أصدر إمبرتطو إيكو كتابا موسوما ب « اعترافات روائي شاب»(1) للتحدث عن تجربته الروائية (اعتمدت على الترجمة الفرنسية الصادرة عن منشورات غراسي 2013، وأخبرني الصديق سعيد بنكراد أن ترجمته العربية ظهرت مؤخرا عن منشورات المركز الثقافي العربي). وعلى الرغم مما راكمه إيكو من روايات، وما حظي به من شهرة عالمية مازال يعتبر نفسه روائيا ناشئا يكد بحثا عن السبل الممكنة لإثبات جدارته الفنية واستغواء القراء. ومن يطلع على الكتاب سيعاين ما تتطلبه « الصنعة الروائية» من جهد وصبر ووقت حتى تستوفي الرواية شروطها الفنية والجمالية، وتؤدي وظيفتها الاجتماعية على الوجه المطلوب. إن اعترافات إمبرتو إيكو بأسرار التجربة وخباياها ومصاعبها يمكن أن تصلح أيضا لإسداء نصائح عملية للمبتدئين الذي مازالوا في بُداهة مشوارهم. ويعتبر كل الروائيين، في نظر إيكو، كتابا ناشئين لأنهم يعملون في أوراش مفتوحة وواعدة بالعطاءات المتجددة، وينجزون أعمالا غير منتهية، ويحرصون على الدقة والاستقصاء والتحري تفاديا للخلط والفجاجة والخطإ. يتكون الكتاب من أربعة فصول ، كانت، أصلا، عبارة عن محاضرات ألقاها إيكو في جامعة إيموري بأطلنطا عام 2008 (الكتابة من اليسار إلى اليمين، الكاتب والنص والمترجمون، ملاحظات عن شخوص التخييل، لوائحي). وحرصا على التقيد بموضوع المحاضرات اضطر إلى التركيز على تجربته الإبداعية دون سواها. رغم أن إيكو يبلغ إحدى وثمانين سنة ونشر ، لحد الآن، ست روايات، فهو يعتبر نفسه روائيا شابا مازال بمقدوره أن ينتج أعمالا روائية جديدة في خضم الورش المفتوح الذي يعد بعطاءات واعدة. لا تمنعه قلة تجربته في المجال الروائي من تبيان طريقته في الكتابة. بدأ كتابة الروائة منذ طفولته. كان يكتب صفحات معدودات بالكاد مقلدا نصوصا مطبوعة، فينفد زاده ثم يتوقف عن الكتابة. لهذا يعتبر كل أعماله قمما إبداعية غير منتهية على نحو سيمفونية شوبير غير المنتهية. لما بلغ ست عشرة سنة بدأ ينظم الشعر كما هو حال أقرانه المراهقين. غالبا ما يوضع حد بين الكتابتين الأدبية والعلمية. ما يميز بين روايات سرفانتيس وأعمال لاكان؟ هل يمكن لكتابة لاكان أن تكون أكثر إبداعية مما كتبه سرفانتيس؟ لا أحد يمكن أن يجادل أن كتابات غاليلي مفعمة بالشحنات الفلسفية والعلمية لكنها تدرس في ثانويات إيطاليا بصفتها أمثلة عن الكتابة الإبداعية الجيدة أو باعتبارها من قمم الإبداع لبراعة أسلوبها. إن كتب ليني أو داروين عن القردة فهما يقدمان حقائق علمية عنها. ولما يكتب عنها ملفيل، فهو يدعي قول الحقيقة، بل يبدع قردة غير موجودة، ولا تمت إلى الواقع بصلة. نبحث في أي عمل نظري عن إعطاء جواب لمشكل خاص. وعندما نكتب نصا إبداعيا فإننا نتمثل الحياة في نعومتها وطهارتها. شعر إمبرتو إيكو، مع مر الزمن، بطاقته الإبداعية، فحاول أن يمتحنها بطرقتين: بسرد القصص على أطفاله، وإضفاء الطابع السردي على كل عمل من أعماله. آخذ عليه أستاذ، أثناء مناقشة أطروحته عن جمالية سانت توماس الأكويني ، بأنه كتب بحثه على طريقة البحث البوليسي. وهو ما أوحى له بفكرة جوهرية مفادها « أن كل بحث ينبغي أن يسرد بهذه الطريقة.. وهو ما قمت به في كل أعمالي العلمية اللاحقة» ص14. في بداية 1978 طلبت صديقة تشتغل في دار نشر صغيرة من غير الروائيين ( فلاسفة، علماء الاجتماع، الساسة) أن يكتب كل واحد منهم قصة بوليسية. أجابها إيكو، في الحال، أنه غير مؤهل للكتابة الإبداعية. وفي حال إقدامه على المشروع سيضطر إلى كتابة عمل من 500 صفحة، تدور مجمل أحداثه في أحد أديرة القرون الوسطى. لما عاد إلى بيته عثر في أدراج مكتبه على مسودة، فكانت بداية تفكيره في تحضير رواية تحمل عنوان «اسم الوردة». لما عرف الكتاب نجاحا منقطع النظير، علل كل ناقد سبب ألقه ورواجه وشهرته. قد يكون إلهاما نورانيا أو وصفة سرية أو برمجة معاوماتية. فند إيكو كل الإدعاءات مبينا أن الرواية كتبت قبل ظهور البرامج المعلوماتية في عقد الثمانينات، وأنه فرغ منها في ظرف سنتين لدرايته الواسعة بجمالية القرون الوسطى. كما أنه اضطر إلى تفقد الأمكنة ( الأديرة الرومانية، والكاتدرئيات الغوطية، والكنائس العتيقة) التي تدور فيها الأحداث حتى يكون ملما بملامحها ومواصفاتها ومواقعها.