لا زالت بعض الصور الجميلة من الصبا، والحياة الجميلة و البسيطة التي عشتها بطنجة فيما مضى من الأيام، تمر أمام مخيلتي، كلما تذكرت فجأة أنني قطعت شوطا كبيرا في مشوار الحياة، واجتزت مراحل مهمة من العمر، و التي لم تنتهي إلا لتبدأ أخرى، وتستنزف مدتَها أمام سرعة وتيرة العيش التي أصبح يعاني منها البشر، حتى صرنا متيقنين أن اليوم والذي يحسب بأربع وعشرين ساعة غير كاف لانجاز ما يبرمجه المرء في أجندته من مشاغل ومهام... رغم ما يغمرنا به عصرنا الحالي من تسهيلات في وسائل العيش، كالتنقل والاتصال... كلما تذكرت البساطة التي كانت سمة حياتنا - رغم أنني لم أعايش إلا آخر سنة من الستينات - إلا وأحسست بالمرارة ، حيث لم يعد لأي شيء نفس الحلاوة التي كنا نتذوقها ونحن أطفال صغار، عقولنا نقية -لا فارغة- لم تعرف بعد متاعب الحياة ومشاغلها طريقها إلينا. صغار لا شغل لنا غير الأكل والنوم واللعب والاستمتاع بساعة أو نصفها في مشاهدة برنامج مخصص للصغار على التلفاز. لم يكن التلفاز في بيوت كل الجيران، لكن كل بيوت الجيران كانت بيوتنا، وكل الجيران كانوا أمهاتنا وآباؤنا. كان التلفاز بالأبيض والأسود، وكان من فرحنا يتحوله إلى ذو ألوان. كنا نرى الألوان في الرسوم المتحركة، و فقرات الإشهار، أما نشرات الأخبار الطويلة و المملة، فكانت طبعاً بالأسود مع بعض الأبيض. ورغم محدودية برامجه، إلا أننا كنا نحتسب الساعات لمتابعة ما يخصنا، والكبار كانوا يحتسبون الوقت أيضا، فأحيانا كنت أسمع أن الناس سيسهرون بإحدى المقاهي، وخصوصا في شارع المكسيك و المصلى، لليتابعوا مقابلة في الملاكمة،ستجمع محمد علي كلاي بفرايزر أو فورمان، وستعمل القناة الإسبانية الأولى على نقلها مباشرة، و طبعا لم تكن أغلب البيوت تمتلك الهوائيات لالتقاطها. كان الوقت كافيا لكل شيء. الأطفال يقضون يومهم في الأزقة يلعبون حتى يتعبون، والآباء والأمهات يلتقون ويتذاكرون ويتناقشون، ولا يوجد في البيت ما يستنزف الوقت إلا من ذلك المذياع الخشبي، الذي كان يتحفنا بموسيقى عبد الوهاب أو أم كلثوم، أو إحدى الأغاني المغربية الكلاسيكية الجميلة، والتي كانت تطول مدتها كطول تلك الأيام، خلافا لأغاني اليوم والتي أصاب البعض في تسميتها بأغاني "الكوكوت مينوت" لقصر مدتها. كنا نصحب آباءنا في خرجات للتجول بين أزقة المدينة القديمة، وهم يحدثوننا عن المآثر التي تختزنها بين جنباتها، القصبة، باب البحر، باب العصا، ضريح ابن بطوطة... يروون لنا حكايات بعض المباني، وقصصا عاشوها أيام الاحتلال، وأبطالها من رجالات المدينة، وطبعا بأسلوب قصصي طفولي. كانت من أجمل اللحظات تلك التي كنا نركب فيها على متن الحافلة الزرقاء، لتنقلنا إلى "عشابة" أو"الرميلات"، حيث كنا نقضي أياما من عطلة فصل الربيع بين الجري و الأرجوحة، وتناول وجبات من طاجين السمك المطهي على الحطب. وكان أجمل يوم أتذكره عن الصبا هو يوم الجمعة ، حيث تعطل المدارس فاسحة المجال أمامنا للتوجه إلى المساجد أسوة بآبائنا، وما يليه من تناول الكسكس صحبة العائلة. أما اليوم فلم يعد يوم الجمعة عطلة، ولم تعد الأمهات تحبذن فيه طهي الكسكس، لأن الأسرة لا تجتمع حول المائدة وقت الغذاء. لم نعد نخرج إلى المنتزهات، لأنها انقرضت والتهمها الاسمنت والأجور، ولم يعد أحد يحب ركوب الحافلات، فهي لم تعد آمنة كما عهدناها من التحرش والسرقة... لم يعد الوقت كافيا أمام الآباء لاصطحاب أبنائهم والتجوال معهم، وأنا على يقين أن العديد من أبناء المدينة اليوم لا يعرفون شيئا عن تاريخها وبناياتها و مآثرها. لم يعد أحد ينصت إلى المذياع فقد اغتصب التلفاز حظه من الوقت، وداهمته الفضائيات التي أصبحت تعد بالآلاف، وأصبح معها المشاهد تائها في عالم يتحكم فيه "بالريموت كونترول" حتى لم يعد الوقت يسمح للآباء بالجلوس مع أبنائهم ومتابعتهم تربويا ودراسيا، ولم تعد الأمهات قادرات على ممارسة فن الطرز والخياطة وغزل الصوف.. كما كن يفعلن من قبل. فقد أصبحن يتنقلن بين تركيا والمكسيك و الهند، عبر مسلسلات طغت على حياتهن اليومية وطرق عيشهن، فصرنا نتجول في الشارع لا نفرق بين "فاطمة" و "روزاليطا". أشياء كثيرة لم تعد كما كانت هنا وهناك، ولست أدري إن كانت نظرتي إلى مدينتي قد تغيرت بفعل عامل السن، أم أن طبيعتها تبدلت بالفعل، فأحياء طنجة الجميلة و الآمنة صارت مهمشة ومخيفة، وخارجة عن التغطية (الحضارية والأمنية)،سور المعكازين أوما يسمي بساحة فارو، والذي كنا نعتبره شرفة البيت الطنجاوي المطل على الميناء والبحر، أصبح مرتعا للمتسكعين والحالمين بمعانقة الضفة الأخرى، المدينة القديمة هرمت وبرزت على محياها تجاعيد الشيخوخة. طنجة اليوم تعيش حالة من الرفاهية المغشوشة والمزيفة، كازينو، فنادق فخمة، سيارات فاخرة، مراقص و ملاهي في كل مكان، أحياء راقية، أبراج شاهقة، ومطاعم تركية أمريكية و تايلاندية...و بجانب كل هذا، مستنقعات للجرائم، و المخدرات، والفقر، والتهميش، والبؤس...هذا ما يراه أبناؤنا اليوم، و هنا يقضون صباهم، فهل سيتذكرون في مستقبلهم صورا جميلة كالتي نتذكر؟