ننتظر بسام أبو شريف ، القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في تفاصيل السياسة، فتأتينا مذكراته الاخيرة ( نشرت في يناير 2010 ) مفعمة بالحب لبيروت. تحضر كل الاشياء والتفاصيل الرهيفة في حياة فلسطيني ، حاولت اسرائيل اغتياله في سنة 1972 بعد مقتل غسان كنفاني، واستشهاده على يد العصابات الاسرائيلية، لكن مذكراته«بيروت مدينتي» سرد حميمي حول الفضاء البيروتي الناعم وحول الحياة على ضفاف الروشة. في تفاصيل السياسة ، يكتب بسام أبو شريف، عن تواريخ حادة منها غزو العاصمة اللبنانية، ويحكي ، من زاوية غير مسبوقة كيف اطلعت القيادة الفلسطينية على تخطيط اسرائيل للغزو. وقد حكى بسام ابوشريف عن زائر غامض زاره في مكتبه« بعد فشل اسرائيل في توجيه ضربات قاتلة للقوات الفلسطينية في جنوب لبنان وللقوات الفلسطينية اللبنانية المشتركة في لبنان عامة». عن تلك الزيارة يقول أبو شريف:« صباح يوم من أيام أبريل عام 1982 جاء رجل إلى مكتبي - مكتب مجلة الهدف - الذي كان قائما في منطقة كورنيش المزرعة ببيروتالغربية وطلب من سكرتيري إدخاله لمكتبي. كان شابا طويل القامة، نحيفا، يعلو شعره بعض الشيب. وقف أمامي وفي عينيه وجل أو خوف، وراح ينظر حوله، واستمر علي هذا طوال الدقائق التي قضاها في مكتبي وكأنه يخشى من أحد. صافحته وطلبت منه الجلوس، فجلس على طرف المقعد وكأنه يهم بالوقوف ورح يتكلم وفي صوته تهدج: «أنا لبناني» - هكذا بدأ كلامه - «وأدعم النضال الفلسطيني» هززت رأسي فيما تابع الكلام: «إسرائيل تخطط لغزو لبنان»! قال وتوقف لحظة لينظر إلى وجهي ليرى تأثير كلامه علي. فقلت له »تفضل تابع«. أسرع هنا في الكلام وأبلغني أنه اطلع »صدفة« على مخطط اسرائيلي لغزو لبنان وتحطيم المقاومه الفلسطينية بالتعاون مع القوات اللبنانية (الكتائب) التى كان يرأسها بشير الجميل. لم أعلق،بل نظرت إليه كأنني أطلب منه الاستمرار. تحدث عن غزو بري من عدة أماكن وعن قصف جوي وعن محاصرة بيروت واقتحام بيروتالغربية. قال: «الإسرائيليون يريدون تصفية المقاومة الفلسطينية وقتل قادتها أو اعتقالهم وتقديمهم لمحاكم كمجرمي حرب». وختم بالقول: «إسرائيل ستستخدم كل قواتها العسكرية البرية والجوية والبحرية». وأخرج من جيبه ورقة مطوية بعناية! سلمني الورقة قائلا: «هذا رسم سريع لما اطلعت عليه. هب واقفا وصافحني قائلا: «أللهم إنني بلغت» وغادر مكتبي، تاركا إياي أفكر بما سمعت وبهذا الشخص الغامض. هل هو صادق؟ هل هو مدسوس؟ هل يعقل أن تغزو إسرائيل لبنان وتطوق بيروت؟ أسئلة دارت في ذهني وبقيت تدور طوال ذلك النهار (...) وحزمت أمري: حملت الورقة والمعلومات وأفكاري وتوجهت لمقر المكتب السياسي حيث يعمل الدكتور جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وشرحت له كل ما جرى وزودته بالمعلومات وصارحته بالخلاصات. و عندما أبلغت «الحكيم» بما جرى علق قائلا: «تحليلنا في المكتب السياسي مختلف ونحن لا نتوقع هجوما واسعا. والجبهة لا تستطيع اتخاذ إجراءات عملية استنادا الي تحليل مختلف عن تحليل المكتب السياسي». طأطأت الرأس وخرجت من مكتب »الحكيم« وتوجهت فورا ل «17» (مقر الرئيس ياسر عرفات). كان مكتبه مزدحما بالمنتظرين، فقد كان مكتب عرفات يعج دائما بالضباط وأعضاء من القيادة ووفود شعبية. ولكنه أمر بإدخالي فورا لمكتبه عندما أبلغ بوجودي وبرغبتني برؤيته. شرحت للرئيس ما جرى ووضعت الرسم أمامه. نظر إليه ثم تتبع الخطوط المرسومةبقلمه والتفت إلي: - «موضوع خطير جدا«، قال بتمهل وكأنه يفكر بخطة مضادة. وسألني: »أنت لا تعرف هذا الرجل كما قلت؟« فأجبته بأنني لم أره في حياتي. ضغط على الجرس أمامه فدخل الدكتور رمزي خوري الذي كان مسؤولا عن بروتوكول مكتب الرئيس. بادره أبو عمار آمرا: اتصل بأبو الوليد، أريده فورا. فأسرع الدكتور رمزي خارجا ليتصل بالعقيد سعد صايل قائد القوات الفلسطينية المسلحة. وطلب مني الجلوس لنجتمع نحن الثلاثة. وتابع الرئيس عرفات التوقيع على أوراق من بين تلة من الأوراق وضعت على مكتبه. ما هي إلا دقائق حتى دخل القائد العسكري الكبير سعد صايل (كان سعد صايل قائدا للواء اليرموك في الجيش الأردني قبل التحاقه بالثورة الفلسطينية مع المئات من الجنود في عام 1971. وهو ضابط تخرج من كلية وست بوينت الشهيرة وكان من المبدعين). كان أبو الوليد قليل الكلام، قاسي ملامح الوجه، عسكريا في نمط الحياة. بعد التحية المقتضبة، أبلغه أبو عمار بما جئت به. وطلب مني أن أشرح له بالتفصيل ما أبلغني به «الزائر الغامض» شرحت للقائد أبو الوليد ما جرى وقيل. فكر أبو الوليد بعمق. نظر مرة أخرى للرسم. فكر مجددا. نظرا للرئيس أبو عمار وقال باقتضاب: هذا احتمال وارد! علينا أن نرفع درجة استعدادنا وأن نركز على تحصين بيرت. وأجاب أبو عمار بسرعة: «كل شيء تحت تصرفك. على بركة الله». وهكذا بدأت استعدادات القيادة العسكرية لمواجهة ما قد يحصل في ضوء تلك المعلومات. ودعتهما وتوجهت الي مكتبي. خلال ذلك خطر لي أنه لابد من إبلاغ السوريين أيضا. من شدة ما كان بسام ابو شريف لصيقا بعرفات، لم ينتبه كثيرون، لا سيما من جيل ما بعد الحماس أنه من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .وقليل من المناضلين وعموم المتتبعين، اذا استثنينا من يعرفون تفاصيل جديدة يرويها عن توحيد فصائل الجبهة الشعبية ، وعن أول موقف غاضب لعرفات من أحمد جبريل والفصائل المناهضة له. يقول بسام« خلال تلك الفترة بدأت في دمشق سلسلة من الاجتماعات بهدف توحيد صفوف التنظيمات الفلسطينية المقاتلة، وكان الدكتور جورج حبش يمثل تنظيم شباب الثأر وتنظيم أبطال العودة، اذ لم يكن قد اختير او أعلن. قيادة فتح ممثلة في ياسر عرفات، قيادة جبهة التحرير الفلسطينية ممثلة بأحمد جبريل. لم يتم الاتفاق، وكما يبدو، كان لياسر عرفات معارضة داخلية ليترأس حركة فتح، فقرر قطع الاجتماعات والتوجه للأرض المحتلة تاركا لإخوته ورقة كتب عليها «القيادة في