في حين أن الروايات اللاحقة استغرقت منه سنوات عديدة ( ثماني سنوات بالنسبة لرقاص فوكو، وست بالنسبة لجزيرة اليوم السابق وبودلينو، وأربع في ما يخص الشعلة الغريبة للمكلة لوانا ص19). وهو ما يبين أن العمل الروائي يحتاج إلى جهد وتأن واستقصاء حتى يؤدي الأهداف المرجوة، ويستوفي الشروط المتوخاة في أي عمل فني. لما ينهمك في الكتابة يضطر إلى جمع المعلومات والوثائق اللازمة ورسم الخرائط والتصاميم. « لما كنت أكتب رواية «رقاص فوكو» قضيت أمسيات بتمامها وأنا تجول في ممرات مرصد الفنون والمهن حتى إغلاق أبوابه، حيث تدور أحداث هامة. لأتمكن من وصف المشي الليلي لكاصوبون في باريس ، من المرصد إلى برج إفيل مرورا بساحة لفوزج، قضيت ليالي عديدة وأنا أذرع المدينة ما بين الثانية والثالثة صباحا هامسا في مسجلة صغيرة لتدوين رؤوس أقلام تهم ما أعاينه والحرص على عدم الخطإ في إثبات أسماء الأزقة والملتقيات.» ص20. عندما أراد أول مخرج سينمائي ماركو فريري تحويل رواية «اسم الوردة» إلى فيلم لاحظ أنها مسعفة على استنتاج سيناريو ملائم نظرا لطول الحوارات. لم يفطن إيكو إلى ذلك فيما قبل. لكن تبين له أنه قبل مباشرة الحوار رسم متاهات وتصاميم التي تعطي فكرة عن الوقت الذي يمكن أن يستغرقه شخصان في اجتيازها وهما يتحدثان. بعد أن أصدر رواية» جزيرة اليوم السابق» طلب منه ناشر ألماني تصميما للسفينة/ المتاهة التي تدور فيها الأحداث. لم يفكر إيكو في ذلك أصلا على عكس ما اعتاده في تحضير باقي رواياته. راودته فكرة أن يظل القارئ تائها على نحو البطل دون أن يهتدي إلى الطريق المناسب. أرغمته رواية «جزيرة اليوم السابق» على تفقد بحر الجنوب وبالضبط في الأمكنة التي تستقطب أهم الأحداث حتى يتمكن من معاينة لون البحر والسماء في مختلف أوقات النهار، واستجلاء التدرجات اللونية للأسماك والشعب المرجانية. قضى سنتين أو ثلاث في دراسة رسومات ونماذج السفن المستخدمة في تلك الفترة حرصا على معرفة حجم الممرات والحجرات، وضبط الوقت الذي يمكن أن يستغرقه شخص في التنقل من واحدة إلى أخرى. غالبا ما يطرح عليه سؤال من قبيل: ما الفكرة والتصميم الأولي اللذين تنطلق منها في كتابة رواياتك؟ لما شرع في كتابة رواية «رقاص فوكو» تبادرت إلى ذهنه صورتان: صورة رقاص ليون فوكو الذي سبق أن قرأ له وأحدث رجة قوية في نفسيته، ثم صورة تهمه شخصيا « كنت أنفخ في البوق أثناء تشييع جنازة المقاومين الإيطاليين . ولهذا قررت أن تستهل الرواية برقاص فوكو وتنتهي بنافخ البوق في مقبرة ذات صباح مشمس. لكن ما السبيل لوصل المسافة بين الصورتين؟ كان حريا بي أن أقضي ثماني سنوات للإجابة عن هذا السؤال؟» ص25. بمجرد أن تحدد الفكرة الرئيسة في ذهن الروائي تتناسل خيوط القصة بعفوية. لكن هذا لا يكفي؟ لا بد من إكراهات تحتم اختيار هذا العنصر و استبعاد آخر. اضطر إيكو في «رقاص فوكو» إلى إجبار الشخوص على معايشة انتفاضة الطلبة عام 1968. تنهض «جزيرة اليوم السابق» على سلسلة من الإكراهات. على البطل روبيرتو أن يقيم بباريس يوم وفاة شخصية ريشليو. حضوره لن يغير أي شيء. يمكن أن يستغنى عنه. « لكنني لما أقحمت هذا الإكراه لم تكن لدي أي فكرة عن وظيفتها المحتملة. كنت أرغب فحسب في عرض احتضار ريشليو لمجرد نزوة سادية» ص34. لاحظ كثير من النقاد أن إيكو يستعمل تقنيات ما بعد الحداثة. وعى، في هذا الصدد، باستعمال تقنيتين، وهما: السخرية التناصية والسرد الواصف. وما يصطلح عليه المهندس المعماري شارل جنكزCHARLES JENCKS بالتشفير المزدوج. « أعترف أن الكاتب الذي يستعمل تقنية التشفير المزدوج يقيم نوعا من التواطؤ الصامت مع القارئ المثقف، في حين من يفتقد هذه الصفة يشعر، لعدم قدرته على التقاط الإشارة الثقافية، أن أمورا كثيرة تستسغلق على فهمه. لا أظن أن الهدف الوحيد للأدب هو الإمتاع والمواساة. لهذا أعتقد أن التشفير المزدوج لا يمت بصلة إلى العادة الارستقراطية لكنه يشكل ، بالنسبة للكاتب، طريقة للتعبير عن احترامه ذكاء القارئة وحسن إرادته» ص 40 غالبا ما يطرح عليه مترجموه بعض الأسئلة من قبيل: كيف يمكن لي أن أترجم هذا المقطع لكونه مبهما؟ يتيح إمكانات قراءته بطريقتين مختلفتين؟ ماذا تقصد بالضبط؟ اقترح إيكو ثلاث أجوبة للسؤال جسب طبيعة الحالة: 1- لم يقترح، فعلا، التعبير المناسب. ويطلب من مترجمه أن يتفادى اللبس المحتمل. ويعد إيكو بأن يأخذ بالملاحظة نفسها في الطبعة الإيطالية المقبلة. 2- لقد تقصد أن يكون مبهما لذا يجب على المترجم أن يحافظ على الإبهام. 3- لم يخطر على باله أن المقطع مبهم. وبصفته قارئا فهو يجد الإبهام مفيدا ومخصبا للنص لذا وجب على المترجم أن يحافظ عليه. لو كان إمبرتو إيكو في عداد الموتى لتصرف المترجمون في تأويل نصه وترجمته كما يروق لهم. إن النص آلة خاملة لا تسترجع حيويتها إلا بفضل تأويلات المتلقي التي تفضي في نهاية المطاف إلى قراءة خاصة . لقد سبق لإيكو أن استثمر في كثير من مؤلفاته « التدلال اللامحدود»، وهو يهم الدلائل وليس السيرورات. عندما نبحث عن مفردة في المعجم سنجد أنفسنا أمام كلمات جديدة. إن التأويلات اللامحدودة لا يعنى بها أن التأويل عديم الموضوع. فكل تأويل ينبغي أن يفضي إلى نهاية سعيدة. يصح أن نقول إن هذا التأويل مقبول وأن الآخر شاذ. إن تعرُّف القارئ النموذجي مقصدية النص يقتضي تعرُّف استراتجية سيميائية. وكل قراءة هي تفاعل معقد بين كفاية القارئ( كفايته الثقافية والموسوعية) وبين جنس الكفاية الذي يقترحه النص حتى يضاعف من نسب قراءته وفهمه والاستمتاع به. لا يؤول القارئ الاختباري النص وإنما يعتبره كما لو كان صدى ليومياته وتجاربه، واستجابة لنزواته الشخصية. وفي هذا الصدد، قام طالبان من معهد الفنون والمهن بدور القارئ الاختباري الذي يسعى إلى التأكد من صحة الأحداث المروية في باريس. تتبعا خطوات بطل كاصوبون والتقطا ألبوما من صور الأمكنة التي عبرها في أوقات معينة. « لقد سعيا إلى تحويل باريس «الحقيقية» إلى مكان يوجد في كتابي...مما عايناه في بارس لم يحتفظا إلا بالجوانب التي تلائم المواصفات المقدمة في نص روايتي» ص56. لم يريا فيها إلا ما يلائم مواصفات الأمكنة المثبتة في الرواية. أطلعا إيكو على موقع حانة سبق له أن ذكرها في الرواية. لم يكن على علم بوجودها. قد يكون مر بجانبها دون أن يعرها أدنى اهتمام. أثار إيكو أيضا تجربة صديق له في قراءة إحدى رواياته (رقاص فوكو). لما فرغ من قراءتها كاتبه مبرزا له أن ما حكاه فيها ينطبق بالتمام على ما جرى لعمه وعمته. أجابه إيكو أن العم شارل والعمة كاترين هما عضوان من عائلته. وما يعلل تشابه القصتين هو أن المآسي التي عاني منها جيل قد تضرر منها كثير من الأعمام والعمات. لما يطلع الكاتب، وهو على قيد الحياة، على مختلف التأويلات، لا يمكن له أن يحسم في أيهما الأصح، ولكن من حقه أن يبين الفروق بين مقاصده ومقاصد النص. اقترح إيكو لروايته الأولى عنوان اسم الوردة متوقعا منه أساسا كثرة التأويلات وتضاربها. « مازال