآن نوما هادئا في سريري. لم أكن متأكدا أن الذي عشته هذه الليلة كان حلما أم حقيقة. لكني متأكد أنه كان جميلا بقدر ما كان مدهشا. عدت إلى الغرفة على أطراف أصابعي، فعلا، كان هناك جسد على السرير يتنفس ويغط في نوم عميق. كان لا بد من فنجان قهوة حتى أستيقظ من صدمة المفاجأة. فكرت في أن أغير شكلها، لكن ذلك سيتغرق مني وقتا، ولم تبق سوى ساعات تفصلني عن الصباح. فكرت أيضا أن أستغل نومها العميق وأعيدها إلى اللوحة. لكني لم أفعل هذا أيضا. فكرت وفكرت… لكني لم أجد حلا يخرجني من حيرتي… كانت أشعة الشمس ترسل خيوطها من النافذة عندما فتحت عيني، كنت نائما في الصالة على الكنبة، وكان قميص أبيض ملطخ بألوان رسم غامقة يغطي جزءا من جسدي. قفزت إلى غرفة النوم، لم أجد أحدا، لكن السرير به أثر شخص نام عليه الليلة الماضية. أسرعت إلى المرسم، فوجدت اللوحة بها ثقب كبير، كأن من كان يوجد داخلها اخترقها وهرب.