الميدان». وهكذا خرجت فتح من إطار التوحيد، وأعلنت التنظيمات الباقية وحدتها في تنظيم أطلق عليه »الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين« وراح ياسر عرفات يتحرك سرا في أنحاء الضفة الغربية. اعتقال حبش اعتقلت سورية جورج حبش بعد أن لفقت له تهمة تهريب السلاح للقيام بانقلاب في سورية، وأودع في سجن الشيخ حسين، وراح ينقل من هناك أسبوعيا بسيارات الشرطة العسكرية الى مقر الاستخبارات للتحقيق. وكان المحقق مدير المخابرات عبد الكريم الجندي الذي انتحر بعد شهور لاكتشافه مدى تغلغل الجاسوس إيلي كوهين في النظام وعلاقته بقادة النظام وزوجاتهم. قامت مجموعات من مقاتلي الجبهة الشعبية بقيادة «ابو طلعت» وهو ضابط من قطاع غزة، باعتراض سيارتي الحماية، وأوقفت السيارة التي كان فيها جورج حبش جانبا. الجميع كانوا يلبسون لباسا عسكريا سوريا. اقترب ابو طلعت من السيارة، فرفع الجنود أيديهم قائلين: لا علاقة لنا بالسياسة، نحن ننقل سجينا فقط. ضربوا على رؤوسهم وصودرت أسلحتهم، فاحتج جورج حبش على الضرب، فأسكته ابو طلعت وأمره بالصعود الى سيارة عسكرية أخري، هي إحدى السيارات التي استخدمتها الجبهة الشعبية. صعد جورج حبش الى السيارة وانطلقت بأقصى سرعة نحو الحدود اللبنانية »غير رسمية« وعبرتها بسلام وتابعت سيرها حتى وصلت بيروت، حيث أخفي جورج حبش في أحد البيوت. وجن جنون الاستخبارات السورية التي أرسلت مجموعات مسلحة لاغتيال جورج حبش. وبالفعل، أمسكت الجبهة بإحدى المجموعات، واعتقلتها في البقاع. ثم أعادت المجموعة الى سورية مع رسالة موجهة الى مدير الاستخبارات تحذره فيها من مغبة الاستمرار في محاولاته لاغتيال جورج حبش. بسرية تامة، رتب سفر الدكتور جورج حبش الي القاهرة للقاء الرئيس جمال عبد الناصر. بعدها انتقل للعراق. ودخل الاردن بصفة ضابط في الجيش العراقي وعاد الى موقعه لمعالجة المشاكل المستعصية داخل صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. اختطاف 4 طائرات في يوم واحد وديع حداد ، القيادي الجبهوي الشهير، يخصص له بسام شدرات كبيرة ، لتفانيه، لكنه يسلط الاضواء عليه كثيرا عندما قرر اختطاف اربع طائرات دفعة واحدة، وهي العملية التي ستكون إحدى نتائجها احداث ايلول الاسود ، بين الأردن والفصائل الفلسطينية. فقد روي بسام أن المقاتلين توجهوا بالطائرات إلى صحراء الاردن، حيث أقاموا مطار الثورة، كانت مدرجاته تضاء بالنيران الناجمة عن احراق الوقود . عناصر المجموعات التي نفذت العمليتين أُخرجوا من الموقع فوراً وحملتهم سيارات الى جهة بعيدة عن الأعين. ومع ساعات الفجر الأولى بدا »مطار الثورة« كخلية نحل: سيارات عسكرية تجوب المكان، وأخرى تحمل مدافع مضادة للطائرات تتجول حول المكان عن بعد، وفرق عمل تتخذ لنفسها مواقع قريبة من الطائرتين. وبدأ الجميع بتنفيذ التعليمات. جُمعت جوازات السفر، راح فريق متخصص يرأسه علي طه يفحص الوثائق، وفتشت مراحيض الطائرة فضبطت