رحمة به يترك المنصة لمخالب لا تجيد إلا خربشة وجهها، ألسنة تحشو ما يصيبها من فراغ برقَع متنافرة الألوان ينسجم شكلها حين تعدد وتحدد عيوبا خارجها .. يزداد وزن الصمت وهو يقتات من أفواه تلك العيون .. بمشيته الثقيلة ينفخ ريحا في ساق الكلام.. لا يتقن السباحة في رغوة تفكيرهم ..وتجنبا للانزلاق، يفضل الجلوس بين المتفرجين والتصفيق.. لأنه يرى أن المقلق هو أن نضيع فينا وليس في المكان الذي يأوينا كلما سقط تلتقطه الأفواه، من أذن إلى أذن عبر وشوشات ثرثارة تلوك ألسنتها نفس العبارة .. .... « بلغ أرذل العمر، خاوي الوفاض لا دار ولا دوار لم يفلح إلا في شق الطريق إلى زواج أثمر طفلة من زوجته التي لا تتجاوز الثلاثين من عمرها .. كل صباح، وفي طريقي إلى العمل، يشد انتباهي جلوسهما على الرصيف الرمادي البارد، يفترشان قطعة كارتون، جسمها النحيل المغشى بألوان التجاعيد تسنده على جسمه المنهك.. في نفس الاتجاه تتجول أعينهما وهما يمعنان النظر في المارة وفي بعض العصافير المتجمعة أمام الطاحونة (المطحنة) وهي تعزف سمفونيتها الصباحية.. هدوء عذب يلبسهما وإيقاع صمت ثرثار يكاد ينسيني أي اتجاه سأسلك و صورة خالي مْحمد تحضر ني..» وكلي يتأملهما، غيربعيد عن موقف «الشومارا»، يترقب مجيء رزقه، يجلس على أعلى صخرة بالرصيف المترب، بنظراته المتيقظة، رفقة دخان سيجارته الرخيصة، يتأمل طول الشارع النصف النائم، سيارات قليلة تتجول هنا وهناك، جلها سيارات أجرة تستعجل الوصول.. في الجهة المقابلة يلاحظ تواجد مجموعة من النساء، وإن اختلفت ألوان جلابيبهن الباهتة، فلون واحد لا ثاني له يوحد ملامحهن، لون حاجتهن الملحة إلى العمل، جاحظة، عيونهن تروح وتجيء عساها ترمق سيارة لسيد أو سيدة ترغب في إحداهن خادمة، رغم أنهن يفضلن لو أن بيكوب تجمعهن على متنها، وتتوجه بهن نحو أقرب الحقول للعمل هناك، ففي لمتهن نشاط وتحفيز على العمل رغم قسوته.. يشرف على تجاوز عتبة السبعين، الصباغة هي المهنة الوحيدة التي يتقن خالي مْحمد، ومن ممارستها -بعد انتظار طويل بالموقف -يكسب فتات قوت يجمعه فرنكات، يشتري بها ما تيَسَّرَ من زيت وسكر و مسحوق الحليب ..،لاينسى أبدا شراء شيء لوحيدته ذات الثالثة عشر ربيعا «حياة «قبل امتطاء الحافلة المتوجهة إلى تاوريرت، كيف لا وهو كلما صعد السلم وبدأ في صباغة الجدران يقول «فخاطر حياة..» في بداية التسعينات، في ليلة باردة، بعد متابعة نشرة الأخبار المدرجة على الساعة الثامنة، يخبرني خالي مْحمد، ونحن نتحلق حول مائدة العشاء، بغصة غريبة ترافق صوته قائلا: احتميت بحرفة الصباغة هاربا من الجوع وعمري يتجاوز السبعين في وطني، كلي يقين أن صورتي لن تتكرر في جيلكم، بما أن شعاركم، عْسل لْبَلدان ولا قطران بْلادكم.. كما ترون، أسْبح ضدي كي أصل إلي يجب أن أتنكرللسبعين سنة التي أبلغها من العمر، أنا ابن الاربعين، لم تنخر الشيخوخة بعد عظامي، لا، لا مرض يتجول مغرورا بين أضلعي، نعم يجب أن أخاطبني بذلك، أنا ماأزال في ريعان شيخوختي، تبا، أقصد في أوج شبابي.. سأعمل وأعمل سأنتظر رزقي بالموقف وبأي مكان وفي ظل أي زمان، رزق يبعد عن ابنتي حياة موت الحرمان البطيء، ويشعرها بكرامة عشتُها حلما مستحيلا، سأطلي