تتميز القصة القصيرة في المغرب بحركية ملفتة، أثارت انتباه الملاحظين و المتتبعين ، و تجلت هذه الحركية بالخصوص في الاهتمام الكبير ، الذي حظيت به من قبل المبدعين و النقاد على حد سواء .. نتيجة لذلك أصبحنا أمام زخم غير مسبوق من الإصدارات القصصية ، و اللقاءات و الملتقيات التي تؤطرها الجمعيات المتخصصة و غير المتخصصة ، هذا فضلا عن المتابعات النقدية التي تزخر بها صفحات الجرائد و المجلات و الشبكة العنكبوتية ، وتبقى العلامة الفارقة في هذا المجال التحاق الكتاب الجدد و ناشئة الأدب بشكل متواتر بكوكبة القصاصين القدامى ، بما يعني أن القصة أصبحت تحقق - على الأقل في مخيال البعض - نوعا من المجد الأدبي ، مزاحمة بذلك جنس الشعر، الذي كان إلى وقت قريب ، البوابة المثلى لولوج دنيا الأدب بالنسبة لهذه الفئة من الكتاب. و قد توج هذا الاهتمام الكبير الذي حظيت به القصة القصيرة بانبثاق جنس قصصي جديد ، وهو جنس القصة القصيرة جدا ، الذي أسال و لا يزال كثيرا من المداد حول تجنيسه ، إذ يعده الكثيرون وخاصة أولئك الذين يحملون موقفا سلبيا تجاهه ، تنويعا من تنويعات القصة القصيرة ، فيما لا يجد البعض الآخر - خاصة كتابه - غضاضة في اعتباره جنسا أدبيا جديدا، له خصائصه المائزة ، التي تؤهله ليكون جنسا أدبيا قائم الذات. و إذا كان من باب تحصيل الحاصل الابتهاج بهذه الحركية المباركة ، التي جعلت القصة القصيرة ذات مكانة اعتبارية في المشهد الأدبي المغربي ، بل و أضحت جنسا جذابا ، أغوى كتابا من أجناس أدبية أخرى كالشعر و الرواية و المسرحية ، بل و رمى شباك غوايته حتى على بعض النقاد ، فإنه من اللازم طرح بعض التساؤلات المشروعة ، التي تخص هذا الحراك ،و يمكن إجمالها فيما يلي: هل تعبر هذه الحركية الملفتة عن ازدهار حقيقي للقصة القصيرة في بلادنا ؟ هل يخدم الطابع الاحتفالي للقاءات و الملتقيات جنس القصة القصيرة ؟ هل هناك متابعة نقدية حقيقية و جادة للركام المتراكم من القصص القصيرة؟ هل استطاع القصاصون المغاربة الجدد خلق نماذج قصصية ، تعد بمثابة معالم في الطريق ؟ هل هناك اطلاع عميق على التجارب القصصية السابقة، أم أن كل قاص جديد يبدأ و كأنه غير مسبوق بهذا التراكم القصصي و الجمالي ؟ هل استطاعت القصة القصيرة أن تخلق جمهورها القارئ خارج كتابها ؟ هل تمكنت القصة القصيرة من فرض نفسها على دور النشر؟ هذا غيض من فيض من التساؤلات التي لا أدعي امتلاكي لأجوبة شافية لها ، و هي وليدة متابعتي و حبي لهذا الفن القصصي الجميل ، كما أن بعضها انبثق في الذهن و أثقل على القلب بعد اطلاعي على المجموعة القصصية المشتركة" حتى يزول الصداع" .. هذه المجموعة التي استمتعت بقراءتها ، لأنها تتضمن نصوصا توفر متعة القراءة ، و تبشر بمستقبل زاهر و متجدد لفن القصة القصيرة و القصة القصيرة جدا..