المدينة كما يعيشها الكاتب، تختلف عن المدينة كما يعيشها الإنسان العادي. إنه يعيشها إبداعيا إذا صحّ التعبير. يعيشها باعتبارها تاريخا مكتوبا، وأتوبوغرافيا ونصّا منفتحا على كل الاحتمالات. في هذا الملف، نستحضر مدنا مغربية مختلفة يتحدث عنها أبناؤها من الكتّاب. المدينة عند الكاتب تاريخ وجداني وعلاقة عاطفية تتمظهر في شكل قصيدة أحيانا، وفي شكل محكيّ سردي أو استحضارات تتأبّي على التجنيس لا تأخذ بالاعتبار سوى ما تستحضره الذاكرة عن طفولة في علاقتها بالفضاء المتحوّل. 1-تطوان: المدينةالبيضاء المتناقضات: عن مدينة تطوان كتب كل من القاصة فاطمة الزهراء الرغيوي، والفنان سعيد الشقيري والقاص عماد الورداني والناقد والمترجم عبد اللطيف البازي. فالرغيوي عادت إلى أواخر يوليوز من سنة 1996، السنة التي أتت فيها لتستقر في مدينة تطوان. إلى غاية هذا التاريخ لم تكنن تعرف من هذه المدينة غير محطة الحافلات التي توقفت فيها مرتين أو ثلاث قبل حوالي عشر سنوات في إيابها الصيفي رفقة أسرتها إلى قريتها الصغيرة «إمجزن». تعرفت سريعا على مدينة تستحم بماء المطر في بدايات غشت، فتجعل الباحثين عن البحر يقتنون مظلة بدل الشمسية التي كان من المفترض أن تقيهم أشعة الشمس في شواطئ مرتيل والمضيق والفنيدق. ثم بعد ذلك تعودت على ضجيج المدينة، هي القادمة من ضيعة فلاحية صغيرة على أطراف العرائش. في تطوان، تقول فاطمة الزهراء، لم تجد اللكوس ولا البحر في الأفق غربا من نافذتها ولا نقيق الضفادع وهو يخبرنها بقدوم الليل. الضجيج في الحمامة البيضاء مختلف: عبور السيارات، همس البيوت المغلقة، ضحكُ المراهقين المتجمعين في ركن الشارع... المدينة ثقل كبير بالنسبة للقروية التي بداخلها، وهو الأمر الذي لا يبدو أنه سيتغير في أي مدينة ستزورها لاحقا، لأن اشتياقها لشجرة اللوز التي كانت تداعب نافذتها في ضيعة العرائش لا يضاهيه إلا اشتياقها لشجرة التين التي كانت تتربع على ساحة البيت الذي ولدت فيه في «إمجرن». لكن هذا الشوق المتشبع بالحنين إلى الطفولة، لم يكن ليمنعنها من خلق ألفة مع تطوان، المدينة التي تنظر إلى البحر وتلقي إليه بالتحية لكنها أبدا لا تبلل قدميها فيه. في تطوان تعلمت الرغيوي أن تحب الجغرافيا التي تجعلها من أمام «باب الصعيدة» مثلا تطل على مرتيل والمتوسطي، ومن «الشلال» تعاين شغب جبل «غرغيز «وهو يصر على عناق حار لغيوم الشرقي حتى أتمثل في عناقهما المثل الإفريقي: عندما تمارس الفيلة الحب، يعاني النمل. الطقس في تطوان يمارس معارضة دائمة على السياسيين الذين يحبون التشابه، فينفلت من التوقعات ليثبت عكسها. وهذا سبب كافي بالنسبة إلها لكي تحب هذه المدينة. منذ سنتين أو ثلاث، أصبحت قاصة العرائش مثل التطوانيين تشكو من هواء أو رياح الشرقي التي تصيبها بألم خفيف في الرأس. ومثلهم أصبحت تتأفف من ثقل السياح وهم يحاولون استكشاف المدينة وشواطئها القريبة. هل سكنها هذا المكان، هي المتعففة من العلاقات الدائمة؟ أما القاص والتشكيلي سعيد الشقيري فيتساءل: ماذا تعني تطوان؟ للإجابة يكتب:» أعتقد أن مكان نشأة أي إنسان يترك، بالطبيعة، أثرا دامغا في ذاكرته وثقافته وهويته. وكلما تجدَّر الدم والقبور في المكان كلما امتدت ذاكرته وثقافته وهويته فيه. وحين فتحنا أعيننا في مدينة تطوان، لم يكن هناك بد من العيش مع طبيعتها، بجبالها الصلدة الشاهقة، وجنانها الفتانة، وشطآنها التي كم كانت تستجيب لطيشنا الحالم. ومع السنين، ظلت تكبر فينا الدهشة أمام التشويق المستمر الذي تخلقه فينا الأسوار ومعمار الدروب والأقواس وآثار الضوء والأنفاس والحكايات، وحركة الأرواح. ومن هناك إلى ساحة الفدان، إلى مسرح مونومينطال، إلى المكتبة العامة والمحفوظات، إلى دار الشباب المدينة، والمقاهي ودور السينما، تشكلت حياتنا. وكنا بقدر ما نفرح ونلهو، نحلم بأن نكون أحسن. وحيثما ولينا كانت هناك فنون أو رياضة أو أدب. لذلك كنا لما نحلم كيف نكون أحسن، نمارس حلمنا بالرياضة والفنون والأدب، لتكون اقتراحاتنا أحسن وأجمل، وفيها حب. نفعل ذلك مع الناس وفي لقاءاتنا الخاصة والعامة في الدروب والقاعات والنزهات والبيوت. وحين جعنا وضاقت بنا الحال، صرخنا. صرخنا كما يجب لكريم أن يصرخ.» يضيف الشقيري وهو يحفر في ذاكرة الحمامة البيضاء باحثا دائما عن سؤال: ماذا تعني تطوان؟ ولماذا جاء إليها «بعد ذلك، شاع الخبر. شاع أن الحياة بتطوان أرخص، وبها فرص وافرة للحياة، وأن أهلها تقليديون مائعون كسالى كثيرو الكلام (فنيانين) لا يقوون على العمل. وفي ظرف عشرين سنة فقط كانوا قد جاءوا. جاءوا كلهم. هدموا ساحة الفدان أولا. وانطلقوا في التجارة والبناء والخدمات والإدارة والسياسة والفنون والمجتمع المدني والثقافة، بما فيها التاريخ نفسه، تولوا إعادة كتابته. فعلوا كل ذلك كل بطريقته. وفي نهاية كل عام صاروا يصدرون لائحة بشخصيات السنة، في الثقافة والسياسة والعلوم والرياضة والفنون. مع أن الكل يعرف أن تطوان صارت ضامرة الهوية، وبلا شخصية.» لكن الفنان الشاعري فوجئ بأنه في ظرف عشرين سنة سقطت عشرات الآلاف من مكعبات إسمنتية، وغطت مساحات شاسعة من تلال نواهد وروابي خضراء وسهول، وطمرتها، ومعها العرعار والطرو والتين والصفصاف. وفي الليل صارت تصعد أضواء باهرة في شارع الجيش الملكي تنير المدينة كلها. وحيثما كنت فيها، بإمكانك أن ترى أشخاصا يمرون وآخرين لابثين، وآخرين يشهرون سيوفا وسكاكين، وترى أردافا وعاهات وضحكات وأشغال بناء ليلية. وترى أن الحياة تنغل في المدينة بلا توقف، وترى كل شيء. لكنك لن تستطيع أن ترى شخصا واحدا يقرأ، لن ترى عازفا في الشارع، ولا فنانين تشكيليين يجوبون أرجاء المدينة يستلهمون خطوط معمارها ويرسمون على جدرانها التاريخ والقيم. القاص عماد الورداني له هو الآخر حكاية مع تطوان. يكتب:» لا أعرف سر تلك اللحظة الغامضة التي جعلتني أتعلق بوهم جميل، اسمه الكتابة، أذكر أنني لطالما أغرمت بالحكاية وتفاصيلها، أتابعها وهي تمشي في الحارات الضيقة، والشوارع الفسيحة، أراقها وهي ترقص، أو تسبح، أو تنام.. دون أن أقرر، وجدتني أقلد حكايات الآخرين تلك التي فتحت أفقا شاسعا في ذاكرتي الصغيرة، وجدتني متورطا في حكاية مدينة وديعة اسمه «تطوان»، تنام باكرا، لأن حلمها حكاية نهرية، فإنها لا تأبى النهوض إلا في ساعات متأخرة. لطالما باغثت مدينتي في ليالي