الملك يأذن بدورة المجلس العلمي الأعلى    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    "الجنائية الدولية" تطلب اعتقال نتنياهو    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    المغرب يستضيف أول خلوة لمجلس حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية        عجلة البطولة الاحترافية تعود للدوران بدابة من غد الجمعة بعد توقف دام لأكثر من 10 أيام    دراسة: تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    جمعويون يصدرون تقريرا بأرقام ومعطيات مقلقة عن سوق الأدوية    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوبا الثاني الملك الأمازيغي المثقف
نشر في ناظور24 يوم 16 - 05 - 2014

" كانت شهرة يوبا الثاني بخدماته العلمية تفوق شهرته بملكه."
المؤرخ پلين الأكبر
المقدمة:
من يتأمل الدراسات التاريخية المغربية، فلن يجد ما يشفي غليله فيما يخص تاريخ المغرب القديم، أو ما يسمى بتاريخ الأمازيغيين وثقافتهم وحضارتهم. فقد انصبت هذه الدراسات على التاريخ الوسيط، والتاريخ الحديث، والتاريخ المعاصر، مع غض الطرف عن أهم مرحلة حضارية في تاريخ المغرب هي فترة الممالك الأمازيغية في صراعها مع الرومان والوندال والبيزنطيين. وتسمى هذه المرحلة التاريخية أيضا عند الدارسين الغربيين بتاريخ شمال أفريقيا أو تاريخ البربر أو تاريخ الأمازيغ قبل دخول المسلمين إلى تامازغا. بل وصفت هذه المرحلة بالجاهلية في بعