الشعر في المغرب -كما في باقي البلدان العربية- كائن تاريخي عتيق، فيما القصة القصيرة كائن بحياة هي أيضا قصيرة. لماذا هذا الظهور المفاجئ للقصة في المغرب؟ وما سر هذا الحضور القوي؟ ولماذا تحول العديد من الذين استهلوا حياتهم الأدبية بالشعر إلى القصة؟ ولماذا اتجهت كاتبات المغرب اليوم إلى السرد تاركات الشعر للرجال؟ وهل انتصرت القصة فعلاً على الشعر؟ الناقد المغربي محمد معتصم، أحد المنشغلين بأسئلة القصة القصيرة في المغرب، طرحت عليه سؤالا يكاد يشبه الفخ: لمن الغلبة اليوم في المغرب، للشعر أم للقصة؟ فأكد لي أن الشعر مازال يتمتع بحضور قوي، بدليل أن معظم الدراسات الجامعية في المغرب تنكبّ على الشعر تنظيرا ونقدا، لكن حضوره على المستوى الإعلامي خافت ومتراجع، نظرا إلى خفوت الصوت الأيديولوجي، مما جعل الشعر معزولا في الظل، ونظرا إلى تراجع الملتقيات الشعرية، وخصوصا الجهوية التي كانت تغني الحركة الشعرية داخل الوطن. يضيف معتصم: إن مرحلة ما بعد الحداثة أعطت دفعة قوية للقصة جراء ظهور أندية تنشط بالمركز والهامش على السواء، وجراء تعدد اللقاءات المخصصة للقصة في الجنوب والشمال ومختلف الأطراف، إضافة إلى الحضور الإعلامي القوي الذي يواكب هذه الأنشطة». والحقيقة أن الملتقيات القصصية السنوية لم تعد تنظمها الرباط أو الدارالبيضاء فحسب، وإنما تعتني بها أكثر مدن الهامش الجغرافي مثل زاكورة ومشرع بلقصيري. إقبال على السرد حين سألنا الشاعر مبارك وساط «ما الأكثر مقروئية في المغرب، الشعر أم القصة والرواية؟» صرح بأن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر السهل، لعدم وجود دراسات ميدانية تتعلق بالتداول الاجتماعي للأدب عندنا، يقول صاحب «المياه العميقة» انطلاقا من متابعته للمشهد الثقافي في مجاله الأوسع: «بحسب ملاحظاتي الشخصية، التي تبقى محدودة النّطاق طبعا، فإن الإقبال على السرد أكبر منه على الشعر، فروايات نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وغابريال غارثيا ماركيث، مثلا، متداولة أكثر من دواوين أدونيس وأنسي الحاج وسركون بولص ورامبو ... ولا شك أن هذا يعود إلى كون قراءة الشعر الحديث والمعاصر تستلزم ثقافة واسعة بعض الشيء، وحسا لغويا شديد الرهافة». وحين سألناه عما إذا كانت هذه القاعدة تشمل حتى واقعنا الثقافي المحلي كان رده: «في ما يخص السرد والشعر المغربيين، أعتقد أن نفس الملاحظة تسري عليهما، فهنالك روايات مثل الماضي البسيط لإدريس الشرايبي ومجنون الحكم لسالم حميش والثعلب الذي يظهر ويختفي لمحمد زفزاف، لقيت إقبالا حسنا، بينما لا يَقرأ كتابات محمد بنطلحة أو محمد الصابر... إلا عشاق اللغة المتعلقون بالعوالم المُبتدعة بشكل أصيل. وأنا لا أقصد أن الكتابة الروائية أسهل من كتابة الشعر، لأن مثل هذا الاعتقاد شديد السذاجة. فواقع الحال أننا قد نجد، أحيانا، روايات تنضح شعرا بديعا، وقد نقرأ قصيدة ما سُميت كذلك جزافا. فالفصل بين الأجناس الأدبية لا يجب أن يخضع ل«المظهر