غسان الإمام في المنطق الطائفي السائد، أقول إن شيعة العرب والعجم أنجبت دولا طائفية محكومة برجال الدين. بعد جيلين اثنين، أفرزت هذه الدول مجتمعا شبابيا رافضا لها! وفي المكابرة، رفضت المرجعية الشيعية الحاكمة الاعتراف بهذه الحقيقة المرة. لكي تحمي ذاتها ونظامها، لجأت إلى القمع في الداخل، وألهت مجتمعها المتمرد والمتذمر بتصدير «ثورتها» الطائفية إلى المشرق العربي، بغالبيته السنّية. ولكي تتستر على طائفيتها وتسليحها لشيعة لبنان، وخلفها النظام العلوي الحاكم في سوريا، لجأت إيران إلى الدعاية الغوغائية، فاخترعت شعار «الممانعة»، مستغلة الاحتلال الإسرائيلي للعرب، دون أن تطلق رصاصة واحدة على العدو الإسرائيلي. وتولى المال السياسي المهمة عنها. فقُتل في المواجهة غير المتكافئة ألوف العرب من سنّة غزة، وشيعة لبنان. ولتحافظ إيران على مكاسبها الاستراتيجية في العراقوسورياولبنان وفلسطين، كان لا بد لها من أن تظهر في إِهاب الدولة الأقوى والأكبر في المنطقة، فامتدت أصابع «الآيات» وميليشياتهم العسكرية إلى المحظور المخيف: القنبلة النووية. وأفاق الغرب على الهاجس النووي «الآياتي»، فبدأت المساومة لحماية الكيان الصهيوني، على حساب العرب. استبشر العرب برئيس أمريكي ظنوا أن ثقافته الرفيعة ستنحاز ضد الظلم الواقع عليهم، فإذا به ينسحب من العراق، ليسلمه إلى عملاء إيران، بدون ضمان قيام نظام ديمقراطي تتمتع فيه السنّة بحق المشاركة، فهي، في نظره ونظر سلفه، «أقلية» مهزومة في الحرب وتَجِبُ معاقبتها في السلم، بل لم يتدخل أوباما في سوريا للجم نظام كان من الواجب إحالته على المحاكم الدولية. والحجة الأمريكية الدائمة هي أن المعارضة السورية «تأسلمت»، فصارت «جهادية»، وها هو الآن يتهيأ لقصفها! واندلعت الانتفاضات العربية (السنيّة)، فانتعشت آمال الفئات الليبرالية الواعية في المجتمعات المنتفضة والثائرة. تطلعت إلى أمريكا تلتمس دعمها المعنوي، فإذا بالرئيس المثقف يراهن على المرشدية «الإخوانية» الغائبة عن العصر، ليسلمها الحكم في تونس وليبيا ومصر! والأدهى والأكثر إثارة لغضب السنّة العربية، استدعاء أوباما لنظام «الآيات» لخوض حربه ضد إرهاب «تنظيم الدولة». فشجع الوزير وليد المعلم على تَوَسُّلِ أمريكا عدم قصف المدنيين السوريين الذين يختبئ «التنظيم» بين طياتهم السكانية الكثيفة، إلا بموافقة معلمه بشار! أمضي في الحديث بالمنطق الطائفي السائد، شاعرا باشمئزاز وغثيان، فأنا من جيل تربى وعاش على السمو النبيل بالعروبة، فوق الطائفية؛ لكي لا تصل الحال بأمة، تنطوي مجتمعاتها على عشرين دينا وطائفة ومذهبا، إلى هذه الفجيعة الكارثية المؤلمة. وكانت السنّة العربية أمينة مع نفسها وغيرها. لم يفاخر النظام العربي يوما بهويته الطائفية السنية. وفي دساتيره وقوانينه، مزج بين ضرورات الحداثة المعاصرة وقداسة الشريعة. وفي النضال من أجل الاستقلال، التزم عرب المشرق السنّي بالديمقراطية الغربية، ولم يقولوا قط إنهم يحاربون أوربا المسيحية. نعم، كان نضال الأشقاء المغاربة طافحا بالشعور الديني، لكن الأنظمة والمجتمعات المغاربية المستقلة تمسكت بثقافتها الإنسانية المكتسبة، ومنها الفرانكفونية بالذات. وحتى في النضال الاجتماعي، دار الصراع مبدئيا بمنطق وشعارات الإيديولوجيات السياسية. وفي سوريا التي عسكر فيها السياسي (السني) البارز أكرم الحوراني الطائفة العلوية، ليكسب أصواتها الانتخابية في صراعه مع الأسر الإقطاعية في مدينة حماه، لم يخطر في باله أن «يُطيِّف» عسكر الطائفة اللعبة، ليغدروا بالسنّة ويحتكروا السياسة ويستولوا على السلطة والجيش، على مدى خمسين سنة. ولم يكن للصراع الاجتماعي أن ينقلب دينيا أو طائفيا، إلا عندما برز «الإخوان المسلمون»، كرد فعل معاكس للحداثة العربية، وللثقافة الليبرالية التي حاولت التوفيق بين التراث والمعاصرة. أخطأ النظام العربي في السماح لحليفته المرجعية التقليدية السنيّة، في الإيغال في «أسلمة» المجتمعات العربية السنيّة، إلى حد التخمة والإشباع، بممارسة الشعائر والطقوس، بدون شرح وتفسير للنصوص. نعم، استعاد عبد الناصر هوية مصر العربية. لكن لم يفتح الجامعة المصرية والأندية الثقافية أمام المثقفين والمفكرين القوميين العرب، لتأصيل الفكر العربي الوحدوي