في وقت متأخر من الليل .. بعد صلاة الوثر, توجهت الى فراش النوم وبدأت تتصفح الرواية المفظلة لديك : "1984" ثم تشرد تفكيرك و بدأت تتساءل مع نفسك عما فعلته .. ماذا صنعتَ.. ؟ ماذا استفدتَ من هذا اليوم.. ؟ مادورك ياترى في هذا العالم ..؟ لماذا انت هنا..؟ من تكن..؟ تستغرق وقتا طويلا دون أن تجد جوابا لهذه الأسئلة, وتخلذ الى النوم من غير أن تنتبه الى عدم إطفائك للمصباح الكهربائي.. لتستيقظ على كابوس مزعج.. العرق يتصبب من جبينك, جسدك يرتعد.. جف ريقك كمن يبحث عن الافاعي في الصحراء. أحسستَ بجسمك قد انهار تماما ,وقلتَ كأنك تعترف لأول مرة بأنك تُمارس السياسة .. وان حياتك اصبحت في خطر : "غريب ..؟ هل أفعل ما يستدعي البوليس لمطاردتي..؟ حتى في النوم ..؟ إذا كان هذا هو أمر السياسة فلا ...." ثم تستدرك قائلا : " يا له من بلد ؟ تفٌو..... ! حقا انا طالب في كلية الحقوق أعرف ان هذه الشعبة تكشف لي عن كل شيء .. أميز بين ما لي وما علي .. النضال حق يخوله الدستور .. وتنص عليه المواثيق الدولية .. والمطالبة بالحق شيء مشروع.. والنهي عن المنكر يدعمه الدين .. ولماذا إذن هذه المطاردة هنا وهناك.. ؟ في الشارع ..؟ في الكلية .. ليلا ونهاراً.. محاصرة المنازل ...؟ في النوم .. في كل مكان .. وزمان..؟ " قلت هذا بنوع من السذاجة .... ولم تجد جوابا يشفي الغليل. شعرتَ بأن رأسك يكاد ينفجر من كثرة الاسئلة , وفك رموز هذه المتناقضات وتتذكر بعد برهة ذلك الفنان الساخر .. وتستريح كأنك قد وجدت جوابا سحريا. تسترخي قليلا ثم تنهض من فراشك لتفرغ قنبلة مثانتك في المرحاض . تشرب كأس ماء لتطفأ به هذه الحرارة التي تنبعث من داخلك. وتعود إلى فراشك بعد أن اسقطت الظلام في بيتك. هذا البيت الذي اكتريتَه وسط منزل تسكن بيوته الاخرى عائلات هربت من معانات القرية لتصطدم بواقع مر وبظروف أقسى مما كانت تتصور. هذا المحيط المصغر لمجتمعك , يجعلك تتشبث بمواقفك . تستمع قليلا من الوقت الى المدياع الذي يسكن قرب وسادتك , ثم تعود الى تفكيرك العميق وتستمر فيما تسميه بأحلام اليقضة..: { سأفعل كذا .. وسأصنع هذه .. وسأساهم بتلك.. س.. س..وس... وس......} ومن نومك الخفيف استيقظت على ضجيج الأسرة التي تسكن بالصالة وهي تحاول قتل الفأر الذي أفزع أحد أطفالها الصغار .. لم تتحرك من موضعك , لكنك لعنت الواقع وصرخت في صمت . ولم تعلم هل تتعاطف مع هذه الأسرة التي أزعجها هذا الفأر في هذا الوقت المتأخر من الليل .. أم مع هذا الحيوان الذي لقي حتفه .. وتخيلت جيشا من الفئران يعتصم في فناء الدار وهو يهتف بشعارات تندد بهذا القتل الشنيع وبهذا السلوك اللاحضاري. *ما ذنب هذا الفأر المسكين الذي فرضت عليه الظروف ألا يتحرك إلا في وسط الظلام آخذا جميع الاحتياطات لتجنب السقوط بين مخالب عدو طبيعي خلق معه بالفطرة : القط .... !؟ تدفن وجهك بين يديك وسط ظلام البيت وتصرخ في صمتك المعتاد ساخرا من نفسك ومن أفكارك التي لا معنى لها . إنك إنسان يبحث عن العبث .. وتذكرتَ آلاف الناس الذين يموتون ويقتلون يوميا بلا سبب . وأجزمت بعبثية جمعية الرفق بالحيوان . ورغم ذلك لم تبد تعاطفك مع الانسان ضد الحيوان ؛ فكثيرا ما تعترف بحيوانية الانسان. - نم قليلا لعلك تستريح .... ! يالك من إنسان يكثر من المنطق والعقل ويبحث عن الحقيقة وسط الحقائق المغلوطة (...) وأعلنت ان ظهور الانسان على سطح الارض لا يمكن ان يكون إلا مجرد خطأ ناتج عن تفاعلات طبيعية ما كانت لتقع لولا الصدفة التي لعبت دورا كبيرا في ذلك . ثم تبادرت إلى ذهنك قضية التفاحة والخطيئة .. هذه الخطيئة التي ماكانت لتقع كذلك لو لم يسوس الشيطان للحية الكبرى ؛أو لو تفطن الأب الأكبر للمصيدة ؛ بل كان من الممكن ألا نرتكب هذه الخطيئة , التي كانت سببا في شقائنا , لو لم توجد هذه الشجرة أصلا في هذا المكان الذي لم يكن يخلو من المتناقضات.. حاولت ان تفرغ دماغك من أعباء هذه الهواجس؛ لكن دون جدوى . لعنت اليوم الذي تفطنت فيه لمجريات الامور . وكرهت الواقع واختنقك حزن متكور في أعلى حنجرتك وتحسرت كثيرا وبكيت بلا دموع وندمت من حيث لا ينفع الندم . فجأة صاحت منك صرخة : لااااا.. ! ! ولم تتنفس الصعداء إلا عندما تذكرت قول الشاعر : ذو العقل يشقى في النعيم بعقله... - هذا حظك في الحياة يا هذا .... ! عاد السكون الى المنزل وأعدت النور الى بيتك وأخذت قلما وورقة وحاولت ان تكتب شيئا. حاولت ان تحول ما يروج بدماغك الى قصة قصيرة , ولم تجد الى ذلك سبيلا . ثم فكرت في بناء قصيدة شعرية , وخططت بعض السطور , ولم يحالفك الحظ كذلك . فلا القصة ولا اللغة الشعرية استطعتا ان يقفا في صفك ويحتضنا أفكارك وأحاسيسك ومعاناتك . ولم تكتف بدورك بالتشطيب على ما كتبته ؛ بل مزقت الورقة إربا إربا.. وعدت لتسند رأسك الثقيل الى وسادتك وبدأت تتأمل في الصورة المعلقة بالحائط : رجل ذو لحية سوداء .. سيجارة مشتعلة بين شفتيه.. حزن يتقطر من عينيه , لكنه مطبوع بالامل البعيد الذي لا يتراءى منه الا ذلك الشعاع القابع وراء مجموعة من المخاطر التي لا بد من ركوبها للوصول الى مصدر الضوء الكبير. فهمست بالامازيغية :" ها أركًاز نغاس تكيت تينيت... ! " (ها هو الرجل وإلا فلا.... !) سخرت من نفسك مرة أخرى , وضحكت كالأحمق و قٌمت من مكانك وتوجهت نحو الزر لتطفأ المصباح , وتوقفت وسط البيت مشدوها كالأبله . تشرد تفكيرك في الفضاء واستحضرت الخصام الذي وقع بينك وبين حبيبتك وفريسة أحلامك . فكرت في توقيف هذه العلاقة الكائنة بينكما . صحيح أنك لا ترضى ان يهينك أحد ,وإنك ذو مبادىء وتكره من يفكر في التفاهات. وما عساك إذن أن تفعل مع هذه التي لاتريد ان ترقى الى مستوى المرأة التي تتمناها ؟! حقا إنك تفسر مثل هذه الأمور بالتربية والمحيط والمجتمع وإنك تؤمن أنه بإمكان المرأة أن تصنع العجب إن وجدت من يفهمها ويقف في صفها . وفي هذه اللحضة بالذات تذكرت موقف أحد أصدقائق عندما كنتم تناقشون موضوع المرأة حينما قال: المرأة غير مرأة وخا.... عقلها ديما غير ف ......" وتقاطرت عليك مجموعة من الامثال التي قيلت في حق المراة والتي تعتبرها رجعية ك: شعر المرأة طويل , ولسانها أطول .المرأة كالأفعى ....{ وما إلى ذلك من الأقوال الموروثة...