لَعَلَّك تَذْكُر «عُمر الحبْشي» وهو مازال آنذاك، يترسّمُ خَطواته الأولى على أوراق دفتر الرسم الشهير بغلافه الرَّمادي الحامل لصوره ديك مبجَّل ذي نظرة جانبية حادة أو مُتحفزة.. وكان فضاء سينما الرِّياض مرتعا للتجارب الجريئة وكنت حانيا على تخطيطاته الأولى، ولو من بعيد، بعد أن بدأت باكتساب قوانين الحرفة بمدرسة التقدم على يد «مَسيُو عبد الله» الفرنسي و «سانطوس» الإسباني. كان فضاء الرّياض مرْسما طبيعياً . سهل منبسط خلف «السينما» وواسطته مزرعة «بّا عبد الله» الشهيرة. وما يحيط به خضرة في خُضرة تتنافس فيها نباتات شوكية، وأخرى وبرية، وثالثة متوزعة بين شقائق النُّعمان ،، وأخرى تجهل أسماءها، بسيقانها التي تقطر حليبا صافيا عند انثنائها بين أصابعنا اللاَّهية !! ومن بعيد كان صدى الغُدران يتردد مثل مناغاة أم لطفلها بعد نومة هادئة، وكما حدث ل «فان جوخ» كان رسامو «الرّياض» يرسمون تحت أشعة الشمس اللاهبة، أثناء عطلة الصيف الطويلة، أو مع تباشير الربيع الأولى عند تحول هذا الفضاء الزاهي الى مهرجان للطير والشجر وكائنات ملكوت يزدهي بالجمال والبراءة والنقاء. كان الفضاء، فضاء سينما الرياض، مُلتقى لتجارب فطرية دون سابق إنذار ... حميد مودن، محمد العسُّولي، عبد الكريم فقير، عمر الحبشي، الطنجاوي... إلخ أبناء شرعيون لهذه المدرسة ، مدرسة «سينما الرياض» ولا مُفاضلة في البراءة. ولما كانت هذه المدينة ناقة عشواء قد تصيب من تُصيب، ويصبح حديث اللسان، والبيان، بعد فوات الأوان، وقد تُخطئ من تخطئ، فيفلت على الأقل من إسهال بئيس في القول والفعل والتسويق المجَّاني لِعطالة في الرُّوح والفِكر! أقول لما كانت كذلك فأبناؤها يعودون إلى أرض جُبلت على الوفاء... منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وآخر ما استقر في ذاكرتهم، صورة النهر، ولمعان أوراق الصفصاف لحظة الغسق ... مبارك الدريبي، محمد زفزاف، محمد بندفعة، حميد مؤدن ، عمر الحبشي، عبد الكريم فقير... أموات وأحياء وهم لا يكفون عن عشق فضاء دمر في ريعان شبابه!! يعود «عمر الحبشي» الى فضائه الأثير، محمولاً على بساط لوحاته مجسدا في الكائن الإنساني. وهو مغرم بالتَّفاصيل التي قد لا ينتبه إليها الكثيرون. وفي ذلك تشتركان: النظرات المندهشة حيناً، المتسائلة حينا آخر. نظرات استقر فيها الألم حتى الثَّمالة، وأخرى لا تتوقع ما ليس منه بُدا. أما الجسد فقد ظل مُتوزعا بين الفناء والإفناء كما هو الشأن في لوحاتك (الإعدام/ السائل وزوجته/الفن.. الخ) وبين عشق الحياة واستقطار لحظاتها إلى آخر نفس (المرأة المستحمّة ولوحات أخرى في موقعك الإلكتروني) كما هو بارز في اشتغال عمر الحبشي على هذه الثيمة. إن الحرفية العالية التي برزت في لوحات عمر الحبشي،، تعكس، «فضلا عن الدراسة الأكاديمية التي حُرمت منها لأسباب كثيرة، رهافةً واضحة في التَّعامل مع الجسد إلى حدّ القداسة، ولذلك تم التركيز على لحظة الفعل الجسدي» دون أن يتحول إلى موضوع، أو ثيمة باردة قد يتفوق صاحبها في ضبط الزوايا، ورصد محور التناسب والتماثل الى الحد الذي يتحول فيه الرسَّام إلى جراح، قد يتفوق في ذلك، ولكنه يعجز عن تقديم جسد ميتا أو حيا فاعل في البصر والبصيرة، والمتأمل لهذه اللوحات يلمس نوعا من «الحكائية» المسترسلة في اللوحة عبر القسمات والنظرات، وحركية باقي الأعضاء، خاصة الكف والأصابع، فضلا عن الألوان الباردة، بظلالها الهادئة عند «عمر الحبشي» والألوان الملتهبة في لوحاتك الستينية. حكاية الفعل، أو فعل الحكائية عبر تداخل الحركة واللون وزاوية الرؤية. الحادث العبثي الذي أودى ب «عمر الحبشي» منذ أشهر قلائل ببلاد الغربة، ألقى بظلاله، منذ أمد بعيد، على لوحاته ، فوراء كل نموذج إنساني من لوحاته، يحسُّ الرَّائي بمطاردة ما، مطارة خفية من مصدر مجهول، جسدته أوضاع «الشخصيات» الجسدية التي عكستها حركة الجسد الظاهرة، أو الثاوية، وراء الظاهر الذي هو في جوهر، حركة الباطن وفي لوحاتك، أيضا، كان إحساسك الدائم بهذه المطاردة عبر مأساوية ما كان يجري أمام ناظريك. رحمكما الله.