في عقول وقلوب أجيال الخمسينيات والستينيات الناصرية، فكان سهلا على النظام الساداتي استخدام «الإخوان» و»الجهاديين» لاحتلال الشارع، بسلاسل الحديد والسلاح الأبيض. والتمركز في صميم النقابة والجامعة، وصولا إلى عصر الصراع مع النظام الحالي، من خلال هذين الموقعين المهمين، في الحياة العملية والتربوية والثقافية. وهكذا، لا بد من الصراحة في الاعتراف بوجود غضب عارم يجتاح المجتمعات العربية (السنّية)، إزاء كل هذا الحيف والظلم اللاحقين بها، نتيجة الخداع الغربي والقمع الداخلي، وفشل برامج وخطط التنمية، والفساد الاقتصادي الذي رافق التحول (الاشتراكي) العجيب إلى اقتصاد السوق، وزخم الكثافة السكانية المتزايدة (ستة ملايين طفل عربي يولدون كل سنة)، والفشل في ضبط النسل، خوفا من الشارع الديني الممسك به «الإخوان» وبعض مشايخ المرجعية الدينية التقليدية الذين جرى تحكيمهم بالإرشاد التلفزيوني. العراق مثال على شعور العرب (السنّة) بالظلم والقهر والغضب. لم تكتف أمريكا بإسقاط العراق كجدار حامٍ وواقٍ للأمن القومي العربي، بل سلمته إلى أحزاب الشيعة الطائفية العميلة لإيران، فعاثت هي والميليشيات العسكرية الإيرانية فسادا وقتلا واغتيالا للساسة السنّة، ولضباط وقادة الجيش الذي انتصر على إيران الخميني. لكن لماذا تبلور الغضب العربي (السني) بهذا الرد المعاكس المتخلف؟ لماذا استولت التنظيمات «الجهادية» بعد «الإخوانية» على الانتفاضة في ليبيا وسوريا؟ لماذا وكيف ولدت دولة «الخلافة الإسلامية» السنّية على هذا الشكل المزري بقيم الإسلام السني المتسامح، والمخجلة للسنّة خصوصا، والمسلمين عموما، أمام العالم والعصر؟ في الإجابة، أقول إن الحقيقة تكمن في هذا الانقسام الهائل وغير المنظور داخل المجتمعات العربية: هناك سنة مدنية ليبرالية أو محافظة ومتدينة، مع شرائحها البورجوازية المتحالفة مع النظام، والساكتة مع مرجعيتها السنّية التقليدية على احتكاره للسياسة والسلطة والجيش والاقتصاد، بل إن الطبقات الوسطى في هذه السنّة المدنية استفادت من «أعطيات» النظام الفاسد في تسعينيات التحول «الاشتراكي» إلى اقتصاد الكازينو، اقتصاد السوق، ودمشق بالذات هي مدينة هذه الفئة السنّية التي لم تشترك في الانتفاضة والثورة. وفي المقابل، كانت هناك سنّة ريفية لم تستفد من الانفتاح في مصر وسوريا. اكتفت هذه السنة ببناء قراها وبلداتها الصغيرة بمدخراتها من عملها في الخليج، وعززت إسلامها متأثرة بالإشباع الديني للمجتمع الخليجي، ثم تحركت سلميا ضد النظام. وفي مصر وليبيا واليمن، انهار النظام تحت ضغطها. في سوريا، رفض النظام سلميتها وقلب المواجهة معها إلى مجزرة دامية دمر فيها قراها التي بنتها بعرقها ودموعها. ما حدث في العراق عكس ما حدث في سوريا، فقد تجمعت في المدينة العربية السنّية (الموصل) فلول تنظيم «القاعدة» التي طردتها عشائر «الصحوة السنيّة» من صحراء محافظة الأنبار، فقد ضاقت بتزمتها في التطبيق الديني للشريعة ووشت بقائدها الزرقاوي، فقتل في غارة أمريكية على مخبئه في محافظة ديالا (2006). وفي الموصل، أجادت هذه الفلول «الجهادية» الاختباء في الطيات السكانية الكثيفة سنّيا، واستقلت عن قاعدة بن لادن والظواهري، وغيّرت جلدها واسمها. وتحالفت مع فلول نظام صدام وضباطه الغاضبين من ملاحقة المالكي وعملاء إيران لهم بالإقصاء والتصفية والاغتيال. وأغرت فلول التنظيمات «الجهادية» السورية المتناحرة بالانضمام إلى دولتها الداعشية. وبعد، تسألني، يا قارئي العزيز، عما إذا كان لدولة الخلافة الداعشية نصيب من الحياة والبقاء؟ أقول: «داعش» سوف تهزم نفسها بنفسها، بتزمتها ووحشيتها وسذاجتها الدينية في تجاوز هموم الإنسان المعاصر، لتفرزه بين مؤمن هنا وكافر ملحد هناك. لكن «داعش» تثير قلق النظام العربي، فهي تسحب من تحت بساطه «جهادييه» الذين انتصر على فلولهم العائدة من أفغانستان. ولن يهزم «التنظيم» بغارات أوربا الجوية، فقد لاقت أمريكا الهزيمة في فيتنام وقاذفات ال»بي - 52» تلقي القنبلة من وزن طن على هانوي. يبقى حزني ورثائي للضباط العراقيين القوميين الذين تحولوا إلى «جهاديين» يقودون فصائل «داعش»، لأنهم لم يعرفوا كيف يتجنبون الداعشية، بالوعي السياسي وبمراجعة ونقد تجربتهم المبكرة في خدمة نظام صدام.