استقطبت الشعارات الأولى للثورة السورية، قطاعات واسعة من المجتمع السوري، وتشكل شبه إجماع حول شعارات كان يفترض بها أن تكون مقدمة لخطاب الثورة الذي كان عليه أن يتبلور في سياق الممارسة الثورية للمنتفضين. صمدت القوى المنتفضة لحوالي العام من انطلاق الاحتجاجات الأولى، وتمسك المنتفضون بخيارات ثورتهم المطابقة في تلك الأثناء لشعاراتها، فاستمر النضال السلمي رغم عسف قوى الأمن التابعة لنظام بشار الأسد، ورفض التسليح رغم سقوط عشرات الضحايا، وكان شعار «الدولة المدنية» هو الشعار السائد بين أوساط المنتفضين. منذ 2012، بدأ السلاح بالتسلل إلى أوساط المنتفضين، وترافقت معه تعديلات حثيثة على صعيد شعارات الثورة، وما دعي في العديد من الأدبيات «بانحراف الثورة» لم يكن سوى ردود أفعال عامة ارتبطت منذ البدء بشدة القمع الأمني الذي مارسته قوات نظام الأسد، وتشكلت العلاقة بين الطرفين- شدة القمع من جهة، وردود الأفعال من جهة أخرى- وتنامت مع الوقت، لتجمع بينهما علاقة طردية، تتصاعد فيها ردود الأفعال مع سقوط كل ضحية جديدة على يد قوات الأمن والجيش. منذالبداية لوحظت العلاقة التي جمعت بين القمع من جهة، والميل نحو التسلح من جهة، وما رافق ذلك من تنام لخطاب وممارسة متطرفة من قبل المنتفضين من جهة أخرى. غادر الخطاب الوطني الجامع خطاب المنتفضين، وحل محله خطاب طائفي بغيض، وتحول بفعل عوامل مختلفة في سوريا، من صراع طبقي، تمظهر باعتباره ثورة من أجل الكرامة والحرية، إلى صراع طائفي، يقف فيه السنة ضد النصيرية الممثلة بنظام الأسد. وبدأ الصراع المسلح بالتنامي، واشتدت المعارك مع كل تصعيد قامت به قوات الأسد، فكانت كل مجزرة مرتكبة من قبل النظام تستثير مزيدا من التسليح ومزيدا من العنف، وما كان مثار جدل بين المنتفضين، ساهمت جرائم الأسد بحسمه لصالح العناصر الأكثر تطرفا بين صفوف قوى الثورة الناشئة. تسلل مع السلاح خطاب متطرف وتسلل مع هذا الخطاب حامل اجتماعي، راحت تتسع قاعدته تدريجيا بعلاقة طردية مع تنامي عنف النظام. مع تحول الثورة السورية من السلمية إلى السلاح، دخلت الثورة في طور جديد، سمح بدخول «لاعبين» جدد على ساحة الصراع السورية، إذ استدعى التمويل، حضور سلطة الممولين، بينما الفوضى التي أشاعتها المعارك، جعلت من الحدود السورية مفتوحة على الغارب، ودخل مقاتلون جدد، من جنسيات وثقافات مختلفة، وبدأ الفرز بالتسارع على صعيد تشكيلات المعارضة العسكرية، ومع الوقت بات لدينا تشكيلات معتدلة وأخرى متطرفة، وغيرها أشد تطرفا، وجميعها من المعتدلة إلى الأشد تطرفا، كانت تشكيلات إسلامية، بنسب ومقادير مختلفة. وإذا كان من المفهوم ردود أفعال القوى المنتفضة حيال صلف قوات الأسد، فما يستوجب بحثه هو لماذا اتخذت ردود فعل المنتفضين هذا الشكل المتطرف، والذي تجلى من خلال التيارات الجهادية حديثة النشأة؟ يحاول الصحفي السوري ياسين الحج صالح، مقاربة هذه الإشكالية، ويسعى إلى تفكيك المشهد العام للصراع السوري، محاولا الاجابة على السؤال السابق؛ يتحدث عن «مجموعات سلفية عسكرية، تشبه القاعدة فكريا»، بيد أنها خرجت من الظلمات السورية، «وليس من ظلمات خليجية ومصرية وعراقية»، وتلتقي كل هذه المجموعات على «السلفية العسكرية»، والتي هي حسب ياسين: «مزيج من حكم فاشي وتطهير ديني وحركة عدمية غاضبة»؛ وعلى قاعدة ذلك يبلور سؤاله: في أي بيئات سورية ظهرت هذه المجموعات» والجواب- كالعادة- ناجزاً لدى ياسين: «طبعا، في بيئات مسلمة سنية». حسب ياسين، قمع نظام الأسد ومنعه السوريين من التعبير عن أنفسهم سياسيا، طال 90 بالمئة من السوريين، إلا أن ذلك كان أقل وطأة على جميع «الطوائف» السورية، بخلاف «السنة»، فالسنيون في سوريا: عانوا أكثر من غيرهم من حرمان سياسي نسبي، على حد تعبير ياسين. يعتمد ياسين أدوات التحليل الطائفي في تفكيك البنية الاجتماعية السورية، فتتحول هذه البنية وفق الفكر الطائفي، إلى مجموعات أو ?