على ناصية خط الوصول، يقف المرض والعجز ألما، ينتظر فرصة الفتك بأجساد يسعفها طول العمر وتخونها الصحة… صورة تحيلني إلى ما كانت تردده جدتي متخوفة من ذلك المصير.. «الله يرزقنا قد الصحة قد العمر « مقام المحبة يعلو ولا يعلى عليه، وصْواب أيضا، في غياب والدتي، وحضور حِكم جدتي.. وبما أني كبرى إخوتي، صْواب تعلمته، وعلي بدوري أن ألقنه دروسا لإخوتي.. الضيف سيد إذا حل ببيتنا، جيراننا الأكبر منا سنا، احترامهم فرض عين، المرأة نناديها « خالتي» والرجل ندعوه « عمي» .. « لكن خالتي ليست جارتنا جْبلية أو عَيَّادة أو.. خالتي هي ميمونة، وخالة واحدة نملك في هاته الدنيا / تعجب/» « يا لْعكونة، خالتي ميمونة نناديها خالتي، حافية، بدون إتباع خالتي بالاسم، بينما جاراتنا وجيراننا نناديهم خالتي أو عمي مع ذكر اسمهم أو اسمهن» بأناملها الطويلة والنحيفة تحك أختي الصغرى (آخر العنقود) رأسها، وترسم على وجهها الجميل ابتسامة، تطمئنني عبرها بأنها فهمت قصدي، وأن الأمر لا يستدعي مني كل ذلك القلق .. بابتسامة بلهاء، أستبدل مقبض الباب أستدير إلي، أستجمع ابتسامتي وأرمي بها في وجهها ..ثم أتمم تلقينهم ما تبقى من الدروس.. «نقطة بنقطة يحْمل الواد، وسير بلمهل توصل، الطريق الطويل تكرار للمسافات، ورحم يتسع لما لا تتوقعينه من المفاجآآت وقد تكون عبارة عن حزمة من الخيبات!» ماء بارد تصبه أمي على الراس سْخون الذي أكونه، وأنا أعرض عليها أحلامي العملاقة، بعينِ لدّاي فَزْمان وجايَبْ.. تضيف قائلة وهي تلصق نظراتها الحادة بوجهي الحائر: «بهذه السرعة، وبهذا الدخان الكثيف الذي يملؤك، ستضلين الطريق إليك، وستحرقين أصابع أحلامك..» أحلام كدستُها بقفة – على قد الحال- منشغلة فقط بملئها، مما ضايق أمي وجعلها تتخوف من مغبة تمزق قبضتيها في وسط الطريق… «لهواية التنبؤ بالنهايات، لون فاقع لايليق بك أمي، ما يشغلني هو توقع البياض من الآتي، الوقت يلتهم الوقت، ويتورط في قتل ظلالنا على هذه الأرض، كنا فرحا أو حزنا، سنعز أمامنا أو نهان .. جلسات مكثفة من النسيان، أنصح ذاكرتي القيام بها، حتى تتخلص من وجع حاد على مستوى الرأس، ومن تخمة تعرقل هضمها بعض الذكريات.. صفحات من ماض أقلبها، ليس للإقامة بها ، بل هو رجوع إلى الوراء لجعل خطوات التقدم إلى الأمام أقوى.. بنافذة الصمت المشرعة على القلب، أتلمس الطريق إلي، والوهم لا يزال يتسكع في شارع طويل على ضوء خطى كاذبة كأجراس تتلعثم أمام صباح ينثر نوره مرددا: عناقيد الوهم مغرية.. وخيوط الدخان مشانق عناقيد الوهم مغرية.. وخيوط الدخان مشانق ………. ما أقسى طيبتي علي وأنا لوجه الوقت المتجهم، أقطف ابتسامة/تعجب/ أتطلع إلى نبتة صبار تطل علي من سطح البيت ، تلوح لي زهرتها السريعة الذبول ولسان حالها يهمس لي» وما الحياة إذا خلت من الحماقات ؟!» تبا لي مابي أذكر كلمة حماقات بْلا حشْمة وبْلا حْيا، أنا أقصد أحلام، أخاطبني بصوت غير مسموع والخوف من أن تلتقط أمي الكلمة يحاصرني، أوووف عبارتي تلك لم تقفز خارجي وإلا لرُميت بكل ما يحمله الشيطان من نعوت.. بيني وبين نفسي لا توجد أسرار أو حواجز، سأدفع عني كفر الجوع، بقطعة حلم شهية، سأبدأ ببناء سقف يحمي حلمي من سماء لا آمن تقلبات طقسها، ثم أحيطه بجدران قوية، وفي زاوية منها سأضع بابا لا يفتح إلا من الداخل.. سينضج