الخريف متلصصا على ابتسامتها البريئة.. لطالما سعيت لاكتشاف وجهها المخبوء، لم تكن تغريني ملامحها الصارمة التي تحتاج لقهوة سوداء بقليل من «لاموند»، لتطرد حالة الكآبة». ويضيف:»حينما تألف المكان تتصالح معه، تعامله برومانسية مسكونة بالحنين.. أن تصالح مدينتك حتما تظل قابعا في ظاهرها الصارم، أما حينما تصطدم بدروبها وحاراتها وسكانها، وتشكك في صرامتها المصطنعة، فالمكان يستدعيك لتسافر فيه بحثا عن أجوبة لأسئلتك المحرجة.. كل سؤال يقودك إلى حكاية مؤجلة، كلما اعتقدت أنك وصلت إلى جواب شاف يبدد حيرتك، كلما كبرت الشكوك، وغصت في بياض مدينتك لعلها تسفر عن وجهها المخبوء». وفي الأخير يعترف الورداني أنه انهزم وهو يعارك أسرار المدينة، فحول أسئلته الحارقة إلى حكايات، تحاور لحظات ضبابية جمعته بمكان أو موقف أو وجه أو سؤال.. لحظات يتدحرج داخلها كي يتخلص من ثقل الزمن بتلويناته المتعددة. «إن المكان لا يتخذ بعده الوجودي إلا في حالة تأزيمه، فخلق الأزمة كفيل بفهم اختلاف مدننا التي نجزم أنها تشبهنا» الناقد السينمائي والمترجم عبد اللطيف البازي اختار «تشريح الألفة»:»إن انجذابنا نحو مدينة ما وتعلقنا غير العقلاني بها أحيانا غالبا ما يجدان مبرراتهما الأساس في طور الطفولة، لذا تجد أن المدينة، بحروف التاج، بالنسبة للغالبية العظمى من الأفراد هي تلك التي احتضنت ولادتهم، مسقط رأسهم والقلب في الآن نفسه. لذا يخفق قلبنا حينما نسمع اسم مدينتنا ونحن بعيدون عنها ونحس بزهو وفخر أو بانزعاج و انقباض بحسب الأوصاف والأحكام التي تلحق بها، و تجدنا، وكأن الأمر يتعلق بواجب أخلاقي شبه مقدس، ننتصر لها في مختلف السياقات والمحافل رغم اننا حينما نغادر قسرا بطن أمنا الخصب المضياف فإننا نفعل واضعين نصب أعيننا الكون بأسره ورغم ان الصدفة وحدها هي التي تقرر أن تجعل من حيز محدد «مكان ازديادنا» كما يرد ذلك في الوثائق الرسمية التي تخفي بالتأكيد نيات مريبة». ولد البازي بمدينة تطوان، وأقرب الصديقات والأصدقاء إلى قلبي هم من هذه المدينة التي حينما يغادرها لمدة قد تطول فإنه أشتاق إليها اشتياقا وصفه ب «الغريزي». يكتب:» مدينتي هي جماع ذكريات،الضوء الأول، ألم الختان، طعم الصداقة الاولى واكتشاف معنى الإقتسام، هي ذاك الموعد الذي أخلفته جارتك الساحرة، وهي الصفعة الظالمة التي تلقيتها من معلمة احترفت الصرامة ، والعراك الذي ترغب في نسيانه والذي فرض عليك و بدا لك أنك خرجت منه منتصرا،وهي ذكرى صديقك القروي الخجول الذي كنت تدعوه ليشاركك غذاءك المتواضع وأنت مسرور بشكل لا تتمكن من إدراك كنهه. علمتني مدينتي، بشكل مبكر وبكل تلقائية، معنى الإنفتاح، و أن الآخر هو جزء محوري من وجودنا و أن «الأجنبي» «الغريب» يشبهنا في الأساسي من تفاصيل حياتنا، ففي الشارع العمومي كنت تجد سحنات شمالية وأخرى إسبانية، كما أن اللغتين العربية والإسبانية كانتا تتجاوران وتتداخلان وتغنيان بعضهما البعض. وكنت أعيش وضعا خاصا ذلك أن أسرتي كانت تقطن بعمارة كل سكانها من الإسبان مع ما كان يعنيه ذلك من تواد وتنافس وحب استطلاع. وقبل ذلك، كنا نعيش بحي باريو مالكا الشعبي «الأسطوري» بطيبوبة سكانه و غلظة فتواته والذي جعل منه الأديب محمد أنقار موضوع ومدار رواية جذابة. وبهذه الحارة تحديدا شاهدت أولى افلامي بسينما «فيكتوريا» التي تعاني اليوم من الوهن ومن جشع مالكيها.» 