الخارجي» للنص، بل إن هنالك نصوصا لا تخضع لعملية التجنيس إلا بشكل تقريبي». أما القاصة ربيعة ريحان فترى أن القصة والشعر يحضران في المغرب بزخم قياسي وإن كان هناك تواطؤ من أجل فرض الرداءة بكل السبل التقنية، على حد تعبيرها: «أحيانا تجاوزا نسمي ذلك قصة وشعرا، وأحيانا يثار أكثر من سؤال قلق حول الجهة الملعونة التي تنشر في اصطفاف تلك الأحرف والكلمات المتحذلقة، الصورة في مجملها لا تعدو غالبا حمى تائهة». ويبدو لربيعة ريحان أن الحاسم في حقيقة ما ينشر من نصوص قصصية بشكل كبير في مغرب اليوم هو المتلقي: «ومع ذلك، ثمة مصفاة بالغة الحساسية: رصانة المتلقي وحسن انتباهه، لكن على نحو تفصيلي نحن ننتقي ما يبدعه القصاصون والشعراء الحقيقيون ونترك الركام ليدفع به إلى حافة الصمت والتجاهل». في سلة الخذلان القاص عبد العزيز الراشدي وضع الجنسين معا في سلة الخذلان عندما طرحنا عليه السؤال ذاته، ذلك أنهما معا لا يجدان اليوم جدارا متينا يستندان إليه: «يفترض الحديث عن سيادة لجنس ما ضمن نسق ثقافي محدد، توازن هذا النسق وعطائه وحركيته، مما يؤدي إلى بروز التنافس الذي يغذيه الإنتاج، لكنني أشك في توازن المشهد الثقافي المغربي، فالإنتاج ليس على مستوى المأمول والمتابعة -قراءةً ونقدا- ليسا جديرين بأي نوع من الانتباه. إن المتابع إذ يحكم، لا بد له من ميزان عام يعود إليه ليعضد رؤيته، وهنا، الكتابتان الشعرية والقصصية معا، تعرفان اختلالا»، لكننا كنا مصرين على معرفة من الأكثر حضورا، القصة أم الشعر، لذلك انتظرنا تقييم الراشدي مؤلف وجع الرمال فكان جوابه: «نستطيع أن ندعي أن القصة عرفت حضورا أقوى خلال السنوات الأخيرة، غذّاه بروز ظاهرة القصاصين الجدد الذين أسسوا نواديَ وجمعيات أدبية، ونظموا ملتقيات أصبحت تقليدا جميلا، وخاضوا حروبا صغيرة في ما بينهم وأنتجوا مجاميع قصصية على نفقتهم، وفازوا بجوائز هنا وهناك». وأيضا سألنا واحدا من الذين خاضوا حروبا سابقة من أجل الانتصار للقيم الجمالية الجديدة، وهو أنيس الرافعي، لماذا التجريب في القصة؟ ولماذا ابتعد معظم المغاربة عن الحكاية الخطّية؟ فألح على أن التجريب ليس تقليعة عابرة أو ادعاء نرجسياً فارغاً بقصد التميز أو إثارة ضجة مفتعلة، هو في المقام الأول والأخير خيار أنطولوجي للذات الكاتبة التي تطمح إلى محاولة كسر قيود الوعي الجمالي السائد لمفهوم القصة، وإحلال ذوق بديل للذوق الجماعي المهيمن على ذائقة متلقيها. وهو أيضا، اشتغال «تقنوي» مضن على مستوى الشكل والموضوع داخل المشغل المفتوح لكل كاتب على حدة. «في التجريب –يضيف مؤلف علبة الباندورا- نعرف غالبا من أين نبدأ، لكننا يقينا لا ندري إلى أين سننتهي، وإذا ما عرفنا يوما هذه النهاية ندخل دائرة الإقرار والاعتراف، وإذا ما دخلنا هذه الدائرة المحفوفة باللمعان الزائف، يصبح لزاما هدم المشروع برمته، ووضع حجر الأساس لمشروع جديد، هو في الآن ذاته القطيعة والاستمرار». لم يتوقف الرافعي هنا بل أضاف بحماس: «أقول إن التجريب سيظل هو الشعلة الوهاجة التي يمكن أن تضيء سراج القصة المغربية... لا أدري، لم نحن العرب مولعون بالدفء... ربما لهذا السبب لم يتطور عندنا التجريب. التجريب ذاته الذي قيل إنه لا ينمو ويزدهر إلا في البرد... هناك في البلدان الاسكندنافية تحديدا...