دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خارج الحدود
جورج حبش.. السيرة التي لم تُكتب
نشر في المساء يوم 03 - 02 - 2008

كان بسيطا، إلى أقصى حدود البساطة، لكنها البساطة التي لا تَنْقادُ لأحد سواه، أو سوى أحد ممن هم في جملة أضرابه (وهم قليلون لا يكادون يُحسَبون)، السياسة عنده مسكونة بالتاريخ، بل هي التاريخ يمشي خارج قلعة الماضي فيردد دروسه. مؤمن هو، لا مكان للشك عنده. الإيمان مذهبه ومشربه وطريقته المثلى في الحياة.
النظافة، النقاوة، الطهارة، المبدئية المثالية، الإيمان الأسطوري بقضية... مفردات لا تنتمي إلى السياسة وقلما كانت في التاريخ من مُعدّات من يحرُثُون في حقل السياسة ويزدرعون. الأنبياء والأبطال التاريخيون وحدهم من ارتفعوا بالسياسة إلى مستوى الرسالة فحرروا السياسة من المعنى الضعيف، وزودوها بالطاقة الأخلاقية التي صنعت بها المعجزات في الأرض وحررت بها البشرية من الخوف والعبودية والاعتساف والقهر. غيرُ هؤلاء، لم يعرف للسياسة، ولم يعرف من السياسة، غير معناها المألوف والمبتذل كقرينة على المصلحة أو المنفعة وكوسيلة مجردة من أية أخلاقية عليا عدا تلك التي تُؤَسِّسُها السِّياسة نفسُها وتسوغها بحسبانها الأخلاقية الشرعية والإيجابية الوحيدة.
لم يكن رعاة الصلة الماهوية بين السياسة والأخلاق في تاريخ الإنسانية ممن حالفهم الحظّ دائِما فأفلحوا في تحصيل ثمرات نظرتهم الإنسانوية الرفيعة إلى السياسة كرسالة عليا من أجل خير البشرية. فقد يحدثنا التاريخ عن مصائر ومآلات غير طيبة لهاتيك المساعي التي سعى فيها الأعاظم والكبار. إليكم ما تقوله صحائف السماء ومدونات التاريخ في الدنيا: كم من نبي جحده قومه فقتلوه أو حاصروا دعوته فقضى في صمت من غير أن تصل رسالته إلى شغاف النفوس، لتخرُجَ تعاليمه من حيز السياسة والإمكان المستحيل إلى حيز الإرشاد الروحي وطقوسه من صوت وجولات في النفس عميقة. وكم من بطل تاريخي ألقى في نفس شعبه فكرة كبيرة فخذله الزمن وانكسرت بطولتُه ماديا ثم انبعثت أمثولة في النفوس تستلهمها الأجيال وتتجدد بها الآمال. في المقابل، ما أكثر من أخذ السياسة بغير مأخذها الأخلاقي فكسب معركة ثم لم يلبث أن خسر حربا بعد حين.
ما أكثر السياسيين الذين كسبوا رهانهم فأتى عليهم الدّهر بالنسيان. وما أكثر الذين حفروا في ذاكراتهم أسماء الأنبياء والأولياء والأبطال التاريخيين الذين قضوا ولم يعينوا ثمرات نبوءتهم أو نضالهم.
لم يترك الأولون ما به يذكرون –على فالح فعلهم- لكن الأخيرين بذروا في النفس معنى لا يزول وارتَفَعَت قاماتهم عن حدود البشري والواقعي. من لا يدرك حقيقة هذا الرأسمال الرمزي النادر في صناعة التاريخ لا يدرك التاريخ، نعني: لا يدرك الديناميات العميقة التي تصنع التاريخ. من لا يدرك ذلك، سيعجز دائما عن فهم الأسباب التي تقود إلى عودة «الأموات» وأفكارهم ومثلهم إلى رحاب السياسة والحياة العامة... عما يسميه بعضهم اليوم بعودة الموروث ومعه عودة تلك الطاقة المعنوية المذهلة التي لا تقبل صرفا أو قياسا بالقيم والمقاييس المادية.
هذا ليس نصا في هجاء السياسيين، ولا هو نصّ في مديح الأبطال والأنبياء والمرسلين. إنه أقرب ما يكون إلى البوْح والاعتراف: البوح بشعور إنساني تجاه فقدان معنى رفيع من معاني السياسة في تاريخنا العربي المعاصر، والاعتراف لمن أخذ معه ذلك المعنى –وهو يرحل عنا- بالجميل التاريخي الذي يليق بأي شريف على هذه الأرض أن يعترف لصاحبه به. وصاحبه جورج حبش: الرجل الذي يكفيك اسمه كي تعرف من هو. إن الفكرة والقضية والثورة في صورة رجل اختصر المعاني كلها وارتفع عن حدود المحسوس والمألوف.
