أصبح من الطبيعي جدا الحديث عن اختفاء القارئ في المغرب، وعن إغلاق المكتبات لتحل محلها دكاكين تجارية. لكن هناك احتفاء آخر لا يقل خطورة ومأساوية؛ اختفاء الناشر. فعلى خارطة النشر العربي اختفى العديد من الناشرين: دجار ابن خلدون، دار ابن رشد، ودار الكلمة، ودار الحقيقة في بيروت. وفي ليبيا التي بدأت تلعب دورا كبيرا في النشر العربي، بل وأصبحت قبلة للعديد من الكتاب والمترجمين، اختفت من طرابلس «دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية». ونذكر أنها الدار التي نشرت رائعة روائية لأمبرتو إيكو: « جزيرة اليوم السابق» سنة 2000، وهي من ترجمة المترجم التونسي أحمد الصمعي. ومن يتصفح الرواية وطريقة طباعتها يجد أنها بمواصفات النشر المهني الراقي. وفي تونس اختفت دار نشر أسسها الكاتب والمترجم عب الرحمان أيوب تحمل اسما جميلا: «تبر الزمان»، مترجم «مدخل إلى جامع النص» لجيرار جينيت، وقد نشرته دار توبقال. هذا إلى جانب اختفاء سلاسل نشر نذكر منها مثلا «عودة النص» الشهيرة بترجماتها للرواية الفرنكوفونية المغاربية: «نجل الفقير» لمولود فرعون، و»موحا المعتوه، موحا الحكيم» لبنجلون، و»التطليق» لبوجدرة، و»الحضارة أمي» للشرايبي... ولولا مكابدة ومجالدة اللبنانين لاختفت دور نشر تحت انقاض الحرب القبلية (الأهلية). لما عدنا نسمع بدار الآداب، ودار التنوير، والمركز الثقافي العربي، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر. أما في سوريا فدور النشر دفنت تحت الأنقاض مع مخطوطات الكتب. ولولا فرار بعض الناشرين إلى خارج سوريا الملتهبة لاختفوا واختفت دورهم. لكننا لا نعرف مصير الروائي نبيل سليمان مع دار نشره «دار الحوار». وفي العراق أصبح النشر من ذكريات الماضي. أما نحن في المغرب، فرغم أننا لا نعيش حروبا، فإن دور نشرنا تكابر، وتواجه إلى أن يلحق بها مصيرها المحتوم: الإغلاق. من يذكر «دار نشرة» بالدارالبيضاء، التي لعبت دورا في نشر نصوص بعض الكتاب والشعراء: «غيوم الصباح» للبشير جمكار، «الأشجار» لمحمد الشيخي. ومن يذكر «دار الكلمة» التي نشرت للمديني وتودوروف والخوري. ومن يذكر مؤسسة «الناشرون المتحدون» التي نشرت « نصوص الشكلانيون الروس»، و»مرفولوجية الحكاية الشعبية» لبروب، و»الأدب والحقيقة» لرولان بارت، وكلها من ترجمة الأستاذ إبراهيم الخطيب. ولولا الأقدار لاختفت دار الثقافة، ودار توبقال، التي انتعشت مؤخرا بفضل دعم الكتاب. وإذا جلس المرء وبدأ يحصي دور النشر في المغرب، البلد الذي تقترب نسمته من الأربعين مليونا، لخجل من نفسه، وخجل بلده منه. دور نشر قليلة، بمواصفات متوسطة، وفي أحيان كثيرة ضعيفة. الأمر يتطلب نهضة حقيقية برجال تكون لهم الشجاعة والجرأة والإقدام على نشر الكتب بمواصفات النشر كما هي موجودة في المشرق العربي، ولم لا الأوروربي. إنها الفرصة الوحيدة المتبقية أمامنا جميعا: الدولة، والناشر، والكاتب.