حلمي على ناري الهادئة، لينحت من آمالي جبلا يغري بالتسلق ولا يتسلق، هذا ما يخبرني به كل يوم الصباح وهو يطل علي من زواياه المشرقة.. عبيدا داخل أسوار الحلبة نصبح، وخارج قفاز الملاكم نرتجف…. لا، داخل حلمي لن أرتجف، وبين أسوار الحلبة سأقاوم.. سأقاوم النيات السيئة، اللدغات المباغتة، الهجوم الظالم المقنع بالحق في الدفاع… في قاعة الأساتذة الباردة ، الكل منكب على ركام من الدفاتر يسارع الزمن للتخلص من عبء تصحيحها ….،إلا سعاد ،فقد دلفت القاعة ،تحمل بيدها مذكرتها اليومية ،متثائبة تجلس ،تقلب الأوراق ،تبتسم ،تضحك ،باسترخاء تام ،هستيريا من الضحك المجنون تنتابها ،نضع الأقلام الحمراء جانبا ، ننظر إلى بعضنا باستغراب مما أَلَمَّ بها ، نبتسم ، لا نكتفي بذلك ،بل يراودنا فضول لمعرفة سر ضحكاتها المجلجلة ، دون تردد منها ،تبدأ في قراءة مجموعة من طرائف اقتنتها بعناية ذات فراغ ،لتجعل لها بين صفحات مذكرتها مكانا قارا ،وهي تقرأ لنا بلكنتها المراكشية المرحة تلك الطرائف ، لم يشعر أحد منا من شدة استغراقنا في الضحك كيف مر الوقت ، حتى فوجئنا بصوت جرس الاستراحة و هو يخترق ضحكاتنا …. « حراااااام عليك أسعاد ، خرجتي علينا ، بقيت الدفاتر دون تصحيح …» «تصحيح الأخطاء يُتَدارك، لكن للحظاتي الجميلة نسخة واحدة لا تُكرر « تقول سعاد، وتردف مذكرة إيانا بضرورة أن نلتقي عند حليمة يوم السبت القادم لنبارك لها سكنها الجديد… يصادف موعد اللقاء، مناسبة حلول عاشوراء، تنزل رجاء وأختها من السيارة وهما تتأبطان إيقاعيْن، كذلك نعيمة لم تخرج من الجماعة وحملت معها دَرْبوكة ضخمة .. ببشاشتها المعتادة تستقبلنا حليمة : « الفاكية أولا ثم الموسيقى ههه» تنطق العبارة وقد مزجتها بلون ضحتها المتميزة.. اكتبينا يا سعيدة، كل واحدة منا هي أنت، تشاركيننا التصفيق، تنثرين ابتساماتك بيننا، تسْتَدعين حركات من جسدك حتى تراقص ما نردد من أهازيج، أرأيت كيف نصبح جميلات، رائعات، ونحن نصدح بفرح نرمم عبره التصدعات، نلعن الوقت الرديء بضحكاتنا، نغادر رداء الروتين الضيق، نتأبط لحظات نطرزها بالفرح، ثم نلبسها جلباب مناسبة جميلة، حتى نسد أفواها ثرثارة تتقن الاستخفاف بحقنا في الفرح، وتضعنا في قالب الضلع الأعوج والعقل الناقص.، وفي الملون من الأقفاص .. كما نحفر الصخر بأظافرنا كادحات، عاملات، داخل وخارج البيت، سنعيش لحظة الفرح هاته بكل ما أُوتينا من حب قوي للحياة، أترين كيف حرصنا على مرافقة آلاتنا الموسيقية ، سنعزف عليها سمفونية تطرب الآذان وتستفز الأبدان بمراقصة الفرح، قصيرة جدا هاته اللحظات، هات يد قلبك لننغمس جميعا في سكرات بهجة يرضاها الله لنا مخرجا ومدخلا نحو أفئدتنا المتعطشة إلى مساحة حرية نمارس بها طقوس البحث عن سماء صالحة للتحليق.. ولسان حالنا يقول: بما أن مجاراة الألم، ألم إضافي، يزيد قلعة الحزن صمودا فنكاية بك أيها السواد سنتصدق عليك بشيء مما نملك من جمال.. شمعة على صفيح العمر نحترق، .. نذوب ومن غدره لا نتوب، نمتطي مواويل الوضوح، لا نضيع علينا متعة التأويل، حيارى، من بين شقوق النور نتسلل، نتفقد وجوهنا المتعبة بالسفربين الحل والترحال.. وحتى لا نطعم القلوب القاسية بآهاتنا، نترك السقوط خلفنا حفرا مع صدى صوت يرافقنا وهو يقول: الدين النصيحة.. الدين النصيحة..:والمحبة أيضا