تحت سماء زاكورة الزاهرة ، وفي ضيافة نادي الهامش القصصي الذي أصبح مِحجّا مرموقا تُشدّ إليه الرحال من كل فجّ مغربي عميق ، تعرّفتُ على الصديق المبدع الفنّان والإنسان ، عبد الحفيظ مديوني . كان ذلك في ربيع 2017 . ومِن ذاك الربيع إلى هذا الربيع ، تفتّحت ورود المودّة والوئام والإبداع بين إخوان الصفا وخلاّن الوفا . وقد عمّد هذا التعارف بأن أهداني مجموعته القصصية الصادرة آنئذ ، ( أغراب الدّيار ) . اسْتطبْتُ منذ البدء هذا الرجل الدّمِث الذي ينفُذ إلى نفسك ويقعُ على مزاجك ، بلا استئذان . ولفتني للوهلة الأولى ، هذا العنوان الرائع لمجموعته القصصية ( أغراب الديار ) ،المُثير للفضول والراشح بالأسرار . تُرى ، ما حكاية هؤلاء الأغراب ، وما حكاية الديار ؟ وأتاني الخبر الحكائي اليقين بلغة قصصية شفافة وشائقة ، وأنا أجوب عوالم هذه المجموعة المسكونة بأغراب يجوبون الديار كالقنابل الموقوتة ، والأشباح الغامضة،وفي أخفّ الأحوال ، كغرباء أشقياء في الديار وطيور في غير سربها .. وهم نُزلاء القصة القصيرة على الدوام . ليس في المجموعة قصة بهذا العنوان ( أغراب الديار ) . لكن نصوص المجموعة كلها ، تدور حول أغراب وغُرباء الديار من كل حدب وصوب ، ومن كل فصيل ورعيل . وحسبك أن تقرأ القصة الأولى في المجموعة ، لتُواجهك أنفار مسْتنفرة من هؤلاء الأغراب ، في مدينة موْتورة – ملغومة يعيثون قتلا في ديارها .. باسم طوائف وملل ونحل متواطئة على شريعة الغاب ، شعارها / حيّ على القتل . هنا ، بدا لي عبد الحفيظ مديوني ، قنّاصا وقاصّا جيدا لأسئلة وهواجس الوقت ، وعيْنا رائية إلى خفايا وأسرار وفواجع الوقت . وأيضا إلى أسرار الكوميديا البشرية حدّ تعبير ، بلزاك . وتبيّن لي ، كأنّه قد تسلل خلسة كعاشق متربّص ، إلى شُرْفة القصة القصيرة فاكتشف سرها وهتك سترها ، وجاءنا بالبوح الكثير في الكلِم القصير . وتلك هي سريّة وجمالية القصة القصيرة ، لمن تملّك السرّ . وتحسب أنك جِرْم صغير / وفيك انْطوى العالم الأكبر عِلْما ، بأن الكاتب بدأ مساره الإبداعي روائيا من خلال روايته ( الحكاية الأخيرة )، ومسرحيا أيضا من خلال مسرحيتيه ( الورشة ) و ( سندوباد ) .. وذلك قبل أن يطرق باب القصة ، ليبدأ حكايته الأولى معها . والحكاية الأولى ، كالحب الأول ، شئ يأتيك من حيث لا تحتسب . وهو بذلك يخرق القاعدة الأدبية المألوفة عند معظم الكتاب / حيث يبدأون أولا بكتابة القصة ، قبل أن يُديروا أعنّتهم لكتابة الرواية . وهذه الانْعطافة – العكسية لعبد الحفيظ مديوني ، من الرواية إلى القصة ، دليل على وُقوعه في هوى القصة . في هوى ما قلّ ودلّ ولم يُملّ . وتحْضرنا هنا القولة الجميلة لتشيكوف ( إذا كان الطبّ زوجتي ، فإن القصة عشيقتي ) . ولا بِدْع ، فقد كانت القصة القصيرة منذ لحظة ميلادها ، رفيقة العُظماء / – أنطون