بيئات? تتراصف طائفيا، وفق ذلك يصبح في سوريا بيئة سنية، وبيئة مسيحية وأخرى كردية، والأهم بيئة علوية متماهية مع النظام. في كل هذه المعادلة كان «السنة» هم الأكثر «مظلومية» وتضررا من سياسات نظام الأسد، ويستمر الأمر في ظل الثورة السورية، والتي باتت فيها هذه البيئات مكشوفة سياسيا وأمنيا وإنسانيا حيث تعرضت للقمع أكثر من غيرها، كما تعرضت للمجازر المتتالية. تكمن إشكالية الفكر الطائفي، في طبيعة نظرته إلى المجتمع وإلى التقسيمات الاجتماعية التي يقترحها، وكأغلب الوعي الشعبي الذي يردده عديد السوريين البسطاء، ينظر ياسين إلى بيئات الثورة كبيئات «سنية» وهي من هذا المنطلق ستكون، كتحصيل حاصل، قد تعرضت للأذى أكثر من غيرها من البيئات، وهي نتيجة تجعل من ?السنة? الحامل الاجتماعي للثورة السورية على وجه الحصر، وهو ما يؤدي بياسين إلى شرعنة هذا الخطاب الطائفي لا تفسيره، ويبقى السؤال: لماذا أفرزت الثورة السورية تيارات جهادية، ولماذا اتخذت ردود فعل المنتفضين هذا الشكل المتطرف» وهل تعبر هذه التيارات الجهادية عن «عموم» السوريين» أم أنها فقط مكون من مكونات الثورة السورية» يخلص ياسين إلى «أن داعش وشبيهاتها ليست سياسة الإسلام الطبيعية، ولا السياسة المفضلة للسنيين، بل هي نتاج استعمار بيئات إسلامية سنية وتفريغها من كل سياسة»، ونحن هنا لا نعلم بالضبط ما الذي يعنيه «بسياسة الإسلام الطبيعية»، سوى أنها سياسة تشبه الصندوق الأسود، الموجود والذي من الصعب معرفة ما بداخله. بالاستناد إلى التجربة السورية، نلاحظ أن عديد «البيئات السنية» السورية وتحديدا تلك التي انحازت للثورة، لم تتولد عنها ردود أفعال مشابهة لتلك «البيئات السنية» الأخرى، التي خرج من أحشائها التطرف والفكر الجهادي، وقبله خيار حمل السلاح ذاته. لم يحمل الثوار في المدن السورية الكبرى السلاح، بل تسلل السلاح إلى البيئات الريفية المنتفضة، هذا ما حدث في دمشق، حيث بقيت العاصمة بعيدة عن خيار التسليح، بينما انتفض الريف ومجمل العشوائيات، حاملا السلاح بداية، ومشكلا لحاضنة اجتماعية لاحقا، لانتعاش الفكر الجهادي؛ وهذا ليس استثناء، بل ينطبق أيضا على مدينة حلب، حيث انتفض الريف وتسلح، واقتحم المدينة فيما بعد، بينما سكان المدينة من «البيئات السنية» ستغادر المدينة ليحل قسم كبير منها في مدن الساحل السوري «داخل البيئة العلوية!»، وسينزح آخرون خارج البلاد. مدينة حماة، كانت موقع رهان لدى عديد المحللين، فالمدينة لديها ثأر شخصي مع نظام الأسد الذي ارتكب في حقها مجزرة مهولة عام 1982، ورغم هذا، انتفضت عن بكرة أبيها، وكانت مثالا عن كيفية تحرير القوى المنتفضة لمناطقهم، وفي تموز 2011، قمعت المدينة وقصفت بالدبابات، ورغم ذلك لم يتخذ القرار بحمل السلاح، خلاف الريف «الحموي» الذي اختار، ككل الريف السوري، حمل السلاح. لا يعلل مصطلح «البيئة السنية» المضطهدة، انتعاش السلفية الجهادية في أوساط السوريين، فردود أفعال «البيئات السنية» كانت متمايزة، ويبدو أننا لم نكن إزاء «بيئة سنية» واحدة، بل بيئات مختلفة، فلما انتعشت الجهادية في الأرياف السورية (لا في البيئات السنية)، ولماذا كانت هذه الأرياف والعشوائيات المتاخمة للمدن الكبرى هي البيئات التي انتعش فيها التطرف؟