احتضنت جامعة محمد الخامس بالرباط مؤخرا ندوة تكريمية للناقد المغربي نجيب العوفي تكريسا لثقافة العرفان والامتنان ووفاء لما قدمه الرجل للدرس الجامعي من خدمات ناهيك عن أياديه البيضاء في خدمة جنس القصة القصيرة بالمغرب نقدا ومتابعة وإبداعا. ودامت هذه الندوة، التي حضرها عدد كبير من أهم الأسماء التي تنشغل بجنس القصة القصيرة إبداعا ونقدا، يومين تخللتها عدة جلسات وقراءات قصصية. وفتح السجال والتداول في قضايا القصة القصيرة المغربية أسئلة هامة من شأنها أن تعيد للدرس النقدي حول هذا الفن خاصة الأكاديمي منه بريقه المفقود. افتتحت الجلسة الأولى بكلمات لكل من عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الأستاذ عبد الرحيم بنحادة ورئيس شعبة اللغة العربية الأستاذ محمد الظريف ورئيس اللجنة التنظيمية الأستاذ سعيد يقطين، وكلها بينت أهمية المحتفى به الأستاذ نجيب العوفي في المشهد النقدي المغربي وما قدمه للدرس الأكاديمي من خدمات جليلة. كما أكدت على قيمة تكريس ثقافة العرفان، وما لها من دور في التحفيز على بذل المزيد من الجهد وتحريض الأجيال الجديدة على العمل. كما كشفت المداخلات عن السياق الذي اقترحت فيه القصة القصيرة جدا وأهمية فتح النقاش في هذا الجنس على المستوى الأكاديمي بعد ما ظل لعقود خارج أسوار الجامعة. في الجلسة الثانية التي ترأسها الأستاذ أحمد بوحسن ناقش المتدخلون القصة القصيرة المغربية من خلال الواقع والنوع والتاريخ. حيث حدد الكاتب محمد عز الدين التازي شروط ومعايير النصوص القصصية الجيدة التي تأسر القارئ وتصمد في ذاكرته، مركزا على الكثافة واختزال العالم والحكي الأخاذ مع العمل على لمس الشحنة القصصية، خاتما مداخلته بكون القصة لا تملك وصفة ناجزة، بل إن النصوص الاستثنائية هي القادرة على تحديد معايير الجودة فيها بحكم قبضها على قلب القارئ وأسره. وبعد ذلك قارب الأستاذ بشير القمري شعرية القصة القصيرة من خلال الكتابة والمتخيل: مقاربة نظرية. حيث اعتبر الكتابة مؤسسة رمزية من خلالها كانت القصة في السبعينيات تمتلك منظورا شموليا عبر إنصاتها للواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي مجربة للقوالب بشكل متوازن عكس القصة التسعينية التي هدمت كل عناصر المؤسسة مغامرة في التجريب إلى أقصى الحدود، وهي ظاهرة -أكد المتدخل- تحتاج إلى وقفات تأملية نقدية تقوم مواقع الانزلاق إلى متاهات الترهل الدلالي والأجناسي. ورأى الأستاذ بشير أن مراجعة ما كتب من نصوص قصصية في العقود الماضية وما وازى ذلك من دراسات نقدية جديرة بإلقاء الضوء على الكثير من مناطق الخلل في التجارب الآنية والقادمة. في حين أن الناقد عبد الرحيم مودن تناول موضوع العناوين من خلال بيبليوغرافيا قام بإعدادها الراحل محمد القاسمي تناولا إحصائيا. وقرأ هذه العناوين وفق تصور يمنحها الدلالات المستوحاة من المؤشرات الملازمة لها بناء على تأويل معانيها الأولية التي يمكن أن تضيء النصوص، كما يمكن أن تحمل بصمتها المستقلة في التدليل والترميز. وختمت الجلسة بمداخلة محمد عزيز المصباحي الذي تطرق للقصة القصيرة من خلال وضع ست نقط على الحروف: طغيان المنهج التاريخي على الأدب المغربي عامة بما فيه القصة القصيرة، توجه النقد إلى التجارب المشرقية محاباة وولاء، تراجع الحكاية أمام التجريب، القصة الجديد تعبير عن إنسان مغربي مأزوم قهره التغريب والإقصاء والتهميش، عقدة المغاربة التأرجح بين النمطين المغربي والمشرقي، أهمية وعي الجيل الجديد القضية الثقافية المتنورة. أما الجلسة الثالثة فقد انصبت حول القصة القصيرة من خلال الكتابة واللغة والمرأة وسير الجلسة نيابة عن الأستاذ قاسم الحسيني الأستاذ محمد التعمارتي. وسعى أول متدخل في الجلسة الأستاذ محمد حجو نيابة عن الأستاذ الحسن المودن إلى دراسة الحلم في قصص محمد عز الدين التازي نظرا لأهميته في إبراز المفكر فيه والممنوع والمقموع والكامن في اللاوعي. وقد بين الباحث أن الحلم في قصص التازي ليست جزئية، بل هي جوهرية لأن القصة كلها عبارة عن حلم. في تناول محمد تنفو قضية الألوان والرموز في القصة المغربية كاشفا