الكتاب يروج في العالم، وما على الكاتب الاختباري إلا أن يلتزم الصمت» ص60. وقد يحيل العنوان إلى عنوان آخر يستوعب محتويات القصة نفسها. قبل أن تترجم مترجمة روسية كوستوكوفيتش ELENA KOSTUKOVICH اسم الوردة إلى اللغة الروسية كتبت مقالا تشير فيه إلى رواية تحمل عنوانا مشابها «وردة براتيسلافا» (1946). تدور القصة حول البحث عن مخطوط محفوف بالأسرار، وتنتهي بحريق المكتبة. لم يطلع إيكو على الرواية ويقر أن كثيرا من الروايات تتشابه صدفة في استيعاب المواضيع المبتذلة والتجارب المشتركة. ذكر أمثلة كثيرة من هذا القبيل لإثبات عدم ملاءمة الكاتب الاختباري وإثبات حقوق النص. كما لاحظ أنه لا يعير كبير اهتمام للكاتب الاختباري. في حين أن شهادته تؤدي وظيفة هامة ليس لفهم النص فحسب وإنما لمساعدة القراء على فهم المجرى غير المتوقع لسيرورة الإبداع. وهذا ما يحفز على فهم الاختلاف بين استراتجية النص و قصة تطور النص. كثير من القراء لا يميزون بين الواقع والخيال. يعتقدون أن الشخصيات هي من لحم ودم. ما السبب الذي يجعل كثيرا من القراء ، رغم مستواهم الثقافي، تهمي عيونهم على انتحار كارنينا في حين لا يذرفون دمعة واحدة حيال موت شخصية عمومية بارزة؟ لم يتناول إيكو موضوع الانتحار من الزاوية الانطلوجية وإنما من الزاوية السيميائية. يحاول الكاتب دوما إيهام قرائه بأن ما يحكيه هو عين الحقيقة حاثا إياهم على أخذ مسعاه مأخذ الجد. هل يمكن لإثبات تخييلي(انتحرت كارنينا برمي نفسها تحت القطار) أن يكون حقيقيا على نحو الإثبات التاريخي(انتحر هتلر وحرقت جثته بنفق في برلين ). غريزيا يمكن أن ما يقال بصدد كارنينا هو محض خيال، في حين ما وقع لهتلر هو عين الحقيقة. بالاستناد إلى الحقائق الموسوعية المشتركة والمتواضع عليها نقر بأن انتحار هتلر حدث حقيقي أكده مختصون في الموضوع. ومع ذلك تحتاج الحقائق العلمية إلى مراجعة عندما تظهر وثائق جديدة تدلي بمعطيات مغايرة. وهذا ما يصدق على موضوع انتحار هتلر. هناك مؤرخون شككوا فيه بدعوى أن هتلر فلت بجلده وهرب إلى الأرجنتين. ولم يتؤكد بعد ما إن حُرقت جثة هتلر أو جثة إنسان آخر. كل إثبات ينبغي أن يبنى على الشرعية الاختبارية الخارجية. أعطيني الدليل الملموس الذي يبين أن هتلر انتحر فعلا. بالمقابل يستند في تعليل خبر انتحار أنا كارنينا إلى الشرعية النصية الداخلية لأنه ليس في حاجة إلى تجريد النص لتوكيده. ومع ذلك هناك من يقلب الحقائق التخييلية. أنجز في هذا المضمار فليب دومينك PHILIPPE DOUMENCبحثا بوليسيا لإثبات أن مدام بوفاري قتلت عكس ما روج بصدد انتحارها بالسم. يمكن أن نعتبر الآلهة الأسطورية خرافة وتخييلا، في حين يؤمن آخرون بوجودهم. وفي السياق نفسه يعتبر البوذي إله الإنجيل شخصية خيالية. يؤمن الإنجليز بأن شخصية شرلوك هولمز شخصية حقيقية. ومن ثم أصبحت كثير من الشخصيات الأسطورية أبطالا روائية. وبالمقابل، أصبحت شهرة الأبطال الروائيين تضاهي شهرة الشخصيات الأسطورية. وهو ما يبين أن العلاقة بين الطرفين أصبحت أكثر التباسا. أكثر من ذلك تعطي الشخصيات الروائية المثال السامي عن الشرط الإنساني « الحقيقي». تربى إيكو، في نشأته الكاثوليكية، على استظهار والإصغاء إلى جملة من الصلوات التي تقوم على ترديد لائحة من صيغ الابتهال للعذراء. واضطر، في كثير من تجاربه الروائية، إلى إعداد لوائح مهما كلفته من جهد وجلد. وتنقسم اللوائح قسمين: لوائح علمية تستوعب ما نحتاجه من مقتنيات، وجردا للكتب، ووصفات الأكل. وهي، في مجملها، ذات طبيعة مرجعية تحيل إلى أشياء بعينها. ثم لوائح شعرية مفتوحة تسعى إلى اقتراح ما لا نهاية النصوص والأشياء والأحداث لاعتبارين، وهما: 1-يعي الكاتب بصعوبة تسجيل العناصر لكثرتها