مطار القلب من الشعراء من يأتيك صحوا، فتمضي معه في رحلة تُشبه السفرَ في مرايا الماء، متوكئا على عصا الغبطة والاطمئنان، وكأنك و أنت خارجَ نفسك داخلٌ فيها. ومنهم من يأتيك سُكرا فتمضي معه في رحلة تُشبه الينابيع السرية المتعرجة في جسد الوجود بشفرة الإدهاش، وكر المُباغتة، لا تستقر في جغرافية، ولا تتركك تستقر على صهوة نسق واحد، وإنما تقذفك فوق صهوات ذات أنساق لانهائية، تشعر معها أنك في خلق جديد. وطه عدنان هو من هذه الفئة من الشعراء الذين يستقبلهم مطار القلب، فيتنشق عطر التمرد الخلاق، ويتلألأ اغترابا، وكلما اغترب تجدد. فعل هذا بي حين دخل بحقيبة «ولي فيها عناكب أخرى»، وها هو الآن يعمق ذلك الفعل بحقيبة «أكره الحب». فبأي نبض ترحابي أستقبله؟ أبنبض المتلقي المدمن لسنباله الشعري في الدوريات والمواقع الإلكترونية؟ أم بنبض الإنسان الذي ما أبصر إلا بكلماته، و لا أورقت ذاته إلا برؤاه؟. تمردٌ مُثملٌ سأترك الحقيبتين للنقاد الواقفين على بوابات الإبداع بزي جمركي، فهم لا ريب سيجدون فيهما ما يفضح عُنَّةَ معاييرهم، ويكشف فظاعة هشاشتهم. وسأقتصر في هذا الاستقبال على نصين مستنزلين من الشبكة العنكبوتية، الأول بعنوان «القصيدة الكونية» (1)، والثاني يحمل اسم «موعد حب عربي» (2). وذلك لما يحملانه من كثافة رمزية، ودلالات غائرة، ولما في انسجامهما من تمرد على المواضعات التي تخنق اندفاق الحياة المعافاة في عروق الإنسان والعالم. مما يجعل من التمرد روحا جوهرية تنأى عن اعتبار الشعر تبيينا لحالة، أو تلوينا لحدث، و إنما تراه فاكهة الروح المقتطفة من عدن الحب بيد لغوية مختمة بما وراء أقاليم المعنى. إن هذه الفاكهة هي التي تُعطينا: أولا: ماء الحلم الذي يمنح لحياتنا معنى، ويجعلها تنشد إلى الصيرورة إرادة وتمثلا. ثانيا: عطر التمرد على كل تأسُّن يبتر وجداننا لصالح هوية عمياء. والماء و الأحلام كما في أطروحة باشلار Gaston Bachelar صنوان، يتعالقان ويتبادلان المواقع في الذات. فهما سمتان للكائن وجوهر جوهره، الماء حلم، والحلم ماء، والقصيدة مسكنهما،ولا جدوى منها إذا لم تتضمنهما، لأنها حينذاك لن ترفع إيقاع التمرد والتمرد و التحول فينا. يقول طه عدنان: لا أبدو منشدا الكتابة قصيدة هذا الصباح ثم هل من الضروري أن أكتب شعرا لكي أظل على قيد الأحلام؟ ( القصيدة الكونية) فأس التمرد هو الشعر، و أُوكسيجينه هو الأحلام، وخطوته هي الثقافة العميقة الجامعة، وغايته انبجاس الجمال في الكون. فهو قدر الشاعر، وليس كما يزعم الذين ادارك علمهم في الشعر نزوة من نزوات المراهقة الشعرية، أو نزغة من نزغات الرفض غير الواعية بالموروث الشعري و الأدبي بكل أشكاله. وطه عدنان حين تمرد شعريا وجماليا، إنما قام بخطوة معافاة، وصحوة وقادة، من أجل الشعر، وفي داخل شروط الإبداع الكونية، يقول: لا قدرة لي على حبس خيولي في الإسطبل البارد للحظتي الواهنة خيول الذاكرة تفضل الركض حنينا إلى مراتعها الأولى. ( القصيدة الكونية) والحنين إلى المراتع الأولى ما هو ارتقاء