يقول المثل العربي القديم «لا تتكلم في ما لا تعلم فتتهم في ما تعلم». لعل هذه إحدى مصائب بعض المثقفين العرب الذين يعرفون كل شيء ويتكلمون في كل موضوع بل ويعطون الفتاوى كما يفعل مشعوذو المحطات الفضائية المذهبية على الهواء مباشرة. (العرب اللندنية) بعد انتقال صادق جلال العظم من «نقد الفكر الديني» إلى «نظرية المظلومية المذهبية»، يؤكد العظم أن «الصراع لا يمكن أن يصل إلى خاتمته دون سقوط العلوية السياسية، تماما كما أن الحرب في لبنان ما كان يمكن أن تصل إلى خاتمتها دون سقوط المارونية السياسية». عبّر العظم عن تخوّفه من تنظيم «داعش» وضرورة التخلّص منه إلا أنه اعتبر داعش «امتدادا للنظام وسترحل مع رحيله». وعند السؤال عن الحل أجاب: «الثورة بحاجة إلى مساعدة خارجية للإطاحة بالنظام» (المدن واورنيت). من جهته، وجّه برهان غليون حديثه إلى الجهاديين الذين غرر بهم للانضمام إلى مشروع داعش قائلا: «مكانكم موجود بين أفراد الجيش الحر، وإن كان هدفكم حقّا نصرة الشعب السوري وتحقيق أهداف الجيش الحر فنحن نرحب بكم». وأضاف غليون في حديث لصحيفة الشروق: هناك «علاقات واضحة بين قادة داعش ونظام إيرانوسوريا، حتى أن التنظيم تحوّل إلى قوات خاصة تعمل خلف خطط الثوّار السوريين وتقوم بعمل يتماشى في نفس الاتجاه مع عمل قوات النظام». ويصف أستاذ السوربون أنصار داعش بالقول: «إنهم خليط من متطرّفين مهووسين بالحرب والقتال، والمفهوم الوحيد لديهم عن الجهاد هو قطع الرؤوس، يقودهم ضباط مخابرات إيرانيون وسوريون وعراقيون وتحركهم أحقاد طائفية، وليس لديهم همّ سوى السيطرة على الناس وقتلهم وقطع الرؤوس ومهاجمة الشعب السوري نفسه». (الشروق، 12 يناير2014). أما ميشال كيلو، ففي حوار مطول لموقع (المونيتور) الأميركي من مونترو السويسرية أثناء مشاركته أحمد الجربا في وفد الائتلاف لاجتماعات جنيف 2، فقال: «وجدنا صورا تجمع بين بعض أمراء تنظيم داعش مع الرئيس السوري بشار الأسد، وتم التقاط تلك الصور قبل أن يصبح هؤلاء الأشخاص أمراء داخل داعش عندما كانوا جميعهم يعملون ضباطا في القوات الخاصة السورية». وأضاف في حديثه أن «هناك وثائق أخرى تشير إلى أوامر صادرة عن القوات الخاصة لداعش لمطالبتهم باختطاف واعتقال أشخاص في مدينتي الرقة وطرابلس وسيتم نشر تلك الوثائق... وسترون كيف يقوم النظام بالفبركة والادعاء بوجود المجموعات المتطرفة، غير الموجودة على الإطلاق داخل سوريا منذ بداية الثورة السورية، ودون شك سيستخدمون تلك الحجة أثناء المفاوضات». (ترجمة أخبار الساعة 4 فبراير 2014). يبقي كيلو على نظريته حول داعش ليكتب في «الشرق الأوسط»: «اليوم، وعلى الرغم مما تبين من ارتباط «داعش» بالنظام السوري، وما توفر من أدلة ووثائق وشهادات ضباط وجنود حول علاقاتها بمخابراته، تتذرع قطاعات واسعة من المسيحيين والعلويين بالخوف من «الثورة» كي تناهضها أو تتخذ موقفا باردا منها، وحجتها أن «داعش» تقاتل إلى جانب الثورة وهي جزء منها، وأنها تريد الشر بهم وتتطلع إلى القضاء عليهم» (الشرق الأوسط (05 /05 /2014)، «داعش» تعود !). بعيدا عن هذه المواقف الدرامية يضع ياسين الحاج صالح، كان ضحية التكفيريين في أهله وزوجه ومدينته، الأصبع على الجرح بالقول: «إعلان أبي بكر البغدادي خليفة المسلمين في كل مكان إلى مبايعته حدثا تاريخيا بالفعل من حيث أنه أوصل إلى نهايتها المنطقية الدعوة إلى تحكيم الإسلام في السياسة والدولة وحياة السكان. ولعل هذا مصدر ارتباك عموم الإسلاميين حول داعش قبل إعلان نفسها دولة للمسلمين، ارتباك لا يتوقع له إلا أن يزيد بعد