كان بسيطا، إلى أقصى حدود البساطة، لكنها البساطة التي لا تَنْقادُ لأحد سواه، أو سوى أحد ممن هم في جملة أضرابه (وهم قليلون لا يكادون يُحسَبون)، كأن البساطة ما كانت وُضِعَت لغيره حين وُضِعَت. كأنها على مقاسه كانت فأتت تعرض نفسها في كل شيء فيه: في صوت شديد الدفء والصدق، في ثغر لا يبخل يوما بفَيْض ابتسامات يفتر عنها، في حركات اليد المسكونة بالحزم، في مفردات تهبِط بالمصطلح السياسي إلى اللغة المحكية التي تخاطب أكثر الناس. معه أنت في حَضْرَة رجل تاريخي بامتياز، رجل نَدََرَ إن وجدت له في التاريخ المعاصر مثالا. لكنك تحارُ في فهم ذلك المنسوب الهائل من التواضُع في شخصه والذي يتدفق بتلقائية من عينيه ومن لسانه من دون حدود.
وفي بساطته كان ملتزِما ثوابتَهُ بحزم بحيث لا يحيد عنها حتى حين تدلهم الآفاق. تحاول عبثا أن تستدرجه إلى حديث عن أفق قريب ممكن، فيَأخُذَك إلى البعيد.
تفهم أن السياسة عنده مسكونة بالتاريخ، بل هي التاريخ يمشي خارج قلعة الماضي فيردد دروسه. مؤمن هو، لا مكان للشك عنده. الإيمان مذهبه ومشربه وطريقته المثلى في الحياة. ر ما بدا لك، ع ما شئت، فلا هو يرى ما تراه إن ذهلت عن النظر إلى الأفق المفتوح، ولا هو يعي ما تعي إن أخَذَتْك مُثَبِّطَات اليوم عن وعي محفزات الغد. شيئا فشيئا تدرك أنه لا دواء ليأسك أو حبوطك أو وهَنِ عزمك سوى أن تُصْغِي ل«الحكيم» جورج حبش فَتَتَمَتَّع بحمام روحي يطهر النفس من أدرانها.
كثيرون اختلفوا مع جورج حبش في السياسة، وذهبوا عكس مذهبه فيها: حين كان قوميا عربيا (وكذلك ظل)، وحين أصبح ماركسيا (قَوْمِيّا). لكن أحدا من الذين اختلفوا معه لم يجادل يوما في أن الرجل ضمير شعب وأمة لا يضارعه في المكانة ضمير أو يضاهيه. انعقد إجماع الجميع على أنه الترمومتر الأدق قياسا في النضال لقياس درجة الصحة والسواء أو درجة الخطأ والاعتلال في الموقف السياسي والوطني والقومي من هذه أو تلك من أمهات المسائل في تاريخنا المعاصر من منتصف القرن العشرين الماضي.
بدأ الحكيم حكيما (= طبيبا) في الأبدان، وانتهى حكيما في النفوس والإرادات والعزائم: جراحا ماهرا في استئصال اليأس.
محطات نضال
كان في وسع جورج حبش، الحكيم (=الطبيب) المتخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، أن يَنْعَمَ بعلمه وبوظيفته فيتألق في مهنة الطب، التي عشقها وأخْلَصَ لها، لولا أن وطنه فلسطين تعرض للاغتصاب الصهيوني في عام 1948، فغير برنامج حياته وقاده إلى المواقع الأولى في النضال الوطني الفلسطيني والنضال القومي العربي. لم يتردد ابن اللد في أن يترك مهنته فيتفرّغ لذلك الأمر الجلل. نداء اللّدّ والوطن المحتلين كان عميقا عميقا، أعمق جدا من نداء الوجاهة التي تصنعها مهنة كان لها في ذلك الحين –أي قبل ستين عاما- كبير اعتبار في المجتمع العربي، ربما في العالم أيضا.
لابد من بعض الاستدراك للقول إن وعي جورج حبش السياسي لم يبدأ مع حدث اغتصاب فلسطين. بدأ قبل ذلك، وصقلته دروس الراحل قسطنطين زريق وأفكاره في القومية العربية والوحدة. ولذلك ما كان صدفة أن يدشن الحكيم (=جورج حبش) حياته السياسية (= بعد الاغتصاب الصهيوني بقليل) بتأسيس «حركة القوميين العرب»، ولا كان صدفة أن رفاقه في تجربة التأسيس – وفي تجربة الحركة – زامَلُوه في سنوات الدراسة في الجامعة الأمريكية أو أتوا بعده بقليل متأثرين بأفكاره وبأفكار أستاذه الكبير زريق. فلقد كانت الجامعة الأمريكية في بيروت، حينها، الرحم التي نمت فيها أنشط أنتلجنسيا ثورية عرفها الوطن العربي في سنوات مده القومي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي.
في تاريخ جورج حبش السياسي ثلاث محطات ثورية وتنظيمية كان فيها رائدا ورمزا على الدوام، وكانت فيها فلسطين عنوانا مباشرا أو غير مباشر:
كان الحكيم في المحطة الأولى على موعد مع حدث تاريخي بامتياز (كان من صناعه) هو تأسيسه «حركة القوميين العرب» مع ثلة من رفاقه الرواد (الراحل وديع حداد وهاني الهندي، وأحمد الخطيب...). الحدث كان تاريخيا لأن الحركة نجحت سريعا في الصيرورة قوة جماهيرية كبيرة في الأردن ولبنان ابتداء، ثم في البحرين والكويت واليمن وسورية والعراق تاليا. وكان تاريخيا لأن نطاق نفوذ الحركة اتسع وامتد مدى إشعاع أفكارها في لحظة سياسية قومية كانت موقعيّة البعث والناصرية فيها حاسمة. ولم تكن الخمسينيات قد انتصفت إلا قليلا حتى كانت الحركة قد بدأت في إنجاب قيادات سياسية جديدة (محسن ابراهيم، نايف حواتمة، أبو ماهر اليماني، عبد الفتاح إسماعيل، محمد كشلي...) ستأخذ موقعها سريعا في قيادة الحركة. ولقد أتت الوحدة المصرية-السورية (1958)، والثورة العراقية (14 يوليوز 1958)، والثورة في لبنان على نظام الرئيس كميل شمعون (1958)، والقرارات الاشتراكية في مصر... تدفع حثيثا نحو التقارب بين قيادة الحركة وبين عبد الناصر إلى الهدى الذي تحولت فيه خيارات الحركة تحولا حاسما نحو الناصرية في منتصف الستينيات من القرن الماضي من دون أن تفقد استقلالها التنظيمي أو استقلالية قرارها السياسي.
ثم ما لبثت خيارات الحكيم حبش وحركته (حركة القوميين العرب)، أن استقرت – في المحطة الثانية- على قرار حل الحركة، بعد هزيمة عام 1967، وتحول فروعها إلى تنظيمات قطرية (=وطنية) منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض ثقل لحظة الهزيمة قاد إلى الازوِرَار عن الفكرة القومية العربية والانصراف إلى الفكرة الوطنية، لكن هذه المرة من باب فكرة الثورة الوطنية والاجتماعية التي تغذت من ماركسية راديكالية متمردة على الشيوعية العربية طرأت موضوعاتها حديثا على قيادة «حركة القوميين العرب» في سياق تأملها النقدي في أسباب الهزيمة. ولم يكن جورج حبش قد دشن محطته الثانية هذه بتأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» (1968) –التي كان الفرع الفلسطيني ل«حركة القوميين العرب» نواتها ومادتها –حتى كرت سبحة التنظيمات التي من شاكلتها ومن مشربها: «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلطسين»، بزعامة نايف حواتمة، و«منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» بزعامة محسن إبراهيم، و«الجبهة القومية» اليمنية (التي انتهى بها الراحل عبد الفتاح إسماعيل إلى «الحزب الاشتراكي اليمني»). وهكذا انفرطت «حركة القوميين العرب» في هذه المحطة الثانية من حياة رجالاتها وآلت إلى تنظيمات سياسية لما صار يعرف باسم «اليسار الجديد» (تمييزا له عن اليسار الشيوعي التقليدي). غير أن ماركسية «الجبهة الشعبية» وزعيمها (جورج حبش) تميزت عن ماركسية نظيراتها من تنظيمات (أو فروع) الحركة بكونها لم تغادر منطلقاتها القومية ولم تقطع تماما مع الميراث الناصري.