لكنها - في نفس الوقت - تفرض على المتلقي مواجهة بعض الأسئلة المقلقة و الملحة.. لكل ذلك يسعدني أن أشرككم في ما تردد في داخلي من أفكار و هواجس ، و أنا أتصفح قصص المجموعة ، و التي يمكن إجمالها فيما يلي: إنها مجموعة مشتركة ، و لا يتعلق الأمر بتمثيلة قصصية بنص أو نصين ، يؤهلها لتكون أنطولوجيا قصصية ، انبنت على أساس الاختيار ، لذا نجد التفكير سرعان ما ينزاح نحو الجبر ، بمعنى أن هذه المجموعة تحيل - في المقام الأول- على أزمة النشر ، خاصة بالنسبة للقصة القصيرة ، و هذا الأمر يجيب نسبيا على أحد التساؤلات أعلاه. وقع الكاتب العميد أحمد بوزفور تقديم هذه المجموعة ، و هذا يعني أن أيادي هذا الكاتب البيضاء على القصة القصيرة لا زالت مستمرة ، و هو إحدى العلامات البارزة و الفارقة في تاريخ القصة المغربية . لقد سبق لي في أحد اللقاءات القصصية أن قلت بأن التأريخ للقصة القصيرة في المغرب سيتحدد مستقبلا بما قبل أحمد بوزفور و ما بعده .. فالكثير من الفضل يعود إلى هذا الرجل في تبويء القصة القصيرة المكانة التي تتبوؤها الآن ، من خلال اشتغاله على نصوصه أولا و تطويرها و التنظير للفعل القصصي ثانيا ، فضلا عن دعمه للكتاب الشباب و تأسيسه لمجموعة البحث في القصة القصيرة ، المشرفة على مجلة "قاف صاد " ، التي لا يجهل أحد أهميتها بالنسبة للفن القصصي. حضور العنصر النسوي بقوة ، فالمجموعة القصصية "حتى يزول الصداع " فسحت المجال لنصوص الكاتبات بشكل ملفت ، و هذا معطى دال يعبر عن المكانة التي التي أضحت القاصات المغربيات ، يحتلنها في المشهد القصصي المغربي ، و هو حضور نوعي و فعال ، خاصة بعد تجاوز كثير من القاصات مطبات الكتابة النسائية ، من خلال اقتحامهن لتكنيك الخلق بدل التعبير الذي وسم كتابة النساء لمدة طويلة ، و في المجموعة شيء من ذلك ، و إن عبر عن نفسه باحتشام ملحوظ. تضم المجموعة بين دفتيها نصوصا في القصة القصيرة و نصوصا في القصة القصيرة جدا .. و يمكن طرح السؤال بهذا الخصوص .. هل يتعلق الأمر برؤيا أو تصور ما حكم الساهرين على المشروع ، يشي بإيمانهم بأن كل من القصة القصيرة و القصة القصيرة جدا ينضويان تحت لواء جنس أدبي واحد ، أم هي الضرورة التي أباحت المحظورة ؟ تتفاوت النصوص طولا و قصرا وكذلك جودة ، كما يختلف تصور كل قاص و قاصة للكتابة القصصية ، مما يجعل المتلقي أمام تنوع ، قد يكون محمودا في أحد وجوهه ، لكنه مربك في وجوه عدة ، مما يصعب معه استخلاص سمات معينة تؤطر الفعل القصصي لدى قاصات و قصاصي المجموعة. هذه بعض الملاحظات العامة ، التي فرضت نفسها علي ، بعد قراءة نصوص المجموعة ،و قد تكون غير دقيقة بل مجحفة في بعض الأحيان ، لذا يطيب لي أن أختم هذه الورقة ، التي تعبر - أولا و أخيرا- عن وجهة نظري المتواضعة ، بطرح المزيد من الملاحظات ، حول كل قاص و قاصة على حدة ، و أنا مدرك أن هذه الملاحظات قد لا تساهم في زوال "الصداع" ، بل تتغيا - بسبق إصرار و ترصد - تأجيجه ، خدمة