فيها جوازات سفر اسرائيلية ألقى بها أصحابها داخل المراحيض، وكان معظم أصحابها أمريكيين ممن يحملون الجنسية الاسرائيلية الى جانب الأمريكية. وقام فريق آخر بإنزال البريد الذي كان معبأ في أكياس كبيرة وانهمك في تفتيشه والتدقيق فيه، كما طُلب من الطيارين فتح الصناديق الخاصة». ابو شريف يصف محاولة اغتياله نص ادبي رفيع.. قريبا من الموت، ينتشر البياض وبعدها بقليل تعلق بالبال الصور التي اعقبت انفجار الطرد الملغوم. لا صوت. وكأنك تسقط في الفراغ. لكن رأسي كان موجوداً، وكان يترنّح يساراً ويميناً دون ألم. رأسي كان يبحث عن قعر يستقر به، لم يجده واستقر في الترنح بحثاً عنه. وفجأة تلمس يداي قعراً صلباً وتوقف رأسي عن الترنح، لكن الظلام البارد استمر في الهيمنة والتحكم بالمحيط. كفّاي ترتطمان بقعر صلب، استندت إليهما لأقف بعد أن كنت مطروحاً على القعر وعاد رأسي يفكر: »أنا هنا« لم أمت. أرادوا قتلي، لكنني ها أنذا هنا أقف على قدمي. »لم أمت«. فكرت سريعاً: أرى، الظلام لأنني لا أرى، إذ أعماني الانفجار، وأنا أقف على قدمي لأنهم سيأتون لخطفي، ولم يكن القصد قتلي. إذاً عليّ أن أخرج بسرعة من غرفة البريد قبل أن تنفجر عبوة جديدة أو يصلوا هم لخطفي. هذا ما فكرت فيه بسرعة في تلك اللحظات المتأرجحة بين الموت والحياة. اقتربت من حائط الغرفة التي أعرفها جيداً مستخدماً كفي لأتحسس طريقي نحو الباب الذي يؤدي الى ممر طويل يقود الى مدخل مكتب «الهدف»، أو مخرجه نحو الشارع، وما إن وصلت الى باب الغرفة حتى لسعني الألم بسياطه من رأسي حتى قدمي. فقد هب الهواء من الغرفة المجاورة ليلطم مني الجراح، وكانت جراحي قد أصبحت جل ما لديّ. أحسست بدمائي تسيل حتى تبتعد عن جلدي، راوية أرض مكتب «الهدف». شعرت بأن أصابع يدي لم تربط بجسدي إلا بخيوط جلدية واهية. وشعرت بعيني تسبقني نحو مخرج «الهدف». وقد تدلت من مكانها وكأنها تشقّ لي الطريق الذي لم أر منه إلا الظلام. وشعرت بعضلات جسدي تتفسخ منزلة بي الألم الذي لم ينل مني صرخة واحدة من أخ، وبقيت ذراعاي ممتدتين نحو حائطي الممر، وأحسب أنني أسرعت نحو المخرج، وفي الحقيقة كنت أحبو نحو المخرج. وفي لحظة من اللحظات أمسكت بذراعي قبضتان قويتان حملتاني فوق الأرض. وأسرعتا بي نحو المخرج، فالدرج، فالمدخل. وسألت هنا: من أنتما؟ من أنتما؟ لا جواب. صمت. وكررت السؤال: من أنتم؟ أين تأخذونني؟ وجاءني الجواب: صمت. إذا هو الخطف، وعلي أن أقاوم. ورحت بكل ما بقي لي من نبض أستخدم ساقيّ وركبتي لأقاوم الخاطفين. وازداد اتساع الجروح وزادت سرعة ذرف الدم. ألقوا بي على مقعد سيارة خلفي أحسست به لأن رأسي ارتطم بباب السيارة الآخر، وأغلقوا الباب، فشعرت باهتزاز السيارة ثم تحركها السريع ثم توقفها ثم تحركها، فقلت لهم خذوني الى مستشفى الجامعة الأمريكية وبدأت أشرب دمي قسراً. كان يسيل نحو حلقي لأنني ملقى على مقعد السيارة الخلفي. حاولت أن أتحرك، لم أفلح. وصلت السيارة الى مطب