أن صار الرجل في موقع من يطالبهم بالبيعة والطاعة: أمير المؤمنين الإسلاميون محرجون لأنهم هم من فتح باب سياسة الإحراج، وجاء من يدفع الأمر إلى منتهاه ويضعهم هم في الحرج الأقصى. فلا هم يستطيعون رفض خلافته على نحو مقنع دون مراجعة جذرية لمشروعهم السياسي، وهم إن قاموا بهذه المراجعة مضطرون إلى قول كلام واضح في شأن الحرية الدينية (وما فيها حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الإعتقاد) والمساواة بين السكان (بصرف النظر عن الدين والجنس)، والفصل بين الدين والعنف، وهو ما لا يستقيم على أرضية عقيدة الحاكمية الإلهية، أو دعوى تطبيق الشريعة. (الخلافة والخليفة و-خلافو-، الحوار المتمدن، 7 فبراير 2014). في مواقف الإسلاميين إن كانت الغشاوة قد أطبقت على عيون عدد من الليبراليين، فالاضطراب هو سيد الموقف عند الإسلاميين. وقد زاد الطين بلة يوم دخلت «داعش» مدينة الموصل. فحتى هذا التاريخ كان الإسلاميون العراقيون «السنة» يتجنبون أي غزل أو تحالف علني مع تنظيم داعش. وكان الإسلاميون السوريون قد حسموا الأمر بعد مواجهة داعش للفصائل المقاتلة الأخرى على الأراضي السورية. خاصة وأن العديد من قيادات الائتلاف الوطني السوري ورئيس المجلس الوطني السوري، جورج صبرا، وقياديي الإخوان المسلمين قد اصطفّوا في معركة الدفاع عن جبهة النصرة ضدّ إدراج الولاياتالمتحدة الأميركية لها ضمن قائمة الإرهاب، والعديد منهم كان ومازال يؤكد على ضرورة التمييز بين «داعش» و«النصرة». مشكلة الإسلاميين مع داعش تكمن في أنها سرقت فكرة الخلافة التي يؤكد أنصار »التيار الوسطي« على قدسيتها وعدم جاهزية شروط قيامها اختصر هيثم المالح مواقف الائتلاف والإسلاميين السوريين بالقول: «الجميع يعلم أن الجماعات المتطرفة فيها العديد من العناصر الروسية والإيرانية التي تعمل لصالح النظام، لتشوية الصورة الحقيقة للثورة السورية، ومخطئ من يظن أن المجتمع الدولي يقف مع الشعب وليس مع النظام». وأضاف: «محاسبة بشار الأسد يجب ألا تقتصر على قتل السوريين فحسب، بل على صناعته للعديد من الخلايا المتطرفة داخل المنطقة بغية التأثير على رأي الدول الغربية، ليجعلها ضمن خيارين إما الإرهاب المتمثل في المتطرفين أو الإرهاب المتمثل في بشار الأسد، في محاولة منه للتغطية على الثورة الشعبية الحقيقية التي خرجت لإسقاطه». داعش، وفق المحامي المالح، «لغم زرعه نظام الأسد في جسد الثورة، يحذّر المجتمع الدولي من خلاله من الاقتراب أو التدخل في الثورة السورية»، وزاد «إن هذا التنظيم هو قشرة بلا مضمون، يتكنى بالإسلام ويرتدي عباءته من أجل التأثير على الرأي العام». . (عن موقع الائتلاف الإلكتروني). الكاتب الإسلامي المصري فهمي هويدي يبدو أكثر حذرا من نظرائه السوريين. فهو يرفض الدخول في منطق العمالة والمؤامرة ويحاول وصف ما جرى في العراق بالقول: «إن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي تأسس عام 2006، ما إن حقق بعض الانتصارات العسكرية في العراقوسوريا في الآونة الأخيرة، مستعينا بقيادات جيش صدام حسين، ومستثمرا غضب أهل السنة وانتفاضتهم، حتى أعلن في 29 يونيو الماضي (أول أيام شهر رمضان) إقامة الخلافة وبيعة الخليفة، ودعا المسلمين في أرجاء الأرض إلى الانضواء تحت لوائه. استفاد التنظيم من تدهور الأوضاع في العراق واضطرابها في سوريا، فبسط سيطرته على معظم أنحائها الشرقية وتقدم بسرعة في المحافظات السنية بالعراق. وفي انتشاره، استولى على كميات كبيرة من السلاح الموجودة في مخازن البلدين، وعلى أموال من البنوك التي وقعت في أيديه، كما