إلى الأشياء في براءتها الأولى، وطفولتها المنسية تحت ركام العوائد والثوابت الملجمة: أحس جمجمة صدئة بقلبي أقرأ قصائد أصدقائي و لا يهمني مصير إليوت في أرضه اليباب بْرُوتُونْ بدوره لا يعنيني (.................) جرير ما يزال يصارع السجن و الأسنان تكفيني قصائد الأصدقاء بكمد أراجع أخبارهم الحزينة ( القصيدة الكونية) هذا التمرد على المنجز الإبداعي الذي تشير إليه الأسماء ( = إليوت،بروتون،جرير،ناظم حكمت، جاك بريفير )، وتدل عليه كمرجعية مهيمنة،دليل على استرجاع الذات المقموعة تحت أنقاضه والمتنفسة بأنفاسه،وإعلان هبوبها على الكل، في قصائد نلمس فيها أعلى أشكال التمرد بنية وصورة، و أسطع انحياز لراهنية الذات ومقولاتها، ولكن في نطاق مضبوط بضوابط لغوية ولسانية لا يمكن تجاوزها. إن سمة التمرد هاته هي التي أضفت على شعر طه عدنان ذلك التنوع الثري المُثمل، وحمته من سيطرة النمطية والتشابه، ما يصدر عنهما من استنساخ وغياب للفروقات النوعية التي تمايز ما بين شاعر وشاعر. ومن خصوصيات شعر شاعرنا احتفاظه بحضور مستمر، وذاتية متألقة ومتأنقة، سواء في لغته الأصلية أو في سفره داخل ألسنة أخرى. فهو هو بطاقاته التخييلية، وتميزه الإيحائي، وقوة تأثيره في المتلقي عن طريق لغة؛ لعل أجمل ما فيها هو كونها ذلك « المستحيل الذي يستحيل القبول به مستحيلا» (3) ، لأنها عند المعاينة لا نراها تقول ما نحملها قوله، وإنما تقول ما هو مبطن في الشقوق، وتتعمق فيه. فهي لغة الشاعر طه وذاته، تعمقهما، و أقام فيهما، فعرف ما به المأساة تتجذر، و أيضا ما به وعليه يتمرد. تسلم مكتسبات عصره وما سبق عصر معطىً جاهزا لا يكشف عن طبيعة ولا ولادة، فجوهره واقترحه من خلال ذاته، كما لو أنه هبة من جوانية الروح. ومن هنا كان شعره وجودا للوجود، وكانت رؤاه الشعرية للعالم لا تبرير لها إلا بما هي عمق جمالي، وكشف لنسغ الحياة في نسغ الحرية. جراح ترى الجراح وهذا الكشف عن جذور الحياة في جذور الحرية تطلب منه تكميم فداحة جراحه و آلامه، ورفع رأسه عاليا لرؤية فداحة جراح العالم، والتماهي معها، والتأمل فيها، وفيما حولها من مشاهد ومظاهر متنابذة، بعين يؤطرها الانزياح الحاد، والوصف اللافح اللذان ينمان عن قلب وعقل متأملين ببطء وتركيز: سأمضي صوب ما لا يعنيني بمزاج حائك أعمى سأدعي العالم كله سأزعم من القصائد ما لم تطأ لي قدم أطرد طيور الأسى من الشرفة و أحرث بياض الورق (..................) أي جدوى من تشريح الأوجاع سأكون أسعد حالا و أنا أنام في حضن فانيسا أعاقر الكرز و العسل و أسمع الموسيقى البيضاء سأكون سعيدا أيضا و أصحو: لكم هو جميل وشاعر سريرك أيها الصباح ) ( القصيدة الكونية) أليست هذه انعطافة تترك بيننا لألأة روح الشاعر مرفرفة وهي تحول الغامض إلى واضح، والواضحَ إلى غامض، واليوميَ العابر إلى مدهش تتأنق فظاعاته وتتجَسْدن في فضاء الأحاسيس والصيرورات؟ بهذا الصنيع يُشعل فينا الشاعر فانوسَ الدهشة، ويرشُّ في أطوائنا عطر اللامرئي المستخلص من تخوم الأبدية، فتتسائل: هل هذا التكميم الرائي هو تحرر من الحب؟ أو مراوغة له؟ قد يستطيع الشاعر طه عدنان التحرر من ضغط التاريخ على مشاعره وهويته بأقنعة المكر الفلسفي المبثوت في فجوات لامرئية داخل متنه الشعري، لكن هل هي في مُكنته أن يتحرر من الحب؛ بما هو نفس أونطولوجي؛ حتى و لو أوله وحوله بصورة عامة إلى موضوع من خارجه؟. إن كره الحب الذي يُعلن عنه يتضمن إضمارا ماكرا للحب، تشي به البُنى العميقة لقصائده، وتكشف عنه الأحافير الدلالية للغته، والتلوينات السيميائية و الرمزية المبثوثة بكثافة في أنساق تعابيره. ومن ثمة تسقط قشرة الكره، وينجلي الحب نصا مُترفا بالبعد الإنساني الذاتي القادر على تجاوز أشواك العالم، ومُحبطات الحب. فالحب كلون الدم، موجود بصفته هاته في كل إنسان؛ بقطع النظر عن الجغرافيا والدين والجنس وشكل البشرة؛ مُغرد في حناياه، ولن تحجب تعثراته، وسقوطاته، وخيباته الفظيعة، صورته المضيئةَ للإنسان. و الإخفاق والتدني فيه غير راجع إليه، بل إلى مدى فهم الإنسان له، وتقديره صورته. يرسم طه صورة أسيانة آسرة للإخفاق في الحب، تُشعرك بأن الوجود انطفأ كالشمس، فتتعاطف معه في هذا الكره للحب، وذلك حيث يقول عزيزتي لماذا هاتفكِ المُريب لا يُجيب؟ وصلتُ قبل الموعد بسيجارتين مقهى الأوبرا عارمٌ كما توقعتُ الرّواد متأنقون بشكل زائد.. كبقعة زيتٍ على سترة بيضاءَ أبدو بينهم. أينكِ؟ حتى الشمس كانت بخفَرٍ تُطلّ لتشرق كأسي بين الحين والحين.. فلماذا لم تشرقي بعدُ في وجهي يا نور عيني؟ ... جميلتي بعد بضع كؤوسٍ وسبع سجائر غادرتِ الشمس وأنا أيضاً. ( موعد حب عربي) و إذا لم تشرق الحبيبة في وجهه، فقد أشرقت في أرواحنا نحن حبيبة هي بلاغة النص، وكثافة دواله، ورقرقة إيقاعاته، وهفهفة نسيجه. ولنتأمل هنا هذه الجمل الشعرية المورقة فتنة (وصلت قبل الموعد بسيجارتين، الله يخرب قلبك، بعد بضع كؤوسٍ، وسبع سجائر، غادرتِ الشمس) أي إبدال يمكن أن يؤدي الشحنة التي تؤديها كلمات: سيجارتين، يخرب، كؤوس، سجائر، غادرت؟هل يمكن أن نقول:ساعتين أو دقيقتين مثلا؟ أو نقول: يسكت، بضع ساعات، وسبع دقائق، غابت الشمس؟، وهل هذا سيعطي دلالة عن احتراق الزمن في النفس كما تحترق سيجارة بعد أخرى؟ وعن دخان الترقب والتوتر والانتظار في قعر كأس يملأها الوعد، ويفرغها الإخلاف؟ لا أعتقد ذلك، لأن النص منتسج بإيقاع منفتح على ضفتي الترقب والتوتر، فإذا قرأنا الأشطار الثلاثة الأولى بسكون الحروف الأخيرة فيها أحسسنا بحالة توتر الذات ودورانها حول هواجسها التي تشير إليها كلمة «المريب» ورأينا دواماتها المشابهة لعلامة السكون. أما إذا قرأناها بضم الباء فإننا سنحس بامتداد الزمن، وسنرى مسافة القلق والانتظار منفتحة في وجدان الشاعر كحركة الضم. وامتداد الزمن هذا آت من إمساك النص بمختلف الأزمنة قصد جدلها في لحظة واحدة هي لحظة الحضور الوجداني والنفسي في الموعد. إمساك بالأزمنة وهذا الإمساك بالأزمنة هو من سمات تمرد الشاعر طه عدنان، فتداخل الأزمنة في نصوصه مؤشر على رفض الزمن كبعد