أمبرتو إيكو فيلسوف وروائي إيطالي، ولد سنة 1935 بألساندريا من إقليم بييمونتي الإيطالي، كاتب مشوق للقارئ الذكي، يحبك بتفاصيل معقدة وغامضة ألغازا تاريخية ويصهرها في مناخ سردي متين، ربما ذلك لانطلاقه من رؤية سيميائية وفلسفية، وقد عرف باهتمامه بالبحث في القرون الوسطى، كما أنه يعدّ ناقدا دلاليا مميزا، نال شهرة واسعة من خلال مقالاته وكتبه خاصة منها رواية «اسم الوردة» و«مشكلة الجمال عند توما الأكويني». في بداية كتابه الجديد المعنون ب«صناعة العدو? يشير أمبرتو إيكو إلى أنه كان ذات مرة في نيويورك، وفي سيّارة التاكسي التي كانت تقلّه إلى مكان ما، سأله سائقها الباكستاني: ?من هم أعداء الإيطاليين؟ وما هي الشعوب التي تحاربون معها ؟». يقول أمبرتو إيكو إن ذلك السؤال هو الذي حرضه على تأليف كتابه المذكور. صناعة عدو يضيف قائلا: ?إنه يمكن القول إن إيطاليا لم يعد لها، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، أعداء بالمعنى الحقيقي للكلمة. لكن على المستوى الداخلي هناك صراعات بين قوى مختلفة بسبب التعارض القائم بين مصالحها«. ويقر الكاتب أن المافيا ضدّ الدولة المركزيّة. وأثرياء الشمال ضدّ فقراء الجنوب. والليبيراليّون ضدّ الفاشيين الجدد. غير أن التاريخ، في رأيه، يقدّم أدلّة قاطعة على أن الوحدة الإيطالية لم يكتب لها النجاح إلا بفضل حروب مع أعداء خارجيين، نمساويين تحديدا. ويلفت إيكو إلى أنه عندما انهار ما كان يسمّى بالاتحاد السوفييتي، وجدت الولاياتالمتحدة الأميركيّة نفسها في حيرة من أمرها بسبب احتياجها إلى من يتشرف بتعويض «إمبراطورية الشر». ولم ينقذها من تلك الحيرة غير ظهور «القاعدة» بزعامة بن لادن وأيمن الظواهري. ثم يكتب قائلا: «أمر مهمّ أن يكون لنا عدوّ لتحديد هويّتنا، ولكن أيضا لمواجهة العقبات، وتبيّن مدى صحّة وقوّة نظام قيمنا، وإظهار شجاعتنا. لهذا حتى وإن لم يكن لنا عدوّ فإنه يتحتّم علينا صناعته». تاريخ عدائي ولكي يثبت صحّة فكرته هذه، يعود أمبرتو إيكو إلى التاريخ القديم، الروماني بالخصوص ليسوق لنا من خلال خطب شيشرون أمثلة عن كيفيّة «صناعة العدو»، والحاجة إليه ومما ورد في خطبه: «هذا القطيع النذل ليس سوى عصابة من كلّ اللاعبين، والزوجات الخائنات، ومن كلّ ما هو نجس وفاحش وفاسق. هؤلاء الشباّن الرشيقون والظرفاء واللطفاء جدا لم يتعلّموا فقط فنّ الحب، وكيف يحبهم الآخرون، وكيف يرقصون، ويغنّون، وإنما هم يعرفون أيضا كيف يطعنون بالخنجر، وكيف يضعون السمّ في الكؤوس». أما الروماني الآخر تاسيتوس فقد حدّد مقاييس لأعدائه اليهود قائلا: ?لديهم -أي اليهود- كل ما هو محرّم عندهم هو مقدّس عندنا، وكلّ ما هو شرعيّ عندهم هو عندنا فظيع، وممنوع منعا باتا. ويصف مبعوث الإمبراطور الجرماني أوطون الأول (القرن العاشر) الإمبراطور البيزنطي نيسيفور على: أنه كائن مشوّه الخلقة. وهو شبيه بقزم له رأس سمين وعينان صغيرتان تجعله شبيها بالخلد. وأما خصلات شعره الطويلة والغزيرة فتجعله أشبه بخنزير. ويحيل لون بشرته إلى لون بشرة أثيوبي لا نرغب في لقائه في الليلة الدهماء. وله بطن كبير، وأليتان نحيلتان، وفخذان طويلان غير متناسقين مع قامته، وساقان قصيرتان وهو يرتدي ثوبا من الحرير، لكن بسبب كثرة الاستعمال اليومي، بهت لونه وبات منفرا يميل إلى الاصفرار». التاريخ الأوروبي عندما تأسست الدول القوميّة في أوروبا، أصبح البريطانيّون يصفون أعداءهم الفرنسيين ب «أكلة الضفادع». وكان الألمان يسخرون من الإيطاليين بسبب إقبالهم على استهلاك كميات كبيرة من الثوم. ثمّ تغيّرت الصورة ليصبح العدو ذلك الذي يجاهر باختلافه سواء في اللباس، أو في التفكير، أو في السلوك. وفي الولاياتالمتحدة الأميركية أصبح الزنجي عدوا بالنسبة إلى الأبيض. وهو دائما متهم بجريمة ما. ودائما مذنب. وقد يقاد إلى الكرسي الكهربائي رغم أنه لم يرتكب الجريمة المنسوبة إليه. وهذا ما تعكسه العديد من الروايات، والأفلام. ففي عين الأبيض العنصري، يكون الزنجي دائما قبيحا، ووسخا، ونتن الرائحة، وفاحشا في سلوكه، وفي لغته. وهو مثال للنذالة في أبشع صورها. المنتصر في الحرب يقدّم عدوّه المهزوم على أنه مثال للجبن، والغباء، والسطحية. بل ونتن الرائحة أيضا. وهذا ما تعكسه الفقرة التالية التي يصف فيها الإيطالي غيوستي جنودا نمساويين وقعوا في الأسر: «دخلت لأجد نفسي أمام كتلة من الجنود، من أولئك الجنود الشماليين، قد يكونون من بوهيميا أو من كرواتيا، وضعوا هنا في حقل العنب كما لو أنهم أوتاد. ظللت في الخلف لأني شعرت وأنا وسط أولئك الرهط من البشر بامتعاض تحتم عليّ عدم الإجهار به. وكانت تفوح منهم رائحة عطنة تخنق الأنفاس». وقد اكتفى أمبرتو إيكو بتحديد مقاييس العدو من خلال الثقافة الأوروبية القديمة والحديثة، غافلا عن ذلك في الثقافات الأخرى كالعربية والصينية واليابانية وغيرها. مع ذلك يتيح كتابه المذكور للقارئ والباحث التعرف على جوانب مهمة في التاريخ الأوروبي والعالمي من خلال مواصفات «صناعة العدو».