2-الجديدة، أزمور، أو حكايات «أبواب المدينة»: للناقد والروائي صدوق نور الدين حكاية مع مدينته «آزمور»، المدينة حيث رأى فيها الطفل نور الدين مالا يُرى. هنا يتذكر نور الدين رواية إلياس خوري «أبواب المدينة»، يقول في نصه البالغ الدلالة: ل»م يكن إلياس خوري يدرك بخياله النبيه،وقد يكون، أنه وهو يحكي حكاية «أبواب المدينة»، بأن مدينة تاريخية تتوسد ركبة الأطلسي، ستمحو نسيانها معلنة في وله الصمت بأن خيط الحكاية يتناسل والموت.موت الحدث في ماضيه وانبثاقه في اللحظة الإبداعية بما هي الحياة. أدار إلياس خوري حلزونية الحكاية عن»أبواب المدينة» هنالك، حيث تفضي حكاية الباب لباب الحكاية. وهنا في»أبواب المدينة»، سنستدعي في هذا البياض الطويل حكاية «أبوابنا السبعة»في محاولة للملمة تفاصيل مهما جهدنا في رتق فتوقها، تنلفت كرمل بين الأصابع. وحده الخيال يخلق، ويتخلق.». لم يكتف صاحب رواية «مريض الرواية» بتذكر إلياس خوري «أبواب المدينة»، بل آزمور هي مدينة تكاد تحيل على كل شخصيات التاريخ، ومنهم «لطفي السيد وطربوشه»، عن ذلك يكتب نور الدين: «يذكر بأن الحكاية انبثقت قريبا من هنا.قريبا حيث ينام»ابن حمديس»، وعينه اليمنى تحرس أبجدية تتعثر في خطوها. فمن الباب الخلفي الصغير المفتوح على الأخضر ورائحة أم الربيع، تجرح الصمت خشخشة أقدامهم الصغيرة.لم تكن خشخشة الأوراق الذهبية المنثورة بيد الغيب على رصيف موسكو، بحثا عن قافية يرتبها خيال بوشكين أو مدلشتام. وإنما،هي خشخشة لبست براءة زمنها ومندورة لعفوية وتلقائية أخطأت القافية يومها، ليبعثها جلال اللحظة. هي الحكاية الحياة والموت، الموت والحياة. ومن الباب إلى، تستيقظ المحفظات والدفاتر والحبر الأزرق والريشة والحرف وطربوش لطفي السيد السالت خيوطه الرقيقة الدقيقة السوداء في الخلف على أحمر، فبانت كما لو أنها ستار يزاح/ سيزاح.ينام الطربوش على رأس الشيخ عبد الحي. وحده من علم المدينة المنسية حتى في جغرافيا أحوال الطقس، أبجدية اللغة وفن الحكي. وبعيدا يغازل الفنان الصامت لونا ضاع على سند لوحة». ثم انبثقت الحكاية قريبا من هنا. أما الكاتب والصحفي محمد مستقيم، ابن مدينة الجديدة فتذكر الملاح وذكرياته. كتب في نص عنوانه:» محكيات الملاح»:» محكيات الملاح هي أصداء من حكايات كثيرة تجدد أسوار المدينة المهدومة وتضرب بجذورها في العمق الحضاري لهذه الأمكنة المجاورة للأقيانوس العظيم، والتي تختلط تحت أديمها المياه المالحة بمياه الأمطار البعيدة. كل جزء من هذه الأمكنة يحكي تاريخه: البيوت العتيقة، الأبواب الخشبية، أبراج الملاح، الجدران الصامدة،دكاكين القيسارية القديمة فوانيس الأزقة الضيقة،سكون مقابر الميعارة، حيث المغربي اليهودي البسيط يكد من أجل رزقه اليومي ويحمل تحت جوانحه تاريخا حقيقيا لهذه الأرض التي يستمد منها هويته ومنها ينسج حكاياته التي لا تعترف بالحدود الفاصلة بين ماهو شخصي وماهو عام ومشترك بين الآخرين. فوق ترابها يعيش الإنسان مع الإنسان مهما كان الاختلاف بينهما عقائديا كان أم سياسيا.بين هذه السوار تختلط فرحة الأطفال بأعياد هؤلاء السكان الأصليون الذين لم يحسوا يوما بأنهم جالية مهاجرة . هم أبناء المدينة وأبناء الحي البرتغالي القديم الذي كان ولايزال قبلة لكل من يسعى لقراءة مابين الطوب والإسمنت من تفاصيل الحياة اليومية المشتركة لأبناء هذه المدينة العميقة.من منا لايتذكر «القابلة» اليهودية الشهيرة التي كانت تولد نساء الحي يهوديات ومسلمات. ومن منا من لايتذكر تبادل الأمهات إرضاع الأطفال بغض النظر عن العقيدة والدين فيكبر الإخوة ?من الرضاعة يهود ومسلمين- وكأنهم من أم واحدة.ويتذكر العائلات المغربية اليهودية التي اشتهرت بالمدينة بمختلف الحرف والمهن التقليدية والمعاصرة من نجارة وصباغة وجزارة وصيدلة ومحاماة وتدريس... عائلات: أبيطبول، عمار، عاقوقا، أسيدو، بنساهل، الباز، بن عطار، بنسيمون،فاراشي، ناهون، لاريدو،عوباديا،الرويمي، وغيرها من الأسماء التي لازالت محفورة في ذاكرة الجديديين بمختلف الأعمار». الملاح بالنسبة لمستقيم مكان تستمر فيه فرحة الأطفال من عيد إلى آخر ففي عيد» دجاجة للراس» يقوم الحزان بذبح دجاجة لكل فرد من أفراد العائلة وباسمه، كأن يقول مثلا: هذه ذبيحة فلان وهذه ذبيحة فلانة، فيعدون الكسكس على الطريقة الدكالية الأصيلة وعند مجيء المغرب يطفئون الأضواء ويصومون الليل كله واليوم الموالي إلى حدود المغرب، وإذا حدث أن أشعل أحدهم المصباح أو الشمعة خطأ أو سهوا فإنه لا يطفئه حتى تنتهي طقوس الصيام. حيث يذهبون على الكنيس (الكائن بساحة عبد الكريم الخطابي حاليا) هناك يجتمع الصائمون فيعلنون عن انتهاء الصيام عن طريق الصوفار(النفار) فيبدأ الفطور بماء الحياة ثم الشاي أو القهوة والحلويات ثم تناول:»وجبة الدجاج بالسميد»، وهي الأكلة المفضلة والشائعة في هذا العيد . 3- سيدي بنور، أو «البنورية» ريف العبور: عن سيدي بنور كتب ابنها البار بوشعيب الساوري، الروائي والباحث، بلوعة من يكتب عن حبيب وهبه الله له. وقد اختار الساوري البداية بعلاقة الطتابة الروائية بالمدينة والأرياف: «على الرغم من كون الكتابة تتوق دائما إلى خلق مسار حر عبر التواريخ والثقافات والأزمنة والأمكنة، وإن كان النص الأدبي لا مدينة له؛ فظهور الفن الروائي ارتبط بالمدينة، وأن هناك نصوصا تظل مرتبطة بمدن معينة، لأن فكرتها وأحداثها ومتخيلها وشخوصها وفضاءاتها متماهية مع تلك المدن، فتصبح علامة دالة عليها. وبما أن هناك أدباً موجودً فإن هناك مدناً حاضرة في ذلك الأدب. لكن كيف تحضر تلك المدن في ذلك الأدب؟ لا شك أنها لا تحضر بصورة واحدة، ومن ثم، تصير المدينة الواحدة مدنا متعددة، انطلاقا من عملية الخلق والتخيل التي يقوم بها كل كاتب والتجارب الإنسانية التي يشخص من خلالها أفكاره.» لذلك فالمدينة الصغيرة، والقرية الكبيرة: سيدي بنور ترتبط وجدانيا ولاشعوريا بالساوري. يقول:»في تجربتي الشخصية، فقد عشت معظم حياتي بمدينة الدارالبيضاء وبالرغم من ذلك فقد مثلت سيدي بنور: «كنيخ»(بما للاسم من دلالة قدحية) أو «البنورية» كما يحلو للحبيب الدايم ربي تسميتها