جدرانهم وأسقفهم بما يحلو لهم من ألوان الصباغة، لتشرقين علي وطنا غاب عني ذات غروب.. هذا لسان حاله كلما وضع قدمه على أولى درجات السلم» فخاطر حياة فخاطر غدها وكل أيام مستقبلها..» لا يخاف السقوط لأن حب حياة يقصر الطريق ويطرد الحفر بكثير من الشوق وقليل من الأشياء في حقيبته المُرَقَّعة، يتأبط الطريق، زائرا زوجته وابنته ،نهاية كل شهر. كم يحلو له تجاذب أطراف الحديث ونحن نجتمع بعد تناول وجبة العشاء في بهو البيت ،لم يدخل المدرسة يوما، لكنه اقتحم أصنافا من دروب الحياة الغير المقررة في المدارس والمعاهد، تعلم في فصولها ما لم ندونه في كتاب وما لم نحتفظ به في ذاكرة.. قذفت به مرارة الأيام ليجد نفسه جنديا ضمن الفيالق العسكرية الفرنسية المسخرة لاجتياح لاندوشين «الفيتنام»، شارك في المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار، كان القدر يلاحقه ويحسب خطواته بعتمة الخنادق ودوي الرصاص والبنادق، كان ينتمي إلى فيلق الطليعة لمواجهة(العدو) تحت الوصاية الفرنسية... في مجرى الحديث، قاطعته لأعرب له عن استغرابي من تواجده ضمن جنود الطليعة، قبل إنهاء تساؤلي، بادرني بالجواب: السبب واضح، لا استغراب منه، نحن بالنسبة للفرنسيس دروع بشرية، تواجدنا بالطليعة ليس بطولة منا بل كنا مضطرين ومجبرين على التواجد بالصفوف الأمامية، لتقف أجسادنا حاجزا بينهم وبين رصاص أعدائهم، ههه المشهد لم تتغير تفاصيله كثيرا، ليس هناك فرق بين ما عشته مع الفرنسيس وبين ما أعيشه الآن فأنا أشعر أني لا أزال درعا أدفع صهد الحرمان عن حياة.. هاتف خالي محمد ذو المئة درهم يرن ويقطع حبل دردشتنا، يضغط على الزر الأخضر، يجيب، وبكل تركيز واهتمام يتحدث، ابتسامة عريضة ارتسمت على محياه، لا عهد لي بها، تخللت الحديث.. منشغلة بتتبع سهرة يوم السبت على التلفاز، لم أولي اهتماما بمجرى كلام خالي مْحمد عبر الهاتف الحمد لله، الحمد لله عبارة يرددها بنبرة فرح واضح المعالم، لم أتردد أثناءها في تحويل انتباهي عن سهرة السبت التلفزية، وإطالة النظر إليه وهو يوقف المكالمة مرددا عبارة الحمد والشكر لله بصوته الجهوري، رأفة بفضولي واستجابة لتطلعي إلى معرفة سبب ذلك الفرح البادي على كل حركاته وسكناته، هممت لسؤاله واندهاشي ينتفخ كبالونة محشوة بتدفق الابتسامات على محياه.. مجهضا السؤال في حلقي، ينقل لي البشرى قائلا: لقد بعثوا لي بدعوة من فرنسا مفادها أنهم قرروا ضم بعض أسماء قدماء المحاربين من غير الفرنسيين إلى لائحة المستفيدين من لانتريت، كل ثلاثة أشهر علينا الانتقال إلى هناك للحصول على الخلصة، وعلي الاستعداد للسفر إلى ليون .. أرأيت، هناك لا حاجة لصوت الحق إلى مكبر حتى يُسْمَع.. آه الذكريات ستنبعث من رمادها من جديد حين ألتقي برفاق السلاح هناك، سي علي، المختار، بو جمعة، ..أأحلم أم ما أعيشه واقع، .. فرحة من أجله، أرسم ابتسامة المطمئن على وجهي وصوت فرقة جيل جيلالة ينبعث من التلفاز مزاحما صوتي، يردد: لله ياسفينة فين غادة بنا، حْنا فيك رْهينة؟ ربي كبير خالي محمد، هنيا عليك، هذا ليس بحلم بل واقع جميل سيخلصك إلى الأبد من عبء الانتظار بالموقف و يعتق رقبة حياة من استعباد فتات رائحة الصباغة...