قال عبد الله بوصوف، الخبير في العلوم الإنسانية، إن "المغاربة عُرفوا بارتباطهم الشديد بملوكهم حتى في الأوقات التي كانت رؤيتهم نادرة أو متعسرة"، مضيفًا أن الذاكرة الشعبية تحتفظ بحكايات عن خرجات الملوك ليلاً للتعرف عن قرب على أحوال الشعب، ومشيرًا إلى أن هذا الارتباط يقوم على البيعة، التي تحمل رمزيات دينية وروحية وسياسية واجتماعية. وأشار بوصوف، في مقال له بعنوان "في ليلة القدر التف المغاربة حول أمير المؤمنين"، إلى أن صلاة الملك محمد السادس جالسًا ليلة القدر جاءت نظرًا لحالته الصحية بعد خضوعه لعملية جراحية، موردًا أن المغاربة تابعوا المشهد وتوجهوا بالدعاء له، وموضحًا أن تواصل القصر الملكي مع الشعب بشأن صحة الملك ليس جديدًا، بل يعكس "إحدى أقوى الثورات الهادئة" في تاريخ المؤسسة الملكية. نص المقال: عُرف المغاربة بارتباطهم الشديد بملوكهم حتى في الأوقات التي كانت رُؤيتهم نادرة أو متعسرة، واحتفظت ذاكرتهم الشعبية بقصص تحاكي الخيال ولقاءات الملوك لأفراد الشعب خارج أسوار القصر. كما تحتفظ الذاكرة الشعبية المغربية، خاصة المحكية منها، بحكايات لخرجات الملوك ليلا من أجل التعرف على أحوال الشعب عن قرب، وظهور الملوك في صورة الضيف أو عابر السبيل أو الصديق. التراث المحكي المغربي غني بأحاديث عن هدايا وكرامات "الشُرْفا" لفائدة الفئات الهشة، ونسجت في المخيال الشعبي ملامح أسطورية لصورة الملوك والسلاطين المغاربة. وتبقى الكلمة السحرية لهذا الارتباط هي البيعة والعروة الوثقى، بكل ما تحمله من رمزيات دينية وروحية وسياسية واجتماعية. لكن كل الملوك والسلاطين المغاربة انفردوا بأسلوبهم الخاص في التعامل مع الشعب. ألم يذكرنا الملك الحكيم الحسن الثاني رحمه الله أكثر من مرة بأن L'homme c'est le style؟. لقد لعب المغرب عبر تاريخه الطويل دور الفاعل المؤثر في مجرى الأحداث، بكل ما يعني ذلك من محاكاة التجارب الأخرى والتنافس وتبادل السفارات ونقل المعارف، بما فيها بروتوكولات بلاطات الملوك الغربيين؛ ومنها تدوين تاريخ الملوك وعاداتهم وبعض طقوسهم وخطبهم. ومع تطور وسائل الطبع والنشر وانتشار الكتاب ووسائل الاتصال السمعي البصري، من راديو وتلفزيون وسينما وشبكات التواصل الاجتماعي، تأثرت العديد من البروتوكولات الملكية وبعض جوانب الحياة الخاصة بالملوك أو الرؤساء في الغرب؛ فلم يعد الحديث عن إحراج أو معاناة الملك لويس الرابع عشر مثلا مع المرض سرا كبيرا، أو ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية وشعارها "Never complain ,never explain"، إذ انفتح أفراد العائلة المالكة على الشعب الذي علم بمرض الملك شارل الثالث وكذا بإصابة Kate Maghrethe زوجة ولي عهد بريطانيا بالسرطان، وكذا مراحل التعافي والنقاهة، ولم تعد حالات المرض سرا يجب إخفاؤه على الشعب. أكثر من هذا فالرئيس الأمريكي روزفلت قاد الحرب العالمية الثانية على كرسي متحرك، ولم يحبط هذا من عزمه أو من عزم الدولة الأمريكية. تاريخ الملوك والسلاطين المغاربة حافل بصفحات خالدة عن الوفاء والالتزام، إذ لم تمنعهم قط حالات المرض أو العِلة عن القيام بواجباتهم الشرعية تجاه البلاد والعباد؛ فالسلطان عبد المالك السعدي مثلا أصر أن يقود الجيوش