إذن، ما علي سوى أن أفكر جديا في أن أصير عما قريب سويديا!». وقبل ان يصبح الرافعي سويديا، حاولت أن أعرف منه إن كان التجريب الذي ذهب إليه جل القصاصين المغاربة يجعل التجربة القصصية بالمغرب أكثر حداثة من نظيرتها المشرقية، فأكد أنه في غياب رصيد نقدي دقيق وشامل للمنجز القصصي العربي من المحيط إلى الخليج بمختلف أجياله وشتى حساسياته، لا يمكن -على حد قوله- الإقرار بتاتا بكون القصة المغربية أكثر حداثة من نظيرتها المشرقية. فمفاضلة مثل هاته مجازفة تنطوي على مزالق عدة، لعل من أفدحها تضخيم الذات والدعاية الفارغة لجدارة غير مستحقة. بل يمكن الذهاب بعيدا إلى درجة القول بأن الترويج لطرح من هذا النوع يضمر مسا بنيويا بالجوهر الفردي الذي يحكم فلسفة القصة، يضيف أنيس: «قد نجد تجربة قاص واحد هي المعادل الجمالي لتجارب قصاصي وطن أو قارة بأكملها». قلعة القصة القاصة لطيفة باقا لا تعتبر سؤال الهيمنة على المشهد من ضمن تلك الأسئلة التي ستحرمها من النوم، لكني سألتها في المقابل عن سبب لجوئها، ولجوء معظم الكاتبات في المغرب، إلى قلعة القصة بدل الشعر فردت : «لقد عرفت طريقي منذ زمن طويل، أقصد.. عرفت قناة الصرف التي تناسبني لتصريف بعض أشكال التوتر الوجودية التي تصادفني في هذا العالم الذي انقذفت فيه ذات صباح بعيد، سبق لي أن عبرت عن رأيي الشخصي في ظاهرة ميل الكثير من النساء إلى كتابة السرد: الرواية والقصة، حاولت في ذلك أن أفهم السبب وتوصلت، بعد طول تفكير، إلى أننا، نحن النساء المصابات بلوثة الكتابة، نميل إلى الكشف والفضح لأننا كائنات خاسرة تاريخيا، والأمر يبدو أوضح طبعا على امتداد هذه الرقعة الجغرافية العربية التي ننتمي إليها، الكتابة بالنسبة إلينا صرخة حياة حقيقية ومحاولة انعتاق لا تخلو من جمال لإعادة ترميم الوجود المحيط بنا. نحن نكتب، إذن، كتابة عارية لأننا لن نخسر أكثر مما خسرنا». امتداد لإرث ويجيبنا الشاعر محمد نجيم عن السؤال: «لا أظن أن الشعر انهزم أمام القصة لأسباب عدة منها أن للشعر تاريخه الطويل في المغرب، ومؤسسيه الذين لا يمكن إغفالهم، للشعر قوته وحضوره، وإذا مات الشعر فلن تبقى هناك ثقافة على الإطلاق لأن الشعر المغربي هو امتداد للإرث الشعري العربي، أما القصة القصيرة عندنا فمازالت تتأرجح بين أمواج ورياح، وما يظهر عندنا هو إنجاز لا يستهان به لأسماء أعطت عجينة جيدة في القصة القصيرة، ولا يمكن أن أذكر الأسماء لأنها كثيرة ولا أريد أن أفرح البعض وأغضب البعض، عندنا رهط جديد من القصة، إنها القصيرة القصيرة جدا، هذا النوع من الكتابة بدأ يسحب البساط من تحت أقدام البعض وظهر فيها كتاب خارقون. عموما، لكل فن عشاقه وليس هناك فن يقتل غيره بل هناك فن وأدب وما دام الكاتب