ولقد كان ذلك واحدا من الأسباب التي قادت إلى انفصال نايف حواتمة وأبو عدنان وياسر عبد ربه وأبو ليلى وبلال الحسن وآخرين عن جورج حبش ورفاقه في قيادة «الجبهة الشعبية» (أبو ماهر اليماني، أبو علي مصطفى، غسان كنفاني، بسام أبو شريف، عبد الرحيم ملوح...) وتأسيسهم ل»الجبهة الديمقراطية» (1969) كتنظيم ماركسي – لينيني.
ثم أتت المحطة الثالثة تأخذ شكل انضمام تنظيمي ل»الجبهة الشعبية» لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية – بعد سيطرة الفصائل الفدائية عليها في العام 1969 – ومشاركة في العمل الفدائي الذي أطلقته «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» (فتح) في مطلع العام 1965.
وإذا كانت الجبهة قد بدأت –في 1969- في تنظيم عمليات خطف الطائرات الغربية واحتجاز رهائن أمريكيين وإسرائيليين لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين ولشد انتباه العالم إلى قضية فلسطين (وهي العمليات التي كان يشرف عليها وديع حداد وكانت ليلى خالد من أبطالها)، فإن هذا الخيار لم يكن على حساب دور الجبهة في العمل الفدائي والثورة المسلحة أو على حساب دورها السياسي في منظمة التحرير. وعلى الرغم من أن الجبهة علقت عضويتها أكثر من مرة في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وامتنعت عن المشاركة في بعض دورات المجلس الوطني، احتجاجا على المنحى التسويوي الذي دخلته المنظمة منذ صيف العام 1974 (منذ إقرار البرنامج المرحلي)، وقادت جبهات وائتلافات معارضة (جبهة الرفض، التحالف الديمقراطي، تحالف «الفصائل العشرة».. ضد سياسات «فتح» في قيادة منظمة التحرير، إلا أن «الجبهة الشعبية» كرست وجودها وموقعها في الثورة ومنظمة التحرير بوصفها ثاني أكبر فصيل فدائي بعد «فتح».
وكان لمواقف الحكيم المبدئية ولكاريزماهُ الشعبية الأثر الحاسم في تكريس صورتها كتنظيم لا يساوم على ثوابت القضية والثورة تحت أي ظرف.
لم يكن جورج حبش قائدا من قادة الثورة الفلسطينية ومن قادة حركة التحرر الوطني العربية فحسب، كان –فضلا عن ذلك- من قادة الثورة في العالم المعاصر ومن ألمعهم ومن أكثرهم شعبية لدى حركات التحرر في العالم. شهد له بذلك الجميع، وشهد به تدفق مئات المقاتلين من آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا للقتال في صفوف حركته والانضمام لها في معسكرات الثورة في الأردن ولبنان. كان عند الجميع صورة أخرى لتشي غيفارا، أما هو، فظل يعتبر نفسه جنديا من جنود صلاح الدين الأيوبي وجمال عبد الناصر. تذكر كثيرا «حركة القوميين العرب» في أواخر حياته، ولا شك أن حسرة شديدة تملكته وهو يستعيد تجربة انفراطها. لعله الخطأ الوحيد الذي لم يغفره لنفسه. فالرجل شديد التمسك بعروبته وشديد الإدراك بأن حل قضية فلسطين لا يمكن أن يكون إلا قوميا.
اعتراف متأخر
على الصعيد الشخصي، لم يكن جورج حبش يعني بالنسبة إلي مجرد زعيم فلسطيني وقومي عربي وثوري أممي، ومجرد معلم وقدوة ومثال في العمل السياسي فحسب، أَوْ لِأَقل –من باب الدقة- إنه كان يعني ذلك كله في وجداني في سنوات السبعينيات وأوائل الثمانينيات: حتى حينما كانت انحيازاتي السياسية للجبهة الديمقراطية في بعض ذلك الحين. غير أن معرفتي المباشرة بالراحل الكبير، وتوطد علاقتي به، فتحت أمامي أفقا لاكتشاف الغنى الإنساني اللامحدود في شخصيته، ووضعتني على مقربة من إدراك ذلك الأثر الكاريزمي الاستثنائي الذي كان له في نفوس جميع من كانوا على صلة مباشرة به من المناضلين والمثقفين منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.