وضع يده على حقول نفط وبعض الأراضي الزراعية، وهي عوامل وموارد أقنعت قادته بإمكانية استمرار دولة الخلافة وتمددها». وتابع هويدي قائلا: «إنني لا أبالغ إذا قلت إن التنظيم فيه من التعبير عن انتفاضة أهل السنة العراقيين وتجسيد غضبهم واحتجاجهم، أكثر مما فيه من تطلعات التبشير بإحياء الخلافة... منظمة «داعش» إرهابية حقا، ولكن ليس كل الذين وقفوا معها- سواء كانوا مقاتلين أو مساندين- إرهابيين أو تكفيريين، ولكنهم مواطنون عراقيون معتدلون حاربوا ضد تنظيم القاعدة في الماضي، ويطالبون الآن برفع المعاناة عنهم والكف عن التهميش والإقصاء، وما كان لهم أن يلجأوا إلى المقاومة المسلحة ومساندة «داعش»، إلا لأن خياراتهم ضاقت نتيجة السياسات الرعناء التي اتبعتها حكومة المالكي». (كتاب اللواء 16 يوليو 2014). لا يلبث فهمي هويدي أن يسقط في خلفيات موقفه، فيطلع علينا بفروق بين داعش سوريا وداعش العراق: «ثمة لغط حول دور الأطراف الخارجية في إطلاق داعش وانقضاضها المفاجئ، كما أن هناك جدلا حول طبيعة وهوى التنظيم في كل من العراقوسوريا، وكونه يتسم بقدر من المرونة ويحرص على التعاون والتفاهم مع العشائر في العراق، فضلا عن اعتماده على قيادات محلية عراقية. أما في سوريا فهو أكثر عنفا وأشد قسوة وغلظة ومن بين قياداته «مجاهدون» قادمون من الخارج، أبرزهم مسلم من جورجيا سمي باسم أبي عمر الشيشاني». (نفس المصدر). خلاف حول الخلافة كيف يمكن للسيد هويدي أن يغطي على دعم زملائه الإسلاميين للحركة التي تقودها داعش في العراق إلا بخلق هذا الفارق الوهمي؟ وهل قتلُ المواطنين العراقيين بالجملة والعمليات الانتحارية في المدن والترانسفير للمسيحيين ومسعى إبادة الإيزيديين مرونة واعتدال؟ ألم يعلم أن أبا عمر الشيشاني كان يقاتل في سد الموصل كما قاتل في سوريا؟ وأن غرباء من أكثر من ثلاثين جنسية يقاتلون مع داعش في العراق؟ هنا نصل إلى بيت القصيد وهو حالة الاضطراب التي صنعتها داعش في صفوف الإسلاميين، معتدلين كانوا أم متشددين. فحوى المقال كله يمكن اختصاره في جملة واحدة «لا أبالغ إذا قلت إن التنظيم فيه من التعبير عن انتفاضة أهل السنة العراقيين وتجسيد غضبهم واحتجاجهم، أكثر مما فيه من تطلعات التبشير بإحياء الخلافة»، أي موقف «هيئة علماء المسلمين» والشيخ يوسف القرضاوي الذي اعتبر ما حدث ثورة شعبية، ثم عاد ليقف ضد إعلان داعش للخلافة. ليست المشكلة مع داعش، في العراق على الأقل، في نهجها الإجرامي وصناعتها «التوحش». المشكلة في أنها سرقت فكرة الخلافة التي يؤكد أنصار «التيار الوسطي» على قدسيتها وعدم جاهزية شروط قيامها. «هيئة الشام الإسلامية» كانت أكثر وضوحا، فهي لم تتعرض وحسب، كما فعل الشنقيطي والريسوني وعشرات الأقلام الإسلامية، لعدم شرعية إعلان الخلافة، بل تعرضت لممارسات داعش نفسها. صدر الإعلان عن فئة باغية مارقة تستحل الدماء ولا تلتزم بالمنهج النبوي الذي هو قوام الخلافة الراشدة. فلا هم ممكنون في الأرض، ولا مطاعون من الناس والانفراد بإعلان الخلافة دون أهل العلم والرأي والمشورة من المسلمين وقهر الناس على بيعة لم تتم لهم أصلا. إعلان «الخلافة» بهذه الطريقة هو تشويه لصورة الإسلام بإظهار دولته دولة قتل وإجرام وتلذذ بقطع الرؤوس والأيادي». ما أصدق من قال، التاريخ عندما يتكرر، يكون ذلك بمأساة أو مهزلة. عندما يفتقد مفهوم الجهاد إلى شرف المواجهة وتغيب عن «مشروع الخلافة» كرامة الإنسان وحقوقه، تصبح الجماعة التي تسمي نفسها إسلامية، العدو الأول، ليس للإنسانية وحسب، وإنما أيضا لكل المعاني السامية في الإسلام.