وسعتها، 2- يستمتع الكاتب بتعدادها اللانهائي ( أحيانا تكون مجرد متعة سمعية). لما بدأ كتابة روايته «اسم الوردة» استعار من الكتب الإخبارية القديمة أسماء مختلف أصناف المشردين والمتسكعين سعيا على التعبير عن الخلط الاجتماعي والديني الذي ساد في القرن الرابع عشر بإيطاليا. عندما كان منهما في كتابة «جزيرة اليوم السابق» عاين أن رصيده اللغوي لا يسعفه على وصف الألوان البراقة للسمك في بحر الجنوب. وهو ما حفزه على البحث عن الأوصاف والمفردات المناسبة مستعملا الوصف المؤثر. هناك لوائح منسجمة وأخرى فوضوية. نعاين تجلياتها في كتابات جويس وبورخيص ورامبو ونيرودا وبريفير.. وهي لا تخلو، في آخر المطاف، من الانسجام لأنها تعيد تشخيص العالم مقيمة روابط وعلاقات بين مكوناته. لم يستعمل إيكو هذا النوع لأنه خاص بالشعر، في حين يكون الروائي مجبرا على تمثيل أحداث وقعت في زمكان محدد. 1 -Umberto Eco , Confessions d?un jeune romancier, , trad de l?anglais François Rosso Grasset, Paris 2013. استهل المدير العام كلمته الافتتاحية بترحيبه بالحاضرين الذين حجوا من مختلف الدول قصد المشاركة في الندوة المذكورة أعلاه. وأوضح أن موضوع الحداثة هو حديث ذو شجون، بوصفه موضوعا أثر على كل الحضارات وخاصة التقليدية منها، كما أضاف، أننا وبشكل لا إرادي منغمسين في الحداثة على عدة مستويات: الاقتصادية، الاجتماعية وحتى السياسية. وفي حديثه عن موضوع الحداثة وعلاقته بالعالم العربي الذي يعرف تأخرا في النمو والتطور واصطدام خاص لرجال الدين مع هذا المفهوم وتجلياته وعدم الرضى على ما أنتجته عل المستوى الأخلاقي، طرح سؤالا جوهريا: هل يمكن الإسهام في التأسيس الأخلاقي للحداثة؟ ما هي المبررات الموجودة لدينا، نحن العرب، لكي نسهم في التأسيس الأخلاقي للحداثة؟ وختم كلمته بكون سياق الندوة جاء لفهم الحداثة والتعاطي معها والاستفادة منها، بغية تغيير أنماط الفكر المنغلقة أو الوثوقية. فإذا كان الفكر الديني مقيدا الإنسان بقيود لاهوتية، فالحداثة جعلت منه سجينا لسوق حرة. بعد ذلك، باشرت الجلسة الأولى عملها بموضوع في دلالة الحداثة، وترأسها الباحث مولاي أحمد صابر، حيث شارك الدكتور فريد لمريني، أستاذ بجامعة محمد الأول وجدة، بورقته في موضوع الحداثة والتباساتها المفهومية، فتمحورت مداخلته حول ثلاثة محاور،هي: الحداثة والأزمنة الحديثة، الحداثة والزمن كمحور ينهض على شقين اثنين هما : الحداثة والتاريخ، ثم الحداثةكإيديولوجيا كونية للتغيير. وفي بداية حديثه، أكد الدكتور لمريني على أن مفهوم الحداثة مفهوم عسير التحديد، وذو حمولة إشكالية لا حد لها، حيث يستحيل استخراج كافة المضامين التي يتكون منها أو الصفات التي يشير إليها. وأضاف أن المفاهيم بشكل عام، ليست لها زمانية خاضعة لنظام كرونولوجي معين، لأنها دائما في حركة لا تتوقف. وعرف الحداثة -بصفة أولية-كمفهوم أفق مستبد بكل الآفاق المغايرة له. إنها كمفهوم وعلى مسرح الفكر والعمل، تتقدم باعتبارها السياق الوحيد والممكن لتطور وتقدم كل المفاهيم القديمة والحديثة والمعاصرة، سواء في حقل الإيديولوجيا أو حقل العلم. كما أشار إلى كون الحداثة تجعل من نفسها حاضرا مطلقا، وزمنا غير قابل للاسترجاع»إنها تجعل من نفسها التغيير الوحيد والممكن» كما قال هنري لوفيفر. وفي محورالحداثة والزمن، حاول المحاضر الإجابة عن السؤال، كيف أصبحت الحداثة تجليا كونيا؟ لقد تمكنت الحداثة كمجموعة من الوقائع التاريخية المحددة، أن تجعل من نفسها وعيا متعاليا على التاريخ، وقامت بطمس أو إخفاء جدليته الحقيقية، عبر الإعلاء السحري من قيمة الحاضر، وتحويله إلى الزمن الوحيد والممكن. واختتم المتداخل محاضرته بالحديث عن الحداثةكإيديولوجيا كونية للتغيير بموقف عبد الله العروي الذي يطالبنا بالانطلاق من فرضية التحديث عوض الحداثة. الحداثة : « لا تعني شيئا آخر سوى أن مجموعات إنسانية تريد، من خلال الزمان والمكان، أن تعمم Une séquence événementielle متتالية حدثية، سبق أن وقعت في لحظة ما وفي مكان ما». وجاءت المحاضرة الثانية بعنوان: الحداثة : نحو مقاربة دلالية سوسيو تاريخية ألقاها الدكتورالطيب بوعزة، محاولا الإجابة على الأسئلة المتعلقة بماهية الحداثة؟ من يزعم إنجاز الحد الماهوي بعد كل تلك الإشكالات التي عانى منها المنطق الأرسطي في نزوعه نحو الحدود الكلية؟ ما هما الدلالتان التاريخية والثقافية للحداثة؟ كيف يمكن التحديد اللغوي للفظ يعرف القفز من هنا وهناك؟ما سبب هذا الالتباس؟ في بداية مداخلته، أشار المحاضر إلى أن الحداثة ليست مجرد لفظ مفهومي تقني يتم تداوله معرفيا،بل هو منذ نزوله إلى واقعنا العربي، انتقل من الاستعمال المعرفي إلى الاستعمال الإيديولوجي. في تعريفه لدلالات للمصطلح والتباساته،واتخذ الدكتور الطيب بوعزة د.كمال أبو ديب مثالا، ليؤكد هذا اللبس، فأضاف أن أبا ديب الذي ظن أنه يعرف الحداثة، لم يكن يعرف سوى ما بعد الحداثة مستشهدا بقوله: «الحداثة،فيكل تجلياتها،وعيضديحادللغة،وبالتخصيص،لأزمةاللغة. فيهذاالوعي،تبدواللغة أرضًاخرابًا،ساقيةجفتولميبقفيقاعهاسوىالرمالالمتشققة،شجرةيابسةفيصحراء رمادية ... لغةمكدسةمحشوةبالسلطة،لغةيثقلهاتاريخالأيديولوجياتالسلطويةالتيصنعت تاريخالثقافة .هكذاتبدواللغةعبئًاهائلا،قوةضخمةمنقوىالفكرالمتخلفالتراكميالسلطوي. اختتم قوله بالتساؤل، هل من سبيل لتكوين موقف حول الحداثة من دون انفعال مسبق بمعطاياتها؟ كيف يمكننا أننتجاوز الإشكالات التقليديةفي علاقة بذواتنا وذوات الآخرين؛ أي نحن والآخر، مؤكدا على أن الشروط التداولية هي الموقع الذي سيمكن الذات العربية الإسلامية من المشاركة في المعرفة الإسلامية والمعرفة الإنسانية شريطة أن نحسن واجب الإنصات والنقد، لكي يصبح الفكر الإنساني محاورا لنا. وتمحورت محاضرة الدكتور عبد الواحد العلمي، أستاذ بجامعة بروكسيل، حول موضوع الحداثة وما بعد الحداثة وبناء المعرفة في الفكرالعربي، حيث استهل محاضرته بالحديث على أن المثقف العربي المسلم وكل مثقف ذي انتماء إلى حضارة وثقافة أخرى، يجد نفسه مضطرا لا مختارا إلى التعاطي المعرفي والفكري مع الحداثة، سواء باعتبارها مسارا تاريخيا أو مضمونا فلسفيا. في رأي الدكتور العلمي، لا سبيل للخروج من هذا الإشكال المنهجي والمعرفي المتعلق بالحداثة ومعطياتها إلا بتجاوز إشكال الثنائيات التقليدية: الأصالة والمعاصرة، الثرات والمعاصرة الحداثة، ما عندناوما عندهم، واعتبار الفكر البشري ساحة واحدة، تعتمل فيها المعرفة، وتتطور بآليات من مثل التعالق والتفاعل والتناص والاقتباس والحوار.وفي طرحه لمابعد الحداثة ومعركة التعريف، أكد على أن ضرورة الوقوف عند المصطلح ليست فقط لمعاودة النظر في الميراث الثقافي الفلسفي الغربي، بل النظر في اللحظة التاريخية الراهنة والمؤسسة للحداثة وارتباطها الوثيق بمرحلة ما بعد الحداثة، مركزا على أنه كل من يريد غير ذلك، لابد له من السقوط في شرك الاختزال والتمجيد والنظرة السعيدة كما سماها المحاضر، وإغفال مستبطنات وما أجلته مطارق ما بعد الحداثيين من معايب ومطبات معرفية وأخلاقية وإيديولوجية. وختاما، أكد المحاضر على أن تعريف الحداثة ومشتقاتها ضرورة معرفية لكل باحث في الفكر الغربي والإسلامي، يروم بناء معرفة حول الذات وحول الآخر. وتناولت الجلسة الثانيةموضوع، نحن والحداثة، وترأسها الباحث منتصر حمادة، حيث حاضر الدكتور عبد الله بربزي، أستاذ باحث في علوم التربية حول موضوع تعلم التفكير النقدي أساس الحداثة التربوية. في بداية حديثه، تطرق المحاضرإلى أن هناك نوعين من التربية؛ تربية تقليدية وتربية حداثية؛ فالتربية الحداثية تقوم على فكرة أساسية ألا وهي احترام شخصية الطفل، في حين أن التربية التقليدية غالبا ما تسعى إلى قمعه.