المفكر السوري ياسين الحاج صالح هو كاتب وناقد وباحث ومترجم سوري معارض، وسجين سياسي سابق، وهو أحد أهم الكتاب والمنظرين السوريين في قضايا الثقافة والعلمانية والديمقراطية وقضايا الإسلام المعاصر، وله تأثير واسع في الساحة الثقافية السورية والعربية. في حواره مع موقع "أحداث.أنفو" وجريدة «الأحداث المغربية»، اعتبر أن تنظيم «داعش» أنشئ بتواطئ النظام الأسدي كي يضعف الجيش الحر، وكشف أن «بعض الجهاديين الجوالين مهووسين دينيا، إلا أن معظمهم جاؤوا إلى هنا بهدف السلطة والنفوذ والغنائم، وليس من أجل «رفع راية لا إله إلا الله» ولا بهدف الاستشهاد»، وأضاف أن «الطائفية إيديولوجية سلطة وطبقة وليست إيديولوجية هوية أو اعتقادا دينيا. والطائفيون دنيويون كثيرا ودينيون قليلا، وإن جاهروا بالعكس». وقال إن تمويل داعش كان يأتي «من شبكات سلفية خليجية في البداية. ثم من استيلاء على موارد عامة في سوريا، بما فيها حقول نفط، وكذلك من انتزاع ملكيات خاصة للسكان في المناطق السورية التي تسيطر عليها، ثم من استيلائه على أموال حكومية في الموصل في العراق»، وحول علاقة داعش بالقاعدة ، قال إن «داعش لن تقتصر على الأرجح على إضعاف القاعدة، أظنها ستضعف الإسلام السياسي». وخلص الى القول أن «المشكلات التي لا نحلها تؤدي إلى تحللنا نحن، كمجتمع وفاعلين عامين، وبكلفة عالية»…. «داعش» حظيت بتواطأ النظام الأسدي كي تضعف الجيش الحر «داعش» لن يقتصر على إضعاف القاعدة، بل ستضعف الإسلام السياسي داعش سورياوالعراق الكل يتحدث عن «داعش» الإرهابي و«إنجازاته» في سورياوالعراق. هل تمكن لوحده من تحقيق كل هذا التقدم فعلا؟ حظيت داعش بتواطأ النظام الأسدي كي تضعف الجيش الحر من جهة، ولأن هذه المنظمة تبدو مصممة لغرض وحيد، هو القول أن هنا من هو أسوأ من النظام من جهة ثانية. وكذلك بغرض تصوير الصراع السوري كمواجهة مع تنظيم إرهابي متطرف. أجهزة النظام على معرفة جيدة بالتكوين الداعشي، فقد كانت تتعاون مع جهاديين لهم هذا التكوين في العراق وفي لبنان كورقة لتثقيل وزن النظام إقليميا، ويمكن أن تباع عند اللزوم للأميركيين في السياق المعروف باسم «الحرب ضد الإرهاب». ويحتمل أن نظام المالكي في العراق كان منخرطا في هذه اللعبة الخطرة، إن عبر ما يشتبه به من تسهيل هرب أكثر من ألف من معتقلي القاعدة قبل عام ونصف، أو في وقت لاحق عبر نهج النظام الأسدي نفسه في المماهاة بين كل من يعترض عليه وبين داعش: مواجهة احتجاجات عراقيين وتجمعاتهم السلمية بالعنف، وهو مسلك مولد للتطرف حتما. فقط منذ أسابيع أخذت تجري مواجهات محدودة بين قوات النظام الأسدي وداعش، وبغرض التصدير الخارجي، وليس بنية الدفاع عن السوريين ووحدة البلد. ولا زالت داعش تتوسع أساسا في المناطق التي سبق للجيش الحر أن انتزعها من يد النظام، وليس في أي مناطق يسيطر عليها النظام. على أن داعش تتمتع بميزة حقيقية: لديها مشروع «دولة»، تعمل على تحقيقه بوحشية، لكنها واضحة الرؤية وقوية العزم. وهي بعد الاستيلاء على دير الزور والموصل تملك من الموارد ما يتيح لها نموا مستداما وبالاعتماد على نفسها. هل نحن فعلا على شفا حرب طائفية أم أننا دخلنا أتونها فعلا في سورياوالعراق؟ نحن فيها. إيران وأتباعها اللبنانيونوالعراقيون هنا، وربما بعشرات الألوف، وهناك آلاف الجهاديين السنيين، الوافدين والمحليين. لكن لا ينبغي أن نخطئ الفهم: هذا صراع راهن جدا على السلطة والنفوذ والموارد، وإن استعار أزياء قديمة واستحضر حججا قديمة. كان النظام الأسدي مضخة للطائفية والتمييز بين محكوميه منذ أكثر من أربعين عاما بغرض الاستئثار بامتيازات سياسية ومادية. وعلى مراحل دخلت إيران بقوة في مشهد الضخ الطائفي، في لبنانوالعراق وسورية بغرض توسيع وتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي. وقد يكون بعض الجهاديين الجوالين مهووسين دينيا، إلا أن معظمهم جاؤوا إلى هنا بهدف السلطة والنفوذ والغنائم، وليس من أجل «رفع راية لا إله إلا الله» ولا بهدف الاستشهاد. الطائفية إيديولوجية سلطة وطبقة وليست إيديولوجية هوية أو اعتقادا دينيا. والطائفيون دنيويون كثيرا ودينيون قليلا، وإن جاهروا بالعكس. في تقديرك من أين يحصل هذا التنظيم على تمويلاته؟ أولا، من شبكات سلفية خليجية في البداية. ثم ثانيا، من استيلاء على موارد عامة في سورية، بما فيها حقول نفط، وكذلك من انتزاع ملكيات خاصة للسكان في المناطق السورية التي تسيطر عليها. وثالثا من استيلائه على أموال حكومية في الموصل في العراق. وأتصور أن تهجير المسيحيين من الموصل والإيزيديين من سنجار مسألة مال وموارد، وليس مسألة سلطة فقط، وبالقطع ليست مسألة «تطبيق للشريعة».. داعش قوة دنيوية جدا إلى درجة الدناءة. الدين أداة حكم رخيصة بيدها، لا أكثر ولا أقل. وليست الشريعة غير أداة سياسة مقدسة، تفيد في إرباك السكان ووضعهم في وضع المتهمين في كل حال، وسحق قدرتهم على الاعتراض. بعد هذا التقدم الذي حققته «داعش».. بنظركم هل سيقضي هذا التنظيم نهائيا على «القاعدة» أم أن تنظيم بن لادن سيتمكن من التأقلم مع هذا المنافس الجديد والقوي؟ أظن أن داعش حققت حلم الإسلام السياسي المكنون، وليس فقط الإسلام العسكري أو الجهادي. ربما كانت داعش فظة ومتوحشة، لكن هذا ثمن حل تناقضات مشروع الإسلاميين. يريد الإسلاميون أشياء متناقضة يمتنع الجمع بينها: تطبيق الشريعة والعدل بين الناس، أن يكون دين المسلمين دولة للجميع، دولة مدنية وإسلامية… داعش متحررة من أوهام كهذه، تريد سلطة محضه، مطلقة، وتفعل كل شيء لهذا الغرض. خيار أي إسلاميين ممكنين هو إما التخلي عن المشروع، أو «دعش» السكان و«تدعيشهم»، أعني طحنهم بكل وحشية، لتحقيق المشروع المتناقض. آثار داعش لن تقتصر على الأرجح على إضعاف القاعدة، أظنها ستضعف الإسلام السياسي ككل، إما أن ينضموا إليها لأنها تحقق المشروع إلإسلامي الذي لم يعرف كيف (أو لم يشأ أن) يقطع مع المخيال الإمبراطوري والذاكرة الإمبراطورية اللذين تستند إليهما داعش ومجمل حركات الإسلام السياسي (والقوميين العرب). هناك قطب إسلامي اليوم، خلافة داعش، وهي جهاز حكم وإقليم متسع وسكان، ومن لن ينحاز لهذا القطب أو يشكل منظمة تابعة له، يجد نفسه مسوقا إلى القطع مع مجمل إشكالية الإسلام السياسي حول الدولة الإسلامية وحكم الشرعية والحاكمية الإلهية، وإلا يحتار ويتبلبل،فيتآكل ويقل شأنه. لا تبدي الدول الغربية وخاصة أمريكا حماسا كبيرا للتدخل في العراق رغم ما تبديه من قلق.. في تقديرك ما هي أسباب هذا التردد؟ لماذا تتدخل؟ أظنها أميل إلى التعامل مع خلافة داعش كأمر واقع، تعمل على احتوائه، وربما القيام بضربات تأديبية حين يقتضي الأمر، على ما فعلت قبل حين وجيز، لكن ليس بغرض القضاء على هذا الكيان الناشئ، بل تأديبه ووقف تمدده. لن تسمح أميركا والقوى الغربية لداعش بالتمدد نحو بغداد، أو كردستان العراق، أو نحو «سورية المفيدة» لكن لا مشكلة لديها في تصوري بأن تتمدد بين بادية حمص ومناطق حلب والجزيرة السورية والموصل والأنبار في العراق. فليكن للسلفيين الجهاديين «وطن قومي» يتجمعون فيه، وحين لا يبقى لديهم من يقتلونهم، بحكم وقف تمددهم، ربما يقتلون بعضهم. هل يمكن التخلص من داعش دون تدخل عسكري غربي واسع ؟ لا الغرب يريد أن يتدخل، ولا يكفي حتى تدخل بري واحتلال الأرض. هل جرى التخلص من طالبان بفعل التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان؟ وبرأيي أفضل ألا يتدخل الأميركيون والغربيون. داعش قوة إجرامية، لكنها ليست كذلك فحسب. إنها إسلام من نوع ما. داعش مشروع مكون من إسلام وقوة متوحشة. وهزيمتها تقتضي أن تواجه بمشروع آخر، يوفر إسلاما من نوع آخر، وقوة ليست متوحشة، لكنها فعالة. سوريا : النظام والثورة يرى البعض، بعد مرور سنوات من الثورة، أن المجتمع السوري تحول إلى كانتونات طائفية وعرقية مغلقة. يبدو أن في هذه المقولة شيء من الصحة. تبدو الأقليات، ككتل صلبة، أقرب إلى النظام، فيما تبدو الأكثرية السنية أقرب إلى الثورة. قد يبدو هذا كلاما طائفيا، ولكن هل من تفسير لهذه الظاهرة، لا يقع في فخ الطائفية نفسها، أي لا يعتبر الطوائف كتل صلبة مغلقة لها جوهر واحد ثابت؟ أم أن المقولة بحد ذاتها غير صحيحة؟ هل هناك مخرج من الطائفية؟ لدينا نظام طائفي منذ عقود، يميز بين السوريين على أساس الانتماء، ويعتمد في إعادة إنتاجه لنفسه على الطائفية. الدولة السورية مخصخصة للأسرة الأسدية، وتسمى فعلا «سورية الأسد»، وقوة الحكم الفعلية (الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية المولجة بحفظ أمن النظام) طائفية بصورة بارزة جدا. أريد القول إن التطييف سابق للثورة، وهو أداة أساسية للحكم ولاحتلال الموقع الأنسب للنفاذ إلى الموراد العامة والخاصة. الطائفية ليست مسألة هويات وأديان كما سبق القول، إنها مسألة سلطة وطبقة. والمدخل إلى فهم الاستقطابات الطائفية في سورية، اليوم وقبل اليوم، هو بنية النظام السياسي وتاريخه، وليس افتراض وجود جماعات دينية ومذهبية مختلفة، أكثرية وأقليات، لا تكف عن التقاتل لمجرد اختلافها. هذا غير صحيح. الاستقطاب الطائفي أثناء الثورة مصنوع أيضا، وليس واقعا «طبيعيا» لا يحول. وصانعه الأول هو النظام الأسدي الذي قلب الجمهورية إلى مملكة وراثية، وتوسل دوما الطائفية استراتيجية للسيطرة السياسية، وفي وقت لاحق مجموعات إسلامية سنية متنوعة، سلفية بخاصة. مع دور لا يكن إغفاله لقوى إقليمية، وإيران وأتباعها في العراقولبنان، ثم السعودية وقطر وتركيا. ولدينا اليوم مضختان للطائفية والعنف في البلد: النظام وتحالفه، وداعش وأشباهها. ولا أرى كيف يمكن وقف الاستقطاب الطائفي دون تعطيل هاتين المضختين. وأخشى أن الوقت فات على ذلك. قبل الثورة بسنوات قلت إن المشكلات التي لا نحلها تؤدي إلى تحللنا نحن، كمجتمع وفاعلين عامين، وبكلفة عالية. وهذا ما يبدو أنه يحصل اليوم. بُحّت أصواتنا ونحن نتكلم على «المجتمع المفخخ» بالمخابرات والطائفية، وعلى أزمة الثقة الوطنية، ونحذر من سياسات الإفقار والقمع التي قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي يأخذ لبوسا طائفيا.