} تذكرت كذلك قول إحدى بائعات الهوى عندما حاولت ان تستفسرها عن الأسباب والحيثيات التي كانت وراءها في ممارسة " الدعارة ", فردت بعد نقاش مرير: أحسن شيء تفضلة المرأة كهدية من الرجل هي: "طرشة" . فكان هذا الجواب صفعة على خدك الايمن ؛ لكنك استهزأت منها خاصة عندما علمت ان لها شهادة مدرسية عليا ودبلوم نادر, رغم انك كُنت ستوافقها الرأي وتتخلى عن كل شيء ؛ لكنك تعودت على الصمود امام جميع التيارات التي تحاول أن تعرقل مسيرتك النضالية وتستفزك وتقف كحجر عثرة لتصدك عن الطريق الذي رسمته بدقة . واستحضرت حالا في مخيلتك المرأة النموذج : .. سناء محيدلي و سعيدة المنبهي التي اختارت الموت وراء القضبان , والدكتورة نوال السعداوي التي أبت واستكبرت إلا ان تستمر في مواجهة جميع التحديات ؛ كما تذكرت فاطمة المرنيسي , الاستاذة والمفكرة المغربية التي تعاني من الحصار المفروض من طرف المجتمع , دون ان تنسى كذلك رئيسة الوزراء المتوحشة والفاشلة ماركريت ثاتشر . أحسست بعقم ما تفكر فيه وأعدت الظلام الى البيت الذي يحويك . وفي نومك رأيت نفسك تجلس وسط مجموعة من الناس حول مائدة كبيرة للأكل . الخدم كلهم في خدمتك . " أطلب كل ما تشاء" , قال أحدهم . نزلت أمامك مجموعة من المأكولات لم يسبق لك أن رأيتها حتى في المطاعم الكبرى . اندهشت في بداية الأمر , ولم تعرف أين تبدأ وأين تنتهي . لكنك وضعت لهذه الأشكال من الأكل الاسماء المناسبة لها , وأكلت مستعملا - وبمهارة فائقة - السكين والفرشاة الخشبية .. لم تستطع أن تحدد المكان الذي تتواجد فيه : في لندن.... ؟ في الرباط .... ؟ أو في باريس .... ؟ كاليفورنيا....؟ بيروت.....؟ غزة أو الضفة......؟ الرياض...؟ بومباي.....؟ (....) ربما سبق لك أن زرت هذا المكان, ربما لم يسبق لك ان رأيته.. لم تحسم في اتخاذ أي قرار ... اختلطت الصور والاحداث أمامك, فبدا لك المكان تارة مطعما فاخرا وتارة أخرى عبارة عن قاعة للسنيما .. وظهر لك مرة أخرى كمزبلة يوجد بها كل ما تكرهه النفوس . أما الناس الذين يوجدون بمعيتك , فلهم رؤوس بغال . استغربت في بداية الامر لذلك .. لكنك قبلت ببساطة من يحلم أنك تعرف أناس لهم رؤوس حيوانات مختلفة : هناك من له رأس حمار وهناك من له رأس ذئب وآخر له رأس ثعلب.. وأسد .. وهناك من يجمع بين هذه الرؤوس .. وفي حينه أمسيت انت متسربلا لبردعة ثقيلة لم تعرف هل كان لونها أصفر أم أحمر . وتدلت أدناك ككلب مسعور. ولم تتوقف ابدا عن التهام كل ما يوضع امامك . وعندما فتحت عينيك تخيلت أن السكين لازالت بين يديك . فانتبهت إلى أن أشعة الشمس قد تسللت إلى بيتك من الثقب المفتوح على الجهة الشرقية .ولما تأكد لك ان الامر لايعدو ان يكون حلما , أحسست بالغثيان وبرغبة في التقيء . وتذكرت في حينه أمك - رحمة الله عليها - عندما قالت لك في يوم من الايام أن من يحلم نفسه يأكل سيصاب بمرض إن آجلا ام عاجلا.. ولم تصدق أن حلمك الوحيد هذا قد تحقق . توجهت بمشقة الأنفس إلى الصنبور وتتطهرت طهارة صغرى , وصليت الصبح والشروق جمعا - والكرة الأرضية على قرن ثور – ثم وليت وجهك الى الكلية لتتسلم آخر الشهادات الجامعية التي لا تؤهلك إلى الحصول على عمل {على حد تعبير وزير حكومة التناوب}.وشعرت بأن أحلامك بدأت تتبخر . وفي مناخ متوتر جدا , بدت لك الحياة/الدنيا كجهنم بنيرانها الملتهبة .. لعنت الوضع (...) ودعوت للكون كله بالفناء... (حسن خمة - تاونزة) (صيف 1998 )