كنت سأبدأ كلامي بالحديث عن أقواس النصر، مادام ارتباط ذاكرتي بقوس النصر الذي يتربّع مشهد المدينة الأثرية وليلي. لكنني، وأنا أقف في انتظارٍ ما، قبالة قوس من أقواس مدينة مكناس، وسيكون هذا القوس هو باب الجديد، وأنا أرى وضع الآثار الذي لا يروق كل حين للتأمل، وجدتُني أعكس نفسية الخلائق على الآثار، فكان الانطباع الذي سيجمع بين نفسية الإنسان والعمران. لاحظت زحف دكاكين التجارة وبراريكها على جنبات القوس ومدخل عبوره. بالكاد حافظ على الترميم الذي يحافظ على نصف استدارته وتقوّسه. لكنها الجنبات التي تآكلت مثلما تآكلت جنبات كثيرة. وبدأت في التخيّل. تخيّلتُ دخول السلاطين والفاتحين، وقوف الجماهير التي ستحيّي وتركع وتبجل. وكان التخيّل استحضارا لمرويات التاريخ. تخيّلت تنفيذ قرارات الإعدام أو الصلب أو أشكال العقوبات التي ستنزل على أصحابها. وأسعفتني المشاهد السينمائية في تصوير نفسيات الشخصيات والأدوار. وتخيّلتُ الرؤوس المقطوعة وهي تنصب أو تعلّق على جدار أو عمود، وتبقى لمدة عبرة وتأريخا وتقريعا. تخيّلت كيف ستتعدّد الروايات والتأويلات لأهل كل عصر، وكيف سيؤثر السياسي والنفسي والثقافي والاجتماعي وغيرها من أشكال التأثير في برمجة الحكي والموقف والرأي… تمر السنون والقرون وتجد الإنسان المغربي مثلا مخترقا ظلال القوس والممرات المرتبطة به. تأتيه التسمية والذكرى والمرويات حولها. ما يزال فعل العمران وارتباطه بالاجتماع حاضرا في التأثير. المدينة كبيرة وأقواسها مثل أسوارها عديدة. أما وظائفها فقد ارتبطت بأحوال الناس ومعاشهم ومواقعهم. فهذه باب الجديد، وأخرى باب بردعيين أو باب الخميس أو باب تيزيمي أو باب تازة أو غيرها… قد يعود الاسم لاتجاه الدخول للمسافرين والوافدين من التجار ولجهة الذهاب والإياب. وقد يعود للحرفيين والمهنيين، لكن المقارنة مثلا بين باب منصور العلج وباب الجديد تعطي المفارقة. الأول بُني واجهة لقصر وإقامة ومحيط الحاكم في عصره، وكان المهندس علجا ممن أسلموا بعد أن أُسروا. وكان غاية في البهاء والروعة والشموخ، وبقي إلى يومنا هذا مرتبطا بالمدينة تاريخيا وسياحيا وثقافيا… الثاني، ارتبط بالحرفيين وبالجهة الجانبية للمدينة حيث الانحدار جهة البساتين وأحواض الزراعة.. لعله كلما كان الابتعاد عن المركز كان الاقتراب من الهامش المهمّش والبعيد في الاستفادة من رغد العيش… ربما المفارقة عادية ما دام التاريخ الواقعي للشعوب مرتبط بهذه المتناقضات والجدليات وشيفرات حركيتها الصراعية كما الخضوعية، التبعية كما الاستلابية… وربما لامفارقة قد ألاحظها في سلوك باطني تترجمه حركة الأيادي التي تنقش على جدار الأقواس والأسوار… فكل باب تقف بعلوها وثقلها وثباتها، ترفض تغيير ذاكرة وظيفتها على الأقل. وكل ذاكرة بشرية يستمر قهرها وتستمر معاناتها، تجد في طعن الباب والقوس والسور بمسمار أو رمي بأزبال أو استعمال لأغراض خاصة جدا، ربما تنقر على جدار الزمن الذي ولّى، وتذّكره بأنه طغى، أن رآه استغنى، وها قد ولّى، فلم تعدْ له ذكرى… لكن وقوف شخص ثمل وتبوّله على جوانب العمران المذكور أو استلقاءه نصف منطوٍ على أرضيته، قد تحمل دلالات وعبارات إشارية. قد تنفلت الذكرى من اللاشعوري واللا محكي من الروايات، من ذلك المسكوت عنه الذي تحرسه رقابة الخوف وغيلان القهر في كل خطاب وكل قصة وضمن كل أسطورة متوّجة بالدمج بين الفناء والخلود، قد يكون ذلك الثمل هو القادر على طرحها والبوح بها. وقد تمرّ امرأة مسنة فتتعوذ بالله مما سمعت وتستغفر لنا وله ما صدر وتدعو له بالعفو والتجاوز… شِقٌّ منها يبرّر له ويعذره ويرافع لصالحه، وشق آخر يستنكر هذا التطاول على المجهول المقدس والمخيف والمرعب والقاهر… وقد يكون الشق الثاني مركبًا داخليا، قاهرا ومراقبا لكل محاولة انفلات داخل البنية النفسية والشعورية وذهنية التفكير… شق بارع في إحكام الإغلاق لكل أفق فلا خيال إلا داخل مرويات الأساطير القديمة، ولا مفاتيح سوى ما ستجتهد به لفك ألغازها التي ترفض سواها منطقا واحتمالا وخيالا وإمكانا… هكذا يمكننا القول بأن الإنسان مسكون بلغة الجن والعفاريت بإطار هذا العمران وهذه الثقافة، مستلب بوقعها المستمر في جهله وفقره وقهره… قد يجرؤ على إشعال نار للتدفئة او لطهو طنجرته المشتهاة بما فضل من خضر وفواكه السوق أو بما تبرّع عليه التجار به من توابل وقطاني أو مما جمعه من قمامات الدنيا الشاهدة على نعمها التي لا تفنى إلا في بطن هذا المقهور المنسي الرابض بجوار الأقواس والأسوار والعابر بين دروبها وساحاتها الصامتة على معاناة ورثها من أجيال وقرون قديمة. وقد يرافع المكان كما الأثر كما العمران، فيذكّر بما مضى وما سيأتي من لحظات فرح عابرة للقوس. كم من موكب ختان، وكم من هودج عروس وأهازيج ولحن ورقص فتان، وكم من طبل ساير إيقاعه صاحب مزمار او غيطة و قرقبة فارتعشت الأجساد حركة، وفرح الصغار والكبار… هذه الأقواس شاهدة على كم من أسرار، كم من ممنوع فار، وكم من عشق أو سحر وتعويذة متسلّلة بالليل قبل النهار.. الآن باب الجديد احتلت شرف احتواء ضريح الشيخ الكامل في جوارها محتضنة مقابر المسلمين ومشرفة عليها، كما موسم الشيخ الكامل بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف… وقد يرافع مكان آخر غير بعيد عنه، فيشتكي من روح انتقام عبثية لمجرد كونه صناعة رومية وليست محلية تقليدية، وكأنه سبب تخلّفنا وتأخرنا… اغتيلت قاعات سينما ومسارح فيه والبقية في لائحة اللاشعور والمبطن من احتقان… وقد تستمر الحكاية في التخيّل فلا تجد لها مقاما للذكر هنا لتغلَق الصفحة مع نقطتها اللانهائية.