بالنسبة إلي، من حيث هي مكان للعبور من وإلى مسقط الرأس، إلى أن أصبحت محطة لإقامة عابرة تدوم أياما متفرقة على مدار كل سنة ببيت أصهاري، ومن هنا ظلت حاضرة في ذاكرتي، وشيئا فشيئا أخذت تنمو معرفتي بها من خلال الاحتكاك بحالات إنسانية أصادفها في تجولي بين أزقتها وسوقها وساحاتها والمروي المباشر أو غير المباشر، عبر استراق السمع في جلسات احتساء قهوة رفقة بعض مثقفي المدينة. وبذلك ظلت وستظل معرفتي بها واكتشافي لها يتجددان مع كل عبور». 4- سطات من السما هبطات، أو مملكة الله التي يجهلها الجميع: الروائي والناقد شعيب حليفي يرى ان سطات مدينة خرافية نازلة من السماء. ويهدي هذا النزول إلى أستاذيه «الحاج محمد بن سينا» و»المعطي رقيب». ولانها المدينة الوحيدة النازلة من السماء فإن حليفي يرجو من القارئ تصديق ماسيرويه عنها: «أعْرِفُ أن أصْدِقائيَ سيصدقونني في كلِّ ما أقوله عن سطات . بل يعرفون أنني أخْفِي مِنْ أسْرَارِهَا مَا يَمْلأ المُجَلدَات إدْهَاشا حَقّا .. لأنني في كل ما كتُبته وما سَأكتبه ، خِلال مَا مَضى مِن حَيَاتي ومَا سَيأتي ، من حروف زُفّتْ إلى قلبي وروحي ..لم يكن إلا تأريخا شاهقا لمدينة سَطات التي اكتسبت اسمها من ستة عشرا عالما شهيدا كما من نعث الزطاطة الذي يُؤَمِّنونَ العبور، سواء في رقعتها الجغرافية الصغيرة أو في صورتها التي تحملها مجازا : الشاوية ، تامسنا ، تامزغا ، الجنة ، جهنم ... الرقعة التي ستبقى حينما يفنى العالم .. وعَبْرَها سيخلق الله ، رب العالمين ، عالما جديدا يَعْبُرُ يوميا في أحلامنا فقط». ويضيف صاحب رواية «زمن الشاوية» أنه لا تُوجَدُ مَدِينَة تُشبِهُ سَطَّات، لأنها اسْتِعَارَةٌ حَارَّةٌ لتاريخ طويل من عشرات القرون، قبل أن يُعَفِّرَ البُورْغواطيُّون دِمَائَهُم الطاهرة بِتُرابِها ... مُنذ ذلك التاريخ المُبكر والغارق في سَهْوٍ باذخ، أصبحت قناةً بين عالمين ومملكتين ، فاس ومراكش .. يَسْكُنُهَا نفر غير متجانس من البشر ، من أجدادنا رْجَال المْزامْزَة ، ثوار خذلتهم الحروب ، وفقهاء أضاعوا النبوة ، وعُلماء يكتبون ، في تلك الفترة الفاجرة ، عنا نحن الآن ، بقلم من أظافرهم ودواة فارغة . ألم يقل لنا حليفي إن سطات سقطت من السماء لتكون اختبارا جديرا بما نفعل، لذلك فهو يجِدُ أبناءَها من الأخيار والأبرار والعلماء والأتقياء والأولياء والصلحاء وكذلك من الأشرار والدجالين والقتلة والجهلة والمُدّعين ... جميعهم يتعايشون ويتحدثون بإيمان مطلق، كل فئة تختبرُ نفسها وغيرها في آن .. كل فئة تنظر في المِرْآة هل ترى نفسها أم الآخر؟ . حتى صِرْنا جميعا نؤمن بأنه ما من شيء وقع في هذا البلد ، خيرا كان أم شرا ،إلا وَرَاءَهُ واحدٌ من الفريقين ، وأن الله يُظهرُ فينا العلامات ، بين الفينة والأخرى إنها مملكة الله التي يَجْهلها الجميع . «انظروا إلى جُغرافيتها التي تشبه كَفَّيْن كبيرين ضارعين إلى الله، عليهما أوتاد راسخة : لالة ميمونة ، بويا الغليمي ،سيدي بوعبيد ، سيدي عبد الكريم .. وكل فرد من أهل المزامزة وباقي القبائل المحيطة بنا من حُرّاس الرّوح : أولاد سعيد ، أولاد بوزيري ، أولاد سيدي بنداود».