حتى الآن، نجح تنظيم داعش في أمر واحد، هو خلط الأوراق في المنطقة، فقد أدت الحرب التي أشعلها في العراق وسورية، ووصلت شظايا نيرانها إلى لبنان، في التقاء مصالح الأعداء، والجمع بين الأضداد. والمؤكد أن الحرب المشتعلة التي تشارك فيها أكثر من دوله ستؤدي، حتماً، إلى إعادة توزيع الأدوار وترتيب الأوراق. ولو حاولنا قراءة التحالفات والتقاربات الحالية في المنطقة التي فرضتها مواجهة خطر داعش، من خلال حساب الربح والخسارة، سنكتشف متناقضات عديدة، كان يصعب حتى أيام قليلة تخيلها، وبالأحرى وجودها على أرض الواقع، وهي ما زالت في طور التبلور لإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة، يصعب، من الآن، تحديد ملامحها النهائية. لنبدأ بالمستفيدين، اليوم، من وجود داعش، فهم كثيرون يسعون إلى استثمار الوضع الحالي، للدفاع عن مصالحهم في المنطقة. على رأس هؤلاء، يأتي الأميركيون الذين خرجوا مهزومين من العراق، بعد أن تحول إلى ولاية إيرانية تمزقها الحرب الطائفية. فلن تجد واشنطن فرصة أحسن من داعش للحد من النفوذ الإيراني في العراق، ولعل أولى بوادر تراجع هذا النفوذ يتمثل في استقالة نوري المالكي، مرغماً لا بطل. وإذا كان هناك من ينظر بعين الرضى إلى تمدد داعش، فهم الإسرائيليون، الذين استغلوا حالة الفوضى في المنطقة، لشن عدوانهم على غزة. ويكفي أن نعرف أن ما أحدثته داعش من تقتيل وتشريد وتخريب وتمزيق لم تحدثه إسرائيل منذ قيامها عام 1948، من دون الحديث عن الحروب البديلة التي تخوضها داعش ضد أعداء إسرائيل في المنطقة، سورية وإيران، عبر أذرعها في العراقولبنان. لكن، إذا كان هناك من شعب محظوظ في المنطقة سيخرج فائزاً من هذه الحرب، فهم الأكراد الساعون إلى إقامة دولتهم المستقلة. فقد ساعدتهم فوضى داعش على إضعاف الدولة المركزية في بغداد، ومنحتهم اعترافاً دولياً غير مسبوق، يمهد لإعلان استقلال دولتهم الذي أصبح مجرد مسألة وقت. وغير بعيد عن المنطقة، تجد الأنظمة الاستبدادية في حالة الفوضى العبثية، والجرائم البشعة لتنظيم داعش، أحسن فزاعة لتخويف شعوبها من المآل الذي ينتظرها، وستتخذها ذريعةً لقمع طموحاتها وتطلعاتها نحو الحرية والديمقراطية والكرامة، بدعوى محاربة الإرهاب. وإذا كانت إيران وحلفاؤها في العراق وسورية ولبنان، سيخسرون على مستوى النفوذ، إلا أن طهران نجحت، حتى الآن على الأقل، في وضع نفسها حليفاً موضوعياً للغرب في المنطقة، باتت مساعدتها مطلوبة للحد من تمدد داعش، وهو ما قد توظفه إيران غداً في مفاوضاتها مع الغرب بشأن برنامجها النووي. وأخيراً وليس آخراً، يأتي نظام الأسد في سورية كأحد المستفيدين الأوائل من وجود داعش، إن لم يكن فعلا هو وراء خلقها، لضرب معارضيه بعضهم ببعض، ولتبرير إدعائه بأنه يحارب تنظيمات إرهابية، وليس ثورة شعبية. أما الخاسرون من الحرب الدائرة فهم كذلك كٌثر. لنبدأ بالضحايا المنسيين من المدنيين العزل الذين يقتلون ويشردون يومياً في العراق وسورية. لكن أكبر الخاسرين من جرائم داعش صورة الإسلام الذي حوله التفسير الجاهل لهذا التنظيم إلى دين للقتل، وجز الرؤوس والإعدامات الجماعية والتعصب والتطرف والإرهاب. وقد بدأ، من الآن، ترويج خطابات إعلامية مغرضة، تهدف إلى إيجاد إسقاطات لهذا الفكر المتطرف، على فهم الإسلام السياسي، والتنظيمات الإسلامية، للدين، انطلاقاً من المثل المأثور "ليس في القنافذ أملس". وهناك خاسرون، صامتون، سيبتلعون خسارتهم، إنها الأنظمة العربية وأجهزة مخابراتها، التي دعمت مادياً، أو على الأقل، غضت الطرف عن تعزيز صفوف داعش بمتطوعين من بلدانها لمواجهة النظام السوري. وبعيداً عن حساب الربح والخسارة، فالمؤكد أن دولة داعش، على الرغم من كل الخراب الذي أحدثته في المنطقة والنفوس، لن ترى النور لعدة أسباب: أن الغرب والمجتمع الدولي لن يصمت طويلا على الجرائم البشعة لهذا التنظيم، خصوصاً عندما يكون الضحايا من المسيحيين والأقليات الإثنية والدينية، كما أنه لن يسمح بإقامة دولة لمتشددين ومتطرفين. وقد بدأ الغرب، فعلاً، بوضع حد لبشاعة جرائم "داعش". السبب الثاني أن "داعش"، كتنظيم عقائدي متطرف، لم ينجح في توفير حاضنة شعبية له في المناطق التي سيطر عليها، فهو له مقاتلون عقائديون وأنصار ايديولوجيون، وليست له قاعدة شعبية، وحدها الكفيلة باحتضانه وتبني مشروعه، هذا إذا كان له فعلا مشروع! سبب آخر لا يقل أهمية عما سبقه، بل هو أساس وجود كل تنظيم، ويتعلق الأمر هنا بالمشروع الذي يقاتل التنظيم من أجله، وهو مشروع يحمل بين طياته عوامل هدمه من الداخل. ليس لأنه مشروع طوباوي، وإنما، أيضاً وقبل ذلك، بسبب بشاعة وسائل إقامته، فقد انتهى عهد فرض الأفكار، وإخضاع الناس للطاعة العمياء، ولو كان ذلك باسم الدين. يبقى أن داعش، كفكرة، دعمت وجودها أنظمة استبدادية لإفساد الربيع العربي، لتضرب بها الإسلام السياسي الذي حمله هذا الربيع إلى السلطة، في الدول التي شهدت ثورات شعبية، مآلها الفشل، لأنها مجرد أداة لخدمة أجندات سياسية للدول التي دعمتها، قبل أن تتخلى عنها، بعد أن تستنفد أغراضها منها، أو لأنها باتت تتخوف منها، بعد أن خرج الوحش من القمقم. لذلك، لا يجب ترك فكرة مواجهة فكر داعش للأنظمة التي تعتمد مقاربات أمنية صارمة، تبيح لها ارتكاب تجاوزات في مجال حقوق الإنسان، لا أحد سيسألها عنها بدعوى "محاربة الإرهاب"، وهذا واجب المثقفين والسياسيين والإعلاميين الذين عليهم، من الآن، التعبير بوضوح عن إدانتهم جرائم أصحاب هذا الفكر الظلامي. فلا يعقل أنه لم تخرج، حتى اليوم، مظاهرة واحدة في أية مدينة عربية، تندد بالجرائم البشعة لهذا التنظيم الهمجي! العربي الجديد