بعض دلالتها في علاقاتها بالمتخيل والمعرفي والثقافي لدى المحيط التي تتعالق معه في شبكة من التقاطعات. أما الناقد محمد معتصم فقد تناول صورة المرأة في ديوان السندباد لأحمد بوزفور مؤكدا أنها لم تأت كموضوعة، بل كرؤية سردية وفكرية، وأنها تتعدد بين الأم والمحبوبة والخطيبة وزوجة الأب والقاتلة. وختمت القاصة مليكة نجيب الجلسة بموضوع المرأة والكتابة مستعرضة في قالب مشهدي سردي معاناة المرأة ونضالها من أجل أن تنال حق التعبير بالكتابة الذي صادره منها المجتمع البرطريكي. وسير الجلسة الرابعة التي دارت حول جنس القصة القصيرة جدا الأستاذ بشير القمري الذي طرح إشكالات الجنس الأدبي وما يستتبعه من نقاش يمكنه فيما بعد إفراز أنماط جديدة تحافظ على خصيصات نوعية وتستحدث أخرى. وفي هذا الباب اعتبرت الناقدة سعاد مسكين القصة القصيرة جدا نوعا مستقلا بذاته، له خصائص مميزة عن القصة القصيرة، كما أطرت السياق العام الذي ظهر فيه هذا النمط السردي في المغرب، والذي يشرعن تمسك الجيل الجديد به، فضلا عن ذلك جردت دور المؤسسات في رعاية هذا النمط من الحكي متمثلة في الإنترنت والجمعيات الثقافية والمؤسسة الجامعية. في الوقت الذي عارض فيه الناقد مصطفى جباري القول باستقلالية هذا النمط السردي معتبرا إياه مجرد تحول للنص القصصي أو تنويع على هامشه لأن مسألة القصر هنا نسبية وغير مضبوطة، كما أن هذا النوع من الكتابة لم يستقل بذاته حتى في البلدان التي استلفنا نحن منها هذه الصيغة من الحكي. أما القاص إسماعيل البويحياوي فقد اعتبر القصة القصيرة جدا نوعا تخييليا سرديا جديدا له عناصر تشكله ومقوماته الفنية وأسس ظهوره، مستعرضا المراجع الأولى التي نظرت بالعربية لهذا النوع من القص. في صبيحة اليوم الثاني استؤنفت الندوة بجلسة خامسة حملت عنوان "القصة القصيرة والتحول" بتسيير من القاص محمد عزيز المصباحي، وكانت أول المتدخلين القاصة والناقدة زهور كرام التي تناولت موضوعة التجريبية والترابطية في قصص أنيس الرافعي ومحمد اشويكة مبينة مظاهر التحول على مستوى تمثل الأدوات السردية والصوغ الفني للقصة القصيرة، وما يقتضيه من تحول على مستوى الرؤية والتلقي تبعا لتحول الوسائط والحوامل. وبعد ذلك استعرض الناقد إبراهيم الحجري ملامح المغايرة وآفاق التجريب في القصة المغربية من خلال نماذج تسعينية، وهي ملامح خلقتها صيرورة من التحولات والتغييرات المتلاحقة التي ساهمت فيها كل الأجيال. أما القاص محمد اشويكة فقد تكهن بمستقبل القصة القصيرة في أفق ما تعرفه الوسائط من تغييرا متسارعة، مؤكدا على أهمية التفكير في كيفية نشر وتوزيع المنجزات القصصية وترجمتها، منبها كتاب القصة إلى ضرورة الانفتاح على العلوم الإنسانية وعدم حصر الذات في القصة فحسب. وختم الناقد سعيد يقطين الجلسة بمداخلة حول "تشكل وعي جديد في القصة القصيرة" مبرزا الدور الريادي الذي يلعبه الإنترنت في مجال التواصل، وحتمية التعامل معه من أجل توصيل أدبنا بما فيه القصة، حاضا على ضرورة عادة تنظيم الأعمال المكتوبة بما يسمح لها بالتحول إلى نصوص ترابطية يسهل التعامل معها بالحاسوب والحوامل الإلكترونية، وهذا يتطلب جهدا مضاعفا من طرف القاص والمتلقي معا. وخُتمت الندوة بشهادات في حق المحتفى به نجيب العوفي من طرف ثلة من زميلاته وزملائه في مجال العمل والكتابة، وهم على التوالي: نجاة المريني، نعيمة مني، عبد الله الدخيسي، وجاء دور القصاصين كي يتحفوا الحضور الملتف حول المكرم العوفي، حيث قرأ كل من الأساتذة: أحمد المديني، محمد عز التازي، ربيعة ريحان، حسن البقالي، عبد الحميد الغرباوي، أحمد بوزفور، أنيس الرافعي، والأردني محمود الريماوي. وقدم الأستاذ نجيب العوفي، في الختام، كلمة شكر فيها الجهة المنظمة والحضور الذي التف حوله في هذا التكريم مستعرضا مساره الشخصي كأستاذ وكناقد. وقد لعب الأستاذ الناقد سعيد يقطين مجهودات مضاعفة من أجل إنجاح هذا النشاط مكرسا بذلك تقليدا جميلا يتمثل في ثقافة العرفان فضلا عن رغبته في انفتاح الجامعة والدرس الأكاديمي على الأجناس الأدبية والأسئلة الإبداعية المتعالقة معها في الواقع والمتخيل.