علاقتي بهذا القائد الفلسطيني والعربي الكبير، وثقته الكريمة التي منحني إياها، من أعز وأغنى وأثمن ما أملك في حياتي. لكنها في الوقت نفسه، وفي سياق رحيله المفاجئ، تُرَتِّب علي تبعات نفسية لست أقوى على حملها، وتحديدا على تحمل الشعور القاسي بأنني –ومن دون قصد- لم أكن في مستوى ثقة هذا القائد الكبير، ولم يكن لإيقاع مسؤوليتي البطيء أن يقدر أحكام الزمن على البشر. وهذه –باختصار شديد- أسبابي التي تدفعني إلى تجرع هذا الشعور القاسي:
قبل عام ونصف من اليوم، منحني الدكتور جورج حبش، وزوجته المناضلة السيدة هيلدا حبش، شرف كتابة سيرته الذاتية. وكان علي أن أزوره في عمان لنبحث في الموضوع ونضع جدولا للقاءات بين عمان ودمشق. أقعدني مرض مفاجئ عن الموعد، ثم قدرت أن في وسعي تدارك هذا الطارئ حين أكون في بيروت صيف ذلك العام (2006). وحين سافرت إلى لبنان في نهاية يونيو 2006، كنت أَنْتَوِي زيارته في دمشق أو في عمان للبدء في المشروع، ثم وقعت الحرب وحوصرنا في بيروت برا وجوا وبحرا فتأجل موضوع اللقاء. عدت من لبنان إلى المغرب في نهاية سبتمبر 2006 بعد انتهاء الحرب ورفع الحصار، وكان علي أن أفتح صفحات تاريخ الرجل من خلال إعادة قراءة تجربة «حركة القوميين العرب» ودوره فيها، وتجربة «الجبهة الشعبية»، لأهيئ نفسي على أحسن حال لجلسات حوار قدَّرْتُ أنها ستأخذ منا عشرات الساعات.
لكني تأخرت في التنفيذ، وساهم في تأخيري وجود الحكيم (حبش) خارج دمشق لفترة طويلة، وخاصة في الأوقات التي كنت فيها في بيروت ودمشق خلال عام 2007.
لست أبرر تقاعسي، فقد كان يمكنني أن أغالب بعض هذه الظروف وأستعجل الموضوع. وهذا الشعور بالمسؤولية الشخصية عن التأخر هو ما يؤرقني اليوم بعد رحيل الحكيم. والحق أنه أرّقني حتى قبيل رحيله بأسبوع.
إذ نقل إلي الصديق الأستاذ بلال الحسن خبرين محزنين: خبر وعكة صحية ألمت بالحكيم جورج قضت بنقله إلى المستشفى، وخبر نشر جزء من مذكراته بالفرنسية بتحرير الصحفي الفرنسي مالبرونو.
كان الخبر محزنا مرتين: مرة لأن صحة الحكيم غالية عند كل فلسطيني وعربي لما يعنيه الرجل من معان لدى الجميع فكيف بمن عرفه وتوثقت به علاقته. ومرة لأن مالبرونو – ومع احترامي الشديد لأدائه الصحفي وشجاعته – ليس الرجل المناسب لكتابة مذكرات الحكيم لأنه لا يعرف عنه إلا القليل، ولأنه يجهل تاريخ «حركة القوميين العرب» و«الجبهة الشعبية»، ولست أعتقد أنه قضى أشهرا يقرأ آلاف صفحات هذا التاريخ، أو التقى رجالات تلك التجربة من الأحياء من رفاقه (هاني الهندي، أحمد الخطيب، محسن إبراهيم، نايف حواتمة، أبو ماهر اليماني، صلاح صلاح، عبد الإله النصراوي، عبد الرحيم ملوح، محمد كشلي، جاسم القصامي، بلال الحسن، الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد...) وسمع منهم تفاصيل تجربة الحركة والجبهة قبل إعداد أسئلة المقابلات. بل إن كتابة المذكرات تقتضي معرفة بتاريخ قضية فلسطين وبتاريخ الحركة القومية وحركة التحرر الوطني العربية. وهذا مما ليس في حوزة السيد مالبرونو أو غيره من الكتاب الأجانب.
ليس مبعث المرارة أن كتابة السيرة الذاتية لحكيم الثورة ضاعت علي، فأنا من أضاعها بتقاعسه عن الإنجاز السريع، ولن أغفر لنفسي هذا الخطأ، وإنما مبعثها أن فرصة ظهور تلك المذكرات على الوجه المطلوب ضاعت برحيل صاحبها عن الدنيا. الأمل الوحيد أن يقوم أحد رفاقه القدامى بذلك، ولو أن هذا لن يفي بحاجة تدوين رواية الراحل لسيرته كما يراها، أي بالحاجة إلى تدوينٍ موضوعيٍّ محايد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.