"لا تقرب هذه الفاكهة المعلّقة في مدخل الجسر و إلا احترقت المدينة و تحوّل ما كتبتموه إلى رماد تذروه الرياح." قالت المرأة كلماتها و تهادت خصلات شعرها و هي تعبر الجسر و تتركك معلّقا بين رغبة و رهبة ، بين لهفة و بين خوف ممّا هو آت،بقلبك لهفة للفاكهة ، و في أنفك عطر ذلك المساء . تناسل الألم في روحك و أنت تفتّت تويجات الوقت في انتظار تلك التي ستأتي الآن لتطفئ جمرة الشوق و تمنحك صكّ الغفران لتنعم بالجنّة الموعودة معها. و كأنّ الجسر تهيّأ لاحتضان خطواتها و هي تتهادى شوقا إليك ، دار جسدك مكانه ، عليك أن تثبت فالجسر شاهق و الصخور تتربّص بك ، أنت لا تريد موتا مؤجلا في أحلامها و لا في لحظاتها ، تريد انتحارا في ابتسامتها. شكرا لها لأنّها ارتدت الفستان الذي تعشقه أنت، ألوانه تجعل زرقة السماء تستقرّ طويلا عند رأسيكما و تبعث الغيم و الضباب كتلا كفيلة ببناء عش لكما على الجسر ، لا يراكما أحد و لا تريان أحدا.ضحكتها تسابق الهواء إليك: -أعذرني ، متأخرة دائما. -لا عذر عليك ، المهمّ أنّك أتيت. كتل الهواء كانت ترفع الجدران حولكما لتستقرّا في بيت من ضباب ، لكما وحدكما في هذا الجسر المعلّق في الهواء.أربكها المكان الشاهق و كأنّها تراه لأوّل مرّة ، صرخت في وجهك : -أيّها المجنون ،لم تجد مكانا آخر تقرأ لي فيه قصيدتك غير هذا الجسر الذي تشهق روحي من ارتفاعه؟ -وحده هذا الجسر سيكون أمينا على كلّ القصائد التي سأكتبها لك. -آآآآآه ، بكلامك هذا أنت تجعلني أحلم بأنّني سأعيش عمرا طويلا و أسمع منك الكثير من القصائد. - ستعيشين عمرا أطول من عمري ، و ستذكرين قصائدي. -لا أرجوك لا أريد أن تموت أنت قبلي . و أخرستك أمنيتها ، أخرست صوتا كان ينادي بداخلك و يلحّ في السؤال : لماذا نخشى الموت؟ حدّثتك نفسك عن ما بعد موتك إن كان هذا الموت لا يعود يعنيك و قد تركتها على الجسر كبقايا ريش حمام؟ تستقرّ نظراتك على عينيها الممتلئتين بالدموع و تتهاوى عند ابتسامتها العذبة الساحرة ، إنّها أجمل قصيدة يمكن أن تُكتب، حبرها دموع و نبضها ابتسامة . هل يمكنك أن تغفل عن ذلك و تعود معنيا بحياتك و بحياتها بعد موتك سؤال يستفزك في داخلك ، لا تبالي به ، تسحب ورقة من جيب سترتك: - اسمعي القصيدة . ترتّل قصيدتك و يستحمّ كل حرف من أبياتها بقطرات مطر جاءت تبارك حياتكما رهينة الكلمة . يرتفع صوتك أكثر ، يسافر في روحها ، يعبر شقوقها و يذيب جبالا من ألم ، تصفق لك مبتهجة : -ما أروعك أنت شاعر عظيم. تبتهج أنت أكثر لابتهاجها ، تقترب منها أكثر و تهمس في أذنها : -هكذا أريد أن أراك ، مبتهجة سعيدة لا تنزل دموعك إلا من فرح. و تحبس غيمة ابتسامتها ، تقذف بباقي الدموع ، تفلت هي من ركن قريب منك ، تخترق جدار الضباب ، تدور بفستانها الذي طالما أرّقك ، تدور كراقصة باليه على امتداد الجسر ، تتعالى ضحكاتها و المطر يعزف على إيقاع خفقات قلبك أجمل السمفونيات ،تتناهى إلى سمعك موسيقى موزار ، تتراءى لك قطرات المطر أوركسترا عظيما و موزار يقود الجوق، يعزف "جوبيتر "أروع سامفونياته ، موزار ذلك العبقري الذي مات و عمره خمس و ثلاثون سنة و لم يمش في جنازته سوى خمسة أشخاص ، هو حيّ بل أكثر منّا حياة ، يتضاعف عمره يوما بعد يوم ، بل عمره ست مائة و ست و عشرون عملا موسيقيا يحيينا كلّما شعرنا بموت داخلنا ، أكيد أنّ موته كان يعنيه ، كما تعنينا حياة موسيقاه."جوبيتر" تتعالى نوتاتها الساحرة ، تفلت الورقة من يديك ، تتصاعد في الهواء ، تلتصق بزاوية أعلى الجسر ، تشهق روحك، تصرخ بأعلى صوتك : -قصيدتي ؟ تضحك هي و يصلك صوتها متناغما مع "جوبيتير" : -لا تقلق ، تلك الفاكهة المعلّقة على مدخل الجسر لا تقربها و إلا تحوّل كلّ ما كتبنا إلى رماد تذروه الرياح". تصبح الآن معلّقا بين الجسر و القصيدة ، عزاؤك أن ستتناسل قبيلة من القصائد في روحك و حبيبتك تراقص المطر ، فاكهة من فواكه السماء. جميلة طلباوي الجمعة 20أوت 2010م