للقصة القصيرة و القصة القصيرة جدا ، و قد صغت هذه الملاحظات كالتالي: حياة بلغربي: تعاني القصة هنا من انفصام" جميل "، فالثيمة العاطفية غالبا ما تفرض على القاص أسلوبا تعبيريا جوانيا ، تصبح الذات محوره أقصد ذات الكاتب ، غير أن القاصة وفقت في تدبيج قصصها بلغة ناضجة محايدة ، وموضوعية ، تلتقط التفاصيل ، و تتحكم في سردها بطريقة احترافية و واعدة جدا. زايد التيجاني: القصة عند التيجاني أغراها الواقع ، فعمدت إلى نقله إلى القصة ، حتى أنه يمكننا أن نفصل بينهما ، القصة هنا مجرد و سيلة و أداة ، تحكمها نزعة أخلاقية واضحة ، و تتشبت بماضي الفعل القصصي ، كما ترسخت في مرحلة ما من زمن القص المغربي ، و كانت النتيجة أن فقدت الجملة القصصية هويتها ، فتماهت مع الجملة الروائية. محمد محضار و هشام ناجح : تحكم القصة عند القاصين رؤيا رومانسية ، أثرت في لغتها فشعرنتها ، و ارتفع صوت السارد متشكيا و متذمرا و حزينا ، فيما تتطلب القصة عينا قريرة ، هادئة و مطمئنة ، تلتقط التفاصيل و لا تنفعل بها ، كما أن الرؤيا من خلف أسقطت القصص في تقليدية قصصية ، و كأنها تتجاهل ما حققته القصة المغربية من تراكم .. القصة هنا ارتدت جبة الرواية. كريمة دلياس: القصة القصيرة جدا تبني معادلات رياضية ، عبر الرهان على الثنائيات.. تعاكس / تجاذب.. طرفا الحبل .. الرأس بالنسبة للشارع و الناس .. المسحوق بمعناه الواقعي و المجازي.. بالتأويل لكنه مغر إنها معادلات قصصية ، لعبة شكلية ، قد يصبح فيها المعنى شكليا و مفتعلا . أمينة الإدريسي: لمسة شعرية تخترق القصص ، و حضور قوي للذات، تلهي القاصة على الاهتمام بما حولها، عندما تلتهي القصة بذواتنا تخسر الكثير ، تهمل الحواس ، القصة تسمع و ترى و تشم و تحس ، بالمحصلة في العالم ما يكفي لتأثيث القصص. عدنان الهمص : قصص جميلة لكنها تخطئ الوسيلة أحيانا ، يخونها التكثيف ، فتغرق في تفاصيل لا تحتاجه. مينة ناجي : تعاني القصة هنا من ثقل المجاز ، فتصبح و قصدة النثر سواء.. و يصبح القارئ أما نص" عبرأجناسي".. لذا يبدو لي الوعي بالحدود الفاصلة ما بين الأجناس قد يكون مفيدا. عبد الكريم العمراني : رؤيا تقليدية ، جعلت القصة تسقط في فخ نقل الواقع ، و اللغة مجرد أداة تنقل هذا الواقع ، في القصص التي تكتب الآن و هنا يتم الإبداع في اللغة كذلك. عبد الرحيم التدلاوي: استفادت القصة القصيرة جدا مما تحقق في هذا المجال ، فجاءت ناضجة ، تبدع من داخل اللغة و توظف كل الإمكانات المتاحة للقاص لخلق أثر فني جميل. المصطفى سكم: لا تتحمل القصة القصيرة جدا تلك اللمسات الحانية التي يربت بها القاص على كتفها .. القصة تحتاج إلى احترافية في التعامل ، لا تعاطف و لا رومانسية غارقة في لواعجها. مليكة الغازولي: ارتدت القصة لبوس الحكاية ، فتخضبت الرؤيا برذاذ زمن الحكاية و وظيفتها الوعظية و الإصلاحية. --------------------------------