والمبدع يكتب، فهناك حياة وإن زال الأدب زالت متعة الحياة». الرأي ذاته يقوله الشاعر جمال الموساوي، لكن بطريقة حاسمة: «لا أبدا، الشعر أكثر حضورا من القصة في المشهد الإبداعي بالمغرب، ذلك أن الشعر ربما لطبيعته التي تسمح له بأن يكون أكثر حضورا في المهرجانات، ويحقق تواصلا أكبر من طرف المتلقي المستمع يمكّنه من أن يكون متفوقا على القصة بمعنى ما، وليس بالضرورة تفوقا على مستوى القوة الإبداعية» لكن صاحب كتاب الظل يستدرك: «ومع ذلك يبقى للقصة المغربية حضورها القوي أيضا في المشهد الإبداعي والثقافي عموما في المغرب، هذا الحضور ربما يوازي الشعر نفسه إذا أخذنا في الاعتبار منابر النشر التي تستقطب الجنسين معا»، كما يبدو لجمال أن المنابر الثقافية بالمغرب تنشر الشعر أكثر من القصة وأن الشعر أصبح ينخرط في لحظات من لحظاته المشرقة في السرد، كما يحضر الشعر وبقوة في قصص وروايات عديدة. الكاتب أحمد بوزفور، أحد رواد هذا الفن، يتفاءل بحاضر القصة ومستقبلها في المغرب، ويبدو له أن القصة قد تطورت تطورات كبيرة على مستوى الكم والكيف خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، وهذا التطور لا يجعلها أكثر إنتاجية من الشعر، ولكنه، مقارنة مع الإنتاج الستيني والسبعيني، يجعلها تبدو وكأنها تتقدم في الحلبة. حين سألته عما إذا كان يقصد ضمنيا أن الشعر انهزم أمام زحف القصة رد وهو يضحك: «أعتقد أن سؤالك هو مكيدة روائية بين الشعر والقصة، إنهما يسيران بشكل متواز وأنت تتابع المنابر الوطنية والعربية وتعرف أن الشباب المغاربة حاضرون في كل مكان بنصوصهم القصصية والشعرية». هل القصة المغربية أكثر حداثة من القصة المصرية مثلا؟ يجيب أشهر أهل القصة بالمغرب إبداعا وتنظيرا: «أعتقد أن المغاربة أكثر مغامرة من المشارقة»، لكن يبدو له أن السبب قد يكون سلبيا، فالمغاربة لا يقرؤون كثيرا في الجنس الذي يكتبون فيه، فهم يدخلون التجريب مباشرة، لذلك فهم أحيانا يثورون على ما لا يعرفونه، ورغم سلبية السبب تبقى النتيجة إيجابية، أما الكتاب المشارقة –حسب بوزفور- فيبدؤون تقليديين وينتهون تجريبيين، والمغاربة يبدؤون بالتجريب وينتهون تقليديين، ويستدل صاحب «الزرافة المشتعلة» بنموذجي نجيب محفوظ وإدوارد الخراط اللذين غامرا في فترة مبكرة ثم انتهيا إلى ما يمكن أن نسميه الهدوء السردي. بطولة المنابر يبدو لي، ختاما، أن المؤسسات الثقافية بالمغرب، على اختلاف ألوانها، تهتم أكثر بالشعراء، إنهم لايزالون أبطال المنابر، فليس من السهل أن تقرأ قصة على جمهور لم تترسخ بعد لديه تقاليد القراءة والتلقي. وهذا ما جعل أهل القصة يصنعون المنابر الخشبية والورقية والإلكترونية لأنفسهم من دون انتظار نجار رسمي. وهنا نستحضر نموذج مجلة قاف صاد التي تصدرها مجموعة البحث في القصة وسلسلة الإبداعات والترجمات المتخصصة التي تنشرها المجموعة ذاتها، إضافة إلى مواقع ومدونات إلكترونية وملتقيات صغيرة وكثيرة ينتصر فيها القصاصون لما تصنعه أيديهم، الأيدي الساردة طبعا.