وفي حديثه عن التفكير النقدي، رصد المحاضر أهم خصائصه المبنية على معرفة الافتراضات والقدرة على التفسير. التعريف يعرف مميزات عديدة تعلقت بعدة خصائص؛ فهناك الطابع التحليلي الذي يعتمد التفكيك، والطابع النفسي الذي يتميز بقدرة التفكير كملكة وعلاقتها بالميولات النفسية، والطابع المعرفي الذي يسعى إلى تسليط الفكر على الفكر. بعد السفر عبر المناهج العلمية النظرية والتطبيقية لتجليات الفكر النقدي وعلاقته المباشرة مع التربية، اختتم المحاضر كلمته بالتأكيد على أن الانعتاق المعرفي لن يتم إلا بتعلم ممارسة التفكير الجاد، وتحمل المسؤولية تجاه الذاتالآخر، والخروج من إصدار الأحكام القبلية والجاهزة. وأبرزالدكتور يوسف بن عدي، أستاذ فلسفة بمراكش، أن تلقي الحداثة في الفكر الفلسفي المغربي من قبل المغاربة هو اختيار رهين بسياق تاريخي وإيديولوجي وفكري؛ أي تطور أدوات المنهجووسائله التلحيلية والتفكيكية. فضلا عن أن هذا التقبل والتلقي لم يكن يشي بأن هناك تطابقا بين فكرة الحداثة وبين البات والمتلقي، اذ أن الفكر المغربي قد تقبل الحداثة في مراحل مختلفة وفترات، حتى إن الأمر كان متأخرا بالفعل، حينما نعلم أن جل الفلسفات (الشخصانية والتاريخانية و «الابسيتمولوجية»..)كانت في القرن 19، حيث اكتملت هذه الفلسفات في الغرب، بل انغلقت بشكل رهيب على ذاتها.من أجل تأكيد هذه الفرضية الفلسفية أعلاه، عرج المحاضر على خمس لحظات، هي: لحظة الشخصانية الواقعية الغدوية مع الحبابي، هذا الفيلسوف المغربي الذي أهمل وتم السكوت عنه بشكل يدفع الباحث في الفكر والفلسفة أن يقول: إنها «مؤامرة مبيّتة». أما اللحظة الثانية، فهي لحظة العروي الذي حسم موقفه المعرفي والإيديولوجي من التراث الذي يمكن طي صفحته بقراءته وإبراز محدوديته وانسداد أفقه، ثم لحظة الجابري الذي تعقل التراث وتحديثه من الداخل؛ أي من خلال تحديث آلياته وأدوات التفكير، ثم لحظة طه عبد الرحمن، فإنها لحظة تكاد تنفرد برؤيتها المنطقية والتقويمية للفكر الغربي ككل، بل لمساراته الكونية واختياراته العلمية. أما اللحظة الخامسة والأخيرة، فهي لحظة رشدية كيف يمكن أن نكون رشديين في الألفية الثالثة؟ أما مداخلة الدكتور مصطفى بن تمسك، أستاذ بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالقيروان بتونس، فتمحورت حول الحداثة بمفارقاتها ومساراتها، حيثأشار المتداخل إلى أن الحداثة مثلت منعطفا حاسما في التاريخ الغربي والإنساني عامة، لأنها كانت بالفعل إشارة الى نقلة تاريخية كونية بمقتضاها نزعت عن العالم الإنساني كما الطبيعي سحريته وغرائبيته (فيبررأفق عملية التحرر هذه شعور مزدوج بالغبطة والألم. فالغبطة تترجمها حركتان:أولا، الدفع النفسي والتحريضي الذي انتهى إلى استنهاض الوعي الأوروبي من دوغمائيته وسذاجته، والتواجه مع سلطة لا تستمد قوتها إلا من سيكولوجيا الخوف والجبن والكسل المستبدة بأفئدة الشعوب.كما أضاف أن عملية التحرر رافقها شعور مزدوج بالغبطة والألم. فالغبطة تترجمها حركتان:أولا، الدفع النفسي والتحريضي الذي انتهى إلى استنهاض الوعي الأوروبي من دوغمائيته وسذاجته، والتواجه مع سلطة لا تستمد قوتها إلا من سيكولوجيا الخوف والجبن والكسل المستبدة بأفئدة الشعوب. ختاما تساءل المحاضر هل للحداثة وجوه وحلقات ومسارات مقترنة بنيويا بالتطور أو بالركود الذي يشهده النظام الليبرالي أم هي لحظة التماعة تاريخية نادرة، تنأى عن السياسات، وتتجرد من كل السياقات؟ كيف سيتعامل العالم العربي والإسلامي مع حداثة اقترنت بالذاكرة الاستعمارية: هل بمواصلة الرضوخ أم بابتداع حداثة خصوصية قادرة على تحريره من كل أشكال التبعية؟ أما مداخلة الدكتور محمد مزوز (جامعة حمد الخامس/الرباط)، فتطرقت لموضوع الحداثة: جدل الرغبة فيها والرغبة عنها،حيث تناول فيورقته ثلاثة محاور أساسية، هي: الرغبة في الحداثة، الرغبة عن الحداثة،من الرغبة إلى الإرادة، مشيرا إلى أنه، منذ أن سرق بروميثيوس النار من الآلهة - ومنح الإنسان قبسا من جذوتها - إلى إعلان هابرماس عن «مشروع الحداثة الذي لم يكتمل بعد»، ما انفك الإنسان يكافح ليل نهار بغية استكمال هذا المشروع الذي يتأبى الاستكمال. هل لأن الحداثة غواية لا تقهر؟ أم فتنة لا تهدأ؟ أم طموح لا يتحقق؟ لقد تجلت الرغبة في الحداثة بكونها تحمل معها انقلابا في العوائد (عوائد التفكيروالممارسة على السواء)؛ فهي تنقلنا بالضرورة نحو الجديد؛ أي إلى عالم المجهول غير المألوف لدينا. وهذه النقلة ليست من اليسر، حيث إنها تجري بسلاسة. والرغبة عن الحداثة كون قد يحق القول أن نصف الخلاص قد تحقق، فمن الشطط إنكار كل شيء؛ أي القول بفشل مشروع الحداثة جملة وتفصيلا. فنتائج التقنية؛ أي المنتوجات التكنولوجية الهائلة والمتسارعة، غنية عن البيان وليست في حاجة إلى من يدافع عنها، بل أكثر من ذلك أضحت هذه النتائج والمنتوجات حاجة ضرورية لدى خصوم الحداثة أنفسهم؛ فمستويات التعليم والصحة والمواصلات... وغيرها، تشهد على الجوانب المنجزة من المشروع الحداثي، وهي شهادة لا يمكن ردها بأي حال من الأحوال. كما تجلت مرحلة من الرغبة إلى الإرادة في أن مشروع الحداثة يعود إلى نقطة انطلاق بعيدة،تجد في الرغبة الإنسانية مبتدأها. أما منتهاها، فمحكوم عليه بعدم الاكتمال. إنها الرغبة الطفولية في الاكتشاف، والولع بالجديد، ثم الإعراض عنه للعودة إلى متعة اكتشاف جديدة... وهلم جرا.بالإضافة إلى أن هناك رغبة فطرية لا تقاوم لدى الكائن البشري، أعني رغبة الاكتشاف والتجاوز المستمر للمألوف والمتداول، يضاف إلى ذلك رغبة الاستمتاع بالمنتجات واستهلاك السلع والبضائع. واختتم الأستاذ محاضرته بالحكمة الأبيقورية : «تذكر أن غاية رغباتك هي الحصول على ما ترغب فيه، وأن الغاية من تخوفاتك هي العمل على تجنبها. فمن لا يحقق رغباته هو شقي، ومن يسقط ضحية تخوفاته هو بئيس»(Pensées vii؛ معنى هذا أنه من اللازم أن تتكون لدينا إرادة الرغبة - لكن ليس الرغبة المتهورة. وكان الختام المسك، مع مداخلة الدكتور محمد سبيلا الذي تطرق لمفهوم الحداثة والتحديث في الفكر المغربي المعاصر، حيث تنقلمع مشروع المفكر الراحل محمد عابد الجابري والمفكر عبد الله العروي، مركزافي حديثه على تلقي الحداثة عند هؤلاء المفكرين، على اعتبار أن الجابري زاوج بين التراث والحداثة عبر رصده لإشكالية التراث في كتاب «نحن والتراث» ونحن والحداثة؛ فهذا المفكر الراحل بحث في كيفية تشكل التراث انطلاقا من بنية العقل، المنهجية الكانطية، في انفصال واتصال مع هذا الموروث. وفي طرحه لإشكال الحداثة والتقليد، رصد الدكتور سبيلا مجموعة من الأسئلة: هل يجب تغيب التراث وتبني الحداثة؟ أم التوجه المباشر لها والقطع إيبيستمولوجيا مع كل ما له علاقة بالتراث؟ فإذا اعتبر العروي التراث تراكما تاريخيا وجب التخلي عنه؛ فالدكتور سبيلا أكد على أن التراث ليس بقميص يمكن استبداله متى نشاء، بل هو تصور ومعان للحياة. فالحداثة، على حد قوله ليست نزوعات فردية luxe de choix، وإنما اختيارات مجتمعية وتفكير في مجتمع. لينهي حديثه، بل الإشكال الآتي: هل يتم التفكير في الحداثة بالقطيعة أم بالاستمرارية؟يبقى هذا السؤال من أهم إشكالات الحداثة في مجتمعنا الراهن.