تشيكوف – موباسان – إدجار ألان بو – همينغواي – كاترين مانسفيلد – محمود تيمور – نجيب محفوظ – يوسف إدريس – زكريا تامر .. ولا ننسى أن نعرّج على وليّها الصالح في المغرب ، أحمد بوزفور . ذلك ان القصة القصيرة لم تعد مصنعا للأكاذيب ، كما راج ذات يوم في أرْوقة الفاتيكان ، بل أضحت شكلا من أشكال المعرفة الأدبية ، ونميمة راقية على مفارقات وأسرارالحياة . في مستهلّ مجموعته ( أغراب الديار ) ، وفي قالب قصصي – ساتيري ، يحكي لنا عبد الحفيظ مديوني حكاية وُقوعه في هوى القصة القصيرة وطرْقه بابها /( ثمّ لما طرق بابها ، أطلت عليه من شرفة البيت العالية . فسألته : ماذا تريد يا هذا؟ أجاب في شئ من الحرج : أريد أن أكتبك . قالت : أفلا تعلم أن كتابتي مغامرة خطيرة ؟ قال : بلى . قالت : ادفع الباب وتفضّل . فعل . وهو يدرك تماما أن البيت الذي يقتحمه ينطوي على أسرار كثيرة . ) وهذه الأسرار بالضبط ، هي التي سيقتحمها ويُميط عنها اللثام ، عبد الحفيظ مديوني، في ما نشره من قصص . ولعل ما خفي من الأسرار أعظم . من رُبوع ونُجوع المغرب الشرقي الأصيل – الجميل ، وتحديدا من بركان المعطّرة بالبرتقال والأقحوان ، يأتينا عبد الحفيظ مديوني ، قاصّا وروائيا ومسرحيا وفنانا تشكيليا .. في غير جلبة أوضوضاء ، وبمنْأى تماما عن الأضواء . وهذه أخلاق وخصال المغرب الشرقي الر اقية – الأصيلة ، التي لم ينل منها الزمن المغربي القُلّب ، والتي تتصادى وتتآخى مع أخلاق وخِصال المغرب الجنوبي – الصحراوي على ضِفاف درْعة . وشئ رائع ومُبْهج ، أن يحتفي الهامش القصصي في زاكورة ، بالهامش – المُلتقى القصصي في بركان، في شخص القاص – المبدع عبد الحفيظ مديوني . من أقصى الشرق ، إلى أقصى الجنوب . رحلة مغربية طويلة – وجميلة ، لا يقدر على طيّها سوى القصة القصيرة . الشّفرة الإبداعية الخطيرة . وأنا أستحضرفي هذه الكلمة بركان ، التي تزدهي بحضور رموزها الرائعة في هذا اللقاء/ عبدالكريم برشيد – إدريس كثير- مصطفى الرمضاني – سعيد ملوكي – محمد العتروس .. لا بد لي من تحية خاصة للمبدع البركاني الذي تعرّفتُ عليه مباشرة في لقاء 2017 بمعيّة عبد الحفيظ مديوني .. وهو سعيد ملوكي . القاص والفنان والإنسان الرائع ، الذي عمّد لحظة التعارف هو الآخر ، بمجموعته القصصية (سرير بروكست ) . والعنوان برمزيته الإغريقية ، غنيّ عن البيان . لقد كان المبدعان – البركانيان ، عبد الحفيظ مديوني وسعيد ملوكي ، مرسولين ثقافيين راقيين للمغرب الشرقي إلى زاكورة الزاهرة . وأن تكون القصة القصيرة وراء هذه اللّمة الكبيرة ، فتلك مفْخرة ثقافية ورمزية رائعة بكل المقاييس . والتحيّة موصولة ودائمة وقائمة لنادي الهامش القصصي في زاكورة ، الذي يجمع ويؤلّف بين القلوب والأحبّة ، مهما تناءت الديار ، وشطّ المزار ، وامتلأت الطريق بالمتاعب والأكْدار .