خفيف عرفت منه أننا وصلنا الى غرفة طوارىء مستشفى المقاصد، لا مستشفى الجامعة الأمريكية، لأنني أعرف تماما غرف الطوارىء في المستشفيات. وكان آخر ما قلت لهما: »طلبت منكم أن تأخذوني إلى مستشفى الجامعة الأمريكية». «هواء... هواء... هواء» واختنقت ورحت في سبات عميق غاب منه الظلام الأسود البارد، والجبال بركانية الصخور، وغاب القعر. صوت يناديني من بعيد، من على جبل بعيد ويصلني الصوت خافتاً: «بسام»، «بسام». لم أجب، خلت نفسي في عالم آخر. أي عالم هذا؟ لست أدري. لكن الصوت أعاد الكرة وكأن الجبل الذي يأتي منه الصوت يبتعد نحو الأفق: «بسام» «بسام». لم أجب. وعاد الصوت يناديني مرة أخرى. ورغم خفوته إلاأن النبرة كانت تدل على صراخ خافت: »بسام« »بسام« هل تسمعني؟ قررت الإجابة ولو في العالم الآخر. قلت: نعم أسمعك. عندها ازداد الصوت وضوحاً. قال: هل تعرف من أنا؟ رددت قائلا: أعد السؤال. كرر وكنت أريد التدقيق في الصوت. ركزت قدر الإمكان في الصوت وقلت: نعم أعرف. أنت أسعد عبد الرحمان، وغرقت في النوم، في سبات عميق واختفى الصوت. بعد فترة لا أعرف كم طالت.. عاد الصوت ليطل عليّ، كان أوضح وأقرب إليّ. بدأ الصوت يعيدني الى هذه الدنيا التي ظننت أني غادرتها: بريد، كتاب، شي غيفارا، انفجار، ألم، سيارة، طوارىء، اختناق. وقد بدأت أشعر بأن شفتي ككرة قدم: جبهة الرفض ، عرفات والقمم العربية في أجواء ما بعد حرب أكتوبر 1973، كانت مصر السادات تسير نحو التطبيع، وكانت دول عربية ضد المسعى المصري، فقامت بتأسيس جبهة الصمود والتصدي الطيبة الذكر. وعن تلك الفترة نقتطف من المذكرات أن «ياسر عرفات توجه الى القمة العربية التي عقدتها الدول المعنية. وكان الرئيس أنور السادات قد قال لنا في جلسة خاصة: معركة أكتوبر هي مدخل للحل الفلسطيني، فلا تدعوا الفرصة تفوتكم. عليكم الدخول معنا تحت مظلة انتصار أكتوبر. خطاب الرئيس أنور السادات أثار غضبا لدى بعض الدول الرافضة للمفاوضات المصرية الاسرائيلية، واعتبرت برنامج المنظمة تجاوباً مع السادات. فدعا الرئيس معمر القذافي الى أول قمة تجمع الدول الرافضة، وتشكلت جبهة الصمود والتصدي في عام 1977.(..) لكن الرئيس ياسر عرفات استمر في اتصالاته مع الرئيس أنور السادات، ووعد الرئيس السادات أن لا يمر أي اتفاق دون الفلسطينيين وحقوقهم. وكان هذا قد بلور اتفاقا سريا بين الرئيس ياسر عرفات والرئيس أنور السادات، يخول بموجبه الرئيس السادات التحدث باسم الفلسطينيين. لكن أنباء عن هذا الاتفاق السري وصلت للرؤساء العرب الذين شكلوا في قمتهم الأولى بطرابلس في الغرب في عام 1977 جبهة الرفض (جبهة الصمود والتصدي)، فطرحوا هذا الأمر كبند رئيسي على جدول أعمالهم في قمة الجزائر في عام 1979. (...) وجرى نقاش طويل وحاد تخلله صراخ وتهديد. لكن ياسر عرفات لم يشر الى وجود مثل هذا الاتفاق أو عدمه. وفي لحظة من اللحظات، دار النقاش فيها حول خيار المواجهة، قال ياسر عرفات بصوت عال بالهاتف، لكن بلغة مهذبة: »لدينا 400 صاروخ من مختلف الأحجام وأستطيع الآن، (وأمسك بالهاتف الأحمر) أن أصدر أمراً بإطلاق الأربعمائة صاروخ على اسرائيل، فهل تتحملون النتائج؟ ووجه كلامه الى الرئيس حافظ الأسد مباشرة وقال: أخي الرئيس حافظ الأسد قد يكون أكثر المعنيين، فإن أي رد اسرائيلي سيطال سوريا. وعندما لم يجب حافظ الأسد، تناول ياسر عرفات سماعة الهاتف وطلب أن يصله بغرفة عمليات بيروت، بالعقيد سعد صايل (أبو الوليد). عندها، قال حافظ الأسد، الذي فاجأته جدية عرفات: ضع الهاتف جانباً يا أبو عمار، ولنكمل حديثنا. فوضع التلفون جانباً، قائلا: »ماذا نستهدف من هذا النقاش؟«. أجاب هنا الرئيس بومدين بصراحة: الجزائريون كانوا دائماً صرحاء وواضحين يا أبو عمار، نريد أن نطمئن أن أنور السادات لا يسير على الملف الفلسطيني، ولا يستطيع أن يدعي أنه يمثلهم أمام المحافل الدولية والأمم المتحدة. نريد منك أن تؤكد للأمم التحدة، أن الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هو منظمة التحرير الفلسطينية، ولا يحق لأح دأن يدعي أنه يمثل الشعب الفلسطيني سوى الفلسطينيين الذين تمثلهم شرعيا منظمة التحرير الفلسطينية. وأُسقط في يد أبو عمار. فها هو الرئيس بومدين (ولا احتكاك بينهما) يطلب بصراحة ما حاول طلبه الآخرون لفاً ودوراناً. عندها، قال ياسر عرفات »سوف أرسل برقية للأمين العام للأمم المتحدة تؤكد هذا الأمر.(..) أما في قمة دمشق في عام 1978 ، فقد انعقدت والجراح حية بين الاردن وعرفات. في اليوم الثاني للقمة فوجىء الجميع بالقذافي ممسكا بيد ياسر عرفات ودلفا نحو سيارة معمر وانطلق موكبه بسرعة. وسرت الأنباء كالنار في الهشيم. القذافي اصطحب ياسر عرفات للأردن للقاء مع الملك حسين،، في لقاء القذافي مع المراسلين عند عودته ،ابتسم ابتسامة الذكي قائلا: «نجحت في خطف ياسر عرفات صباح اليوم. وأجبرته على التوجه معي الى الأردن، حيث شربنا القهوة مع جلالة الملك حسين، وعدنا لنتابع جلسات هذه القمة. وها أنا أعيد أبو عمار سالما». وصعد معمر القذافي الى جناحه وأبقى ياسر عرفات الى جانبه، وطلب من مساعديه دعوة كل القادة الفلسطينيين إلى اجتماع عاجل في جناحه. ماهي إلا دقائق قليلة حتى كان أعضاء القيادة مجتمعين بالقائد معمر القذافي، وتحدث معمر القذافي بإسهاب عن كيفية خطف ياسر عرفات. وأمضى معظم الوقت في روايتها مع الضحك. وكان الجميع (بالطبع) يضحك عندما يضحك «القائد معمر». وفي نهاية الحديث، ذكر معمر، عَرضاً، كيف صافح الملك حسين وكيف صافحه أبو عمار وشرب القهوة. واعتبر المصالحة الأولية إنجازاً باهراً. وصمت الجميع. ابتسم معمر قائلا: »هل هنالك أي اعتراض على الصلحة الأولية؟«. كان الاعتراض على انفراد ياسر عرفات من دون قرار من القيادة. فضحك معمر القذافي وقال: «كيف تريدونه أن يشاوركم وهو مخطوف؟». كانت التنظيمات جميعها تأخذ مساعدات مالية وعسكرية شهرية من ليبيا. ولذلك لاذت بالصمت.