أما مع مضختين، ومع شركاء إقليميين، فربما لم يبق غير التحلل سبيلا لحل مشكلات لم تعالج ولم تحل. في الساحة السورية، هناك تواجد لتيارات عنفية مرتبطة بالقاعدة ولتنطيم داعش، وتيارات إسلامية أخرى أقل تشددا تحارب النظام وتقدم نفسها بديلا عنه، وهو الأمر الذي لا يستقيم وبناء المجتمع الديمقراطي كيف تفسرون ذلك؟ فالواقع اليوم يقول أن السوريين ما زالوا بعيدين عن تحقيق حلمهم في بناء دولة ديمقراطية تعددية. لماذا لم تقدم الثورة البديل الديمقراطي؟ هل البديل الديمقراطي ممكن في سوريا الآن؟ المشكلة التي نواجهها كسوريين في مقاربات غير سوريين، عرب وغربيين وغيرهم، للوضع السوري، ومنه هذا السؤال إذا سمحتِ لي، هي أنهم يعزلون شريحة الراهن الرقيقة عن 41 شهرا من الصراع الذي خاضه النظام كحرب منذ البداية، بينما بقيت الثورة سلمية أساسا لأكثر من نصف عام، ثم ظلت بؤر المظاهرات السلمية تكثر عددا حتى حزيران 2012، خمسة عشر شهرا بعد بداية الثورة، مع توسع المقاومة المسلحة. القاعدة ظهرت في أواخر الشهر الأول من 2012، بعد عشرة أشهر من الثورة، وداعش بعد عامين ونيف. وقبل ذلك، يتعرض المجتمع السوري لتجفيف سياسي وثقافي جائر طوال 41 عاما. وخاض النظام حربا سابقة بين أواخر سبعينات القرن العشرين ومطلع ثمانيناته، وسقط عشرات ألوف السوريين فيها. ويتدهور مستوى تحكم عموم السكان بشروط حياتهم منذ بداية الحكم الأسدي، ويتدهور معه مستوى حياة أكثريتهم المادي منذ ربع قرن على الأقل. ويتداعى التعليم منذ 40 عاما، أي منذ اقتدى حافظ الأسد بكوريا الشمالية، ونسخ منها منظمة «طلائع البعث» التي تربى الأولاد على عبادته شخصيا. فمن أين تأتي الديمقراطية؟ رغم ذلك كله عرفت سورية منذ سبيعنات القرن العشرين معارضة ديمقراطية ويسارية، سلمية طبعا، تعرضت للسحق مثلها مثل الإسلاميين. وحتى بعد الثورة كان يمكن تجنب المسارات الكارثية التي انحدرنا إليها لو أظهر النظام استعدادا للتخلي عن قسط من سلطته. ليس هناك حتمية أوجبت أن نصل إلى اللحظة الراهنة. إنه اختيار بشري اختاره من كانوا قادرين على اختيار مغاير، لكنهم فضلوا لعبة كل شيء أو لا شيء العدمية. شجعهم على ذلك دعم إجرامي من إيران وروسيا. والمؤكد أن سورية كانت ستواجه أوضاعا سياسية صعبة حتى لو سقط النظام في آب 2011، قبل ثلاث سنوات من اليوم، وفي عز الطور السلمي، لكن لكنا على الأرجح تجنبنا انهيار المجتمع والكيان وتقسيم البلد على ما هو جار حاليا. مشكلات عن مشكلات تختلف. العلمانية وفصل الدين عن السياسة والحرية ألا ترى أن سبب كل هذه القلاقل في العمق هو عدم الفصل في العالم العربي بين الدين والسياسة؟ لا، لا أرى ذلك. عدا أن العلمنة مسار تاريخي متموج، وليست حالا توجد أو تنعدم، وعدا أننا مدعوون إلى تطوير نموذج ملائم لترتيب العلاقة بين الدين والدولة في مجالنا لا يرتد إلى مُبسّطة «الفصل بين الدين والسياسة»، فإن هذا السؤال يحيل المسؤولية عن «القلاقل» إلى قوى اجتماعية وسياسية كانت مقموعة على الدوام، ويعفي منها طغما عنصرية أو شبه عنصرية، أوغلت في دم الناس واسترخصت حياتهم طوال سنوات وعقود، وخصت نفسها بالثروات الطائلة والامتيازات غير الشرعية. المخرج فيما أرى هو السير نحو أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية أكثر عدالة وحرية، تضمن الكفاية المادية لأعداد أكبر من الناس. من أجل هذا تفجرت الثورات على كل حال، ومن أجل هذا عوقب السوريون بهذه الوحشية. أما من حيث نموذج العلمانية، فقد اقترحت في بعض عملي الفصل بين الدين والسيادة، أي العنف والولاية العامة، بدل الفصل بين الدين والسياسة. ليس هناك ما يسوغ منع الإسلامين من السياسة والعمل العام إن التزموا بميثاق وطني يقصر العنف والولاية العامة على الدولة الوطنية. أليست العلمانية هي الحل في آخر المطاف أو على الأقل الحد من سطوة الدين وإبعاده عن الشأن السياسي؟ في نهاية المطاف سنموت كلنا، على ما علّق جون ماينارد كينز يوما على القول الماركسي إن الاقتصاد هو المحدد لبنى المجتمع الأخرى في نهاية المطاف. لكن ما دمنا أحياء علينا أن نجد حلولا ناجعة لمشكلاتنا، دون توهم أنها حلول نهائية ولا بعد لها. ما أجده محقا في عبارة «العلمانية هي الحل» هو ما تنطوي عليه من كسل ذهني. فهي تفترض أن مدرك العلمانية واضح، أنه دواء نتناوله فنشفى، أو آلة نستوردها ونشغلها فتنتج لنا فصل الدين عن الدولة، وليس الأمر صراعا اجتماعيا قاسيا ومديدا، وعملا ثقافيا كبيرا لإنتاج المعاني والقيم، وكفاحا سياسيا شاقا من أجل العدالة والحرية. من سيطبق «الحل العلماني» إن لم ينطلق هذا الحل من صراعات المجتمع ويجري تثبيته في ثقافته؟ ومن سيصونه ويعيد إنتاجه؟ ليس غير حكم تسلطي يوكل نفسه بفرض عقيدة ونظام على المحكومين بالقوة. هل من المحتمل أن يفعل ذلك دون أن يطور لنفسه ولنخبته القائدة مصالح خاصة، أو يرتبط في مجتمع متعدد الأديان والمذاهب كسورية بطوائف وتحالفات طائفية من أجل أن يمنع تكون أكثرية اجتماعية نشطة ضده، وكي يبقى في السلطة «إلى الأبد»؟ وبدلا من حل المشكلة الدينية المزعومة، نحصل على مشكلة طائفية ومشكلة طغيان، مع تفاقم المشكلة الدينية ذاتها. يلزم حل مشكلات سياسية واجتماعية كثيرة (التعليم، النهوض الاقتصادي، ظهور نخب وطنية غير طائفية، مؤسسة دينية مضمونة الشرعية…) من أجل أن تكون العلمانية حلا. فإذا حُلّت هذه المشكلات، يمكن أن نسمي ذلك علمانية. العلمانية نتيجة الحل وليست الحل، ولا مقدمته. دعوت في مقالات لك متعددة إلى قيام مؤسسة موحدة تضبط تناثر السلطات الدينية، كمقدمة للإصلاح الديني. اتسمت هذه الدعوة بالجدة، وبمخالفة ما هو متواتر عن الإصلاح الديني. بعد ثورات الربيع العربي، أين ترى الإسلام السياسي ونقاده؟ وهل مازلت ترى في توحيد السلطة الدينية مقدمة للإصلاح الديني؟ وفي مقالات أخرى ترى أن غياب الحرية في دول الاستبداد العربي تؤدي إلى غياب أي منظومة أخلاقية. هل ترى الحرية شرطا ضروريا لإمكانية وج منظومة أخلاقية؟ وهل الثورة على الاستبداد، الديني والسياسي، بهذا المعنى، هي حكماً ثورة أخلاقية؟ قدمت فرضية للتفكير قلت فيها إن الإصلاح الإسلامي مؤسسي، ويقتضي قيام مؤسسة دينية موحدة وممركزة، تحد من التناثر والفوضى الدينية من جهة، وتستقل بالشؤون الدينية كأساس لاستقلالها عن سلطة الدولة من جهة ثانية. يبدو لي أن مشكلة الإسلام الحديث معاكسة لمشكلة المسيحية قبل قرون قليلة. اقتضى الأمر إصلاحا «إسلامي» الوجهة للمسيحية، بسط طقوس الكنيسة، وأضعف الوسائط بين عموم المؤمنين والمسيح، وطوى عند البروتستانت صفحة القديسين والأيقونات والمعجزات، وأثار إصلاحا مضادا في الكاثوليكية. وأقدر أنه في الإسلام يلزم، بالأحرى، إصلاح «مسيحي» الوجهة، يشكل مؤسسة إسلامية، ويعيد هيكلة تعاليم الإسلام حول القرآن والعقيدة والكلام، على حساب الحديث والسير والشريعة والفقه. هناك حاجة لعقلنة المجمل الإسلامي وتنظيمه، والأمر يحتاج إلى مجمع إسلامي للقيام بذلك. وأظن ظهور كائنات مثل داعش وغيرها توجب ذلك، وستضطر أولي الألباب من المسلمين إلى العمل في هذا الاتجاه. وأول مشكلة سيواجهها هذا الجهد هي حرص الدول القائمة على استتباع الأجهزة الدينية فيها. وهذا يقود إلى تكميل فرضيتي الواردة في كتاب «أساطير الآخِرين»: في عالم الإسلام يلزم استقلال الدين عن الدولة من أجل أن يتعقلن الأول، ومن أجل أن يتطور الثاني ضميرا. في المسيحية الغربية لزم العكس: استقلال الدول عن السلطة الدينية المتمثلة في البابوية. وبخصوص الحرية، ملاحظاتي تنطلق دوما من الوضع السوري. خلال عقود، لم نكن محرومين من عيش حياة سياسية في وطننا فقط، وإنما من عيش حياة أخلاقية أيضا. لم نكن ممنوعين من فعل ما نؤمن به فقط، وإنما مكرهين على فعل ما لا نؤمن به. لم نعش في ظل استبداد «يكم الأفواه» و«يغل الأيدي» و«يحبس الأحرار» في سورية، بل في ظل طغيان يجبركِ على الكلام بما يناسبه، وأن تفرحي وترقصي في أفراحه وتبكي في أحزانه، ويقتل من يعترض عليه. ولا يكفي أن لا تخاصمي النظام حتى يتركك بحالك، يجب أن تواليه وتتبعي له وتعادي من لا يوالونه. وليس فقط لا تستطيعين التعبير في الفضاء العام عن آرائك السياسية المستقلة، وإنما كذلك في النطاقات الخاصة. لذلك أقول الحياة الأخلاقية غير ممكنة: لا أحد يستطيع أن يطابق نفسه في سورية في الفضاء العام، أي كمواطن. ولا حتى في النطاق الخاص، أي كفرد. فإذا أراد المرء أن ينحكم لضميره توجب ألا ينحكم للطغيان، أي أن يكون حرا أخلاقيا. امتداد الحرية إلى النطاق العام يوجب الحرية السياسية، أي أن نعترض علنا، وأن نعمل على ممارسة سياسة وإنتاج سياسة تخصنا. وماذا عن الحرية ووجوبها كضرورة في المجتمعات الديمقراطية ؟ وبخصوص وجوب الحرية كشرط لوجود منظومة أخلاقية، الأمر يتعلق بما نعني بمنظومة أخلاقية. هل نقصد نظرية أو تفكيرا نظريا في الأخلاق؟ في هذه الحالة أعتقد أنه لا شيء يمنع من التأمل الأخلاقي حتى في شروط الطغيان («ما في الأرض ضيق على امرء… يعقل» في أيام الشنفرى، فمن باب أولى في أيامنا). لكن يبدو لي أن ضعف الشاغل الأخلاقي والقانوني في ثقافتنا مؤشر على ضعف تطلبنا للحرية، وضعف إحساسنا بالطغيان. أما إذا كان المقصود بالمنظومة الأخلاقية السلوك الأخلاقي، فلا ريب أنه مقتض للحرية، وزوال الطغيان. الثورة على الاستبداد المضاعف أو الطغيان، بما هي تطلب للحرية، لها بعد أخلاقي، دون أن تكون لذلك وحده ثورة أخلاقية. من أجل ثورة أخلاقية يلزم جهد أخلاقي نظري وعملي يستمر جيلا على الأقل، وقد يلتقي يوما بحركة اجتماعية، تعمم هذا الجهد، فيتطور بعد أخلاقي في الثقافة وتنشأ ملكة أخلاقية جديدة في المجتمع.