في زمنٍ تعجز فيه الكلمات عن وصف المآسي، اختار الطبيب المغربي أيوب أمغار طبيب متخصص في النساء والتوليد أن يحول تعاطفه مع الشعب الفلسطيني إلى فعل، ويشدّ الرحال إلى قطاع غزة، حيث الموت يترصد الجميع، بين أصوات القصف وأروقة المستشفيات المنهكة، حكى لنا تفاصيل تجربته التي هزت وجدانه، ووثقت جانبا من معاناة لم تنقلها الكاميرات. ما الذي دفعك إلى اتخاذ قرار الذهاب إلى غزة في ظل الظروف الإنسانية المعقدة هناك؟ بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله. كان الدافع الأول هو الوقوف إلى جانب إخوتنا في فلسطين، والمساهمة في سد الخصاص الكبير في الكوادر الطبية الذي يعاني منه قطاع غزة خاصة بعد استشهاد عدد مهم من الأطر الصحية في القصف. أما الدافع الثاني، فتمثل في مؤازرة زملائنا الأطباء والعاملين في المجال الصحي هناك، وفك العزلة النفسية والمهنية التي يعيشونها جراء الحصار والظروف القاسية، لأن مجرد تواجدنا معهم يمثل دعما رمزيا ومعنويا كبيرا. كيف كانت لحظة دخولك إلى غزة؟ وما الذي صدمك إنسانيا عند وصولك؟ كانت لحظة اختلطت فيها المشاعر بشكل لا يوصف. فرحة غامرة لأن حلم زيارة فلسطين رافقني منذ الطفولة، وحزن عميق لما رأيته من دمار وخراب يفوق كل ما نقلته وسائل الإعلام. مشاهد الانقاض المنتشرة في كل مكان تشعرك أنك تدخل مدينة ضربها زلزال لا يرحم. إنسانياً، لم أكن مستعدا لما رأيت رغم كل ما سمعته وشاهدته سابقا. ما هي المشاهد أو المواقف التي لا تزال عالقة في ذهنك؟ منذ اللحظة الأولى، صدمني مشهد الأطفال المشردين بملابس ممزقة ومتسخة، وهم يلوحون بحماس لحافلة منظمة الصحة التي كانت تقلنا. كانت أعينهم مليئة بالبراءة لكن أيضا بالمعاناة. عشت هناك عشرة أيام خلال فترة الهدنة، وعشرة أيام تحت نيران الحرب. صوت القصف لا يشبه شيئا مما سمعته من قبل. كان يبدأ عادة في الواحدة والنصف ليلا ويستمر حتى الصباح. انفجارات الطائرات الحربية F16 تحدث صوتا أشبه بانشقاق السماء، كأنها تسقط على رؤوس الناس. مشاهد لن أنساها ما حييت. حدثنا عن طبيعة العمل الطبي الذي قمت به هناك. هل واجهت صعوبات؟ بحمد الله، قمت بواجبي كطبيب سواء في غرف العمليات أو أقسام المستعجلات. لكن الواقع الطبي كارثي، لا معدات، لا أدوية، كل ما لدينا مجرد وسائل بدائية لمحاولة ترميم الجراح. على سبيل المثال، لم تكن هناك بلاسم خاصة بالحروق، فتم تعويضها بالماء فقط. الضمادات المتخصصة كانت غائبة تماما، فنلجأ إلى استعمال ضمادات عادية. وحتى التيار الكهربائي كان ينقطع أحيانا أثناء العمليات الجراحية، وهو ما يجعل حياة المريض والطبيب على حد سواء على المحك. هل صادفت حالات طبية لم تكن تتوقعها؟ نعم، بشكل يفوق الخيال جرحى القصف يصلون في حالات لا يمكن تصورها: أطراف ممزقة، أجساد متفحمة، ورائحة الدم ممزوجة بالبارود. كل شيء هناك يروي قصة مأساة. كيف أثرت هذه التجربة في نظرتك للحياة؟ أدركت من خلال هذه التجربة أن أهل غزة يستمدون قوتهم من تماسكهم العائلي والاجتماعي. العائلة هناك تلعب دورا محوريا في الدعم النفسي والمادي والإخوة يعتنون ببعضهم في ظل الغياب التام لمقومات الحياة. تعلمت أن الصبر ليس مجرد فضيلة بل أسلوب حياة في مواجهة الموت اليومي. ما رسالتك إلى المغاربة، خصوصا الأطر الصحية، لدعم القضية الفلسطينية؟ رسالتي واضحة وصادقة: لا تترددوا في الذهاب إلى غزة إذا أتيحت لكم الفرصة. حضوركم هناك ليس مجرد عمل طبي، بل رسالة إنسانية نبيلة لها أثر كبير في نفوس أهل القطاع. هم يقدرون وجودنا معهم ويفرحون به بشكل لا يمكن تخيله الدعم المعنوي والمشاركة بالخبرات لهما وقع عميق لا يعلمه إلا من عايش هذا الواقع عن قرب.