المغربية إلى انتصار تاريخي في معركة وادي المخازن رغم أنه كان على سرير محمول، وتم إخفاء خبر موته لتفادي التأثير على معنويات الجيش المغربي. كما أن وفاة السلطان مولاي الحسن الأول يوم 9 يونيو 1894 قرب مدينة تازة أثناء إحدى حملاته العسكرية اختلفت الروايات التاريخية بشأنها، بين قائل بسبب مرض مفاجئ وآخر بسبب تسمم. وكيفما كان الحال فإن تلك الحالة المرضية لم تمنع السلطان مولاي الحسن الأول من القيامه بواجباته. ومناسبة هذا الحديث هي ترؤس أمير المؤمنين محمد السادس حفظه لله إحياء ليلة القدر المباركة يوم الخميس 26 رمضان، وأداءه صلاة التراويح في وضعية الجلوس نظرًا لحالته الصحية بعد خضوعه لعملية جراحية على مستوى الكتف الأيسر. والحرص على تواصل القصر الملكي مع الشعب عبر بلاغات مضمونها الحالة الصحية لجلالة الملك ليس بالجديد؛ فمنذ تحمل الملك محمد السادس الأمانة العظمى في يوليوز من سنة 1999 تعهد ببناء الوطن ورفاهية المواطن بمقاربة تشاركية، إذ قاد ثورات هادئة في جميع المجالات، كالمفهوم الجديد للسلطة ومدونة الاسرة ومسلسل الإنصاف والمصالحة والتنمية المستدامة، والترتيبات الكبرى للمشروع الملكي الخاص بالدولة الاجتماعية. ولعل من بين أقوى الثورات الهادئة التي قادها الملك محمد السادس تلك الخاصة بحالته الصحية وظهوره أول مرة بعكاز طبي في إحدى التدشينات ثم بالمستشفى محاطا بأفراد العائلة الملكية، وبلاغات أخرى بخصوص العملية الجراحية الدقيقة في زمن كورونا؛ ثم حادث كتفه الأيسر. ولأننا عائلة مغربية كبيرة نتكاتف ونتعاضد في زمن المرض والأزمات؛ وهي مناسبة فريدة عبّر فيها المغاربة في الداخل ومغاربة العالم عن تشبثهم بملكهم وبملكيتهم وسط كم هائل من الأخبار الزائفة التي روجها بسوء نية إعلام دولة العالم الآخر، إذ تم الرد عليها بكل قوة، سواء في الصحافة الوطنية أو شبكات التواصل الاجتماعي، وحتى بمدرجات ملاعب كرة القدم، كان آخرها بملعب مدينة وجدة. لكن شغف الملك محمد السادس بخدمة المغرب والمغاربة ومصالح الوطن كان أكبر من كل تلك الحالات المرضية والوعكات الصحية العرضية، إذ لم تمنعه من ممارسة مهامه الدستورية، كاستقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو افتتاح الدورات التشريعية للبرلمان وإلقاء الخطب والتعيينات وغيرها؛ وأيضا كأمير للمؤمنين وترؤسه صلاة العيد وليلة القدر، وغيرها من المناسبات الدينية والوطنية. والواقع أن المغاربة تابعوا ليلة القدر المباركة حيث كان أميرالمؤمنين جالسًا متوسطا جموع المصلين وكأنه بدر أضاء قاعة الصلاة بالقصر الملكي بالرباط، وملايين المغاربة كانوا يدعون له عند كل ركعة وسجدة بالشفاء العاجل؛ فصلاته في وضعية الجلوس في ليلة مباركة حملت أكثر من معنى، فهو أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، وهو القدوة المؤمنة في إقامة فريضة الصلاة جلوسا تبعا لقوله تعالى: "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم"، وهو الملك الإنسان... في لحظة إنسانية تذكرنا بلحظات بكاء وتأثر الملك الحكيم الحسن الثاني فوق قبر أخيه الأمير مولاي عبد الله في دجنبر1983، وهي لحظات إنسانية بكل شموخ لملوك مغاربة تربعوا في قلوب المغاربة بالداخل أو مغاربة العالم.