أُحادي تنسحق فيه المخيلة والذات والعالم. ولذا نُلفيه يمزج الأزمنة في شعره وفق كيمياءَ لغوية خاصة ومتفردة، فأنت حين تتمعن في أي نص من نصوصه تجده كزنا مكتفيا بذاته، مُنفتلا من ذاكرة النسيان إلى رعشة المستحيل المتوهجة في البعيد الأبعد، وفي فتنة الانهائي. إنه نص لا يخاف المنافسة، لإيغاله في العمق الجمالي العميق للزمن والعالم ز الإنسان، واكتساحه خرائط الذوق السري، مما جعل منه نصا إشكاليا على الصُّعد الموضوعية والشكلية و الإيقاعية. وهذا آت من لعبه الأنيق على أرض اللغة بمكوناتها الطبيعية الأولى غير المحروثة، ومن إخصابه لعجينة شعرية شديدة اللدانة والمرونة والتماسك»ينفتح فيها عقل اللغة التخييلي على إمكانات، وقيم، وظلال، وطيات، وفجوات، تتضاعف فيها الطاقة السميائية والتشكيلية للدَّوال، وتتمظهر في سياق التكوين الشعري و كأنها لغة لا يعرفها سواه» (4). وبهذا الصنيع الشعري يكون طه عدنان قد أسس أفقا جديدا لحضارة المعنى، وما الحضارة إلا رؤى الشعراء التي تُحرك الخيال بواسطة الألفاظ، و الألفاظ دلالاتٌ على تصورات كامنة في أعالي منظومة اللغة، وفي أليافها يعبر عنها الشاعر في رسوم محسوسة تقولها لغة الإبدالات،ولغة المجازات والاستعارات التي لغير الشعر لا تنحاز، بمعنى أن هذه الرسوم هي التحقق الموضوعي و الأونطولوجي للإرادة، وهي الإلحاح الشديدُ على قدوم الوجود في تلك الصور. فنحن إذن إزاء شعر نُدرك فيه التحقق الموضوعي للإرادة والوجود في أعلى درجات التعبير، ومن أراد كما عبر نيتشه « أن يعرف الإنسانية في جوهرها الباطن، في صورتها متحققة ومتطورة باستمرار، فعليه أن يبحث عنها في الشعر. ففيه صورة أكثر أمانة و أعظم وضوحا من تلك التي يعرضها المؤرخون.» (5)صورة متلألئة كما حبات مطر من كوكب آخر. حبات المطر على كوكبنا الرمادي تسقط حبات مطر من كوكب طه الشعري، لتنبت وردة العشق الرهيفةُ فينا ساطعة الخدين. فيا صاحبي من أين يأتيك هذا التوهج الإنساني الموَّارُ بالأبهى؟ أمن معاناتك وتقلبك في ورطة الوجود؟ أم هي المحنة الجماعية وقد تلبست بمحنتك الذاتية في نفسك الشاعرة؟. في التفاصيل الدقيقة غصتَ لترقى باليومي والعابر إلى درجة الكونية، لم يُتعبك الإبحار في المعارف المتضاربة والمتلاطمة والمتناسجة، هاجسك الوصولُ إلى أرض شعرية لا يتنفس فيها غبار الموتى، ولا يُشرق فيها إلا الشعر الذي هو لغة الله المزهرة بأسنى المعارف. الهوامش 1 الموقع الإلكتروني: www.jehat.com 2 الموقع الإلكترونيwww.facebook.com : 3 فريد ريش نيتشه: ديوان نيتشه، ترجمة محمد بن صالح،ط1، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا 2005م، ص:7. 4 محمد صابر عبيد: نجومية محمود درويش طغيان التفاعل الجمهوري، (مجلة الرافد)، الشارقة، العدد 135، ذو القعدة 1429ه/نونبر 2008م، ص:97. 5 ديوان نيتشه، ص: 16. قدمت هذه الورقة في الاحتفاء بديوان أكره الحب للشاعر طه عدنان، المقام بدار الثقافة في مراكش يوم الجعة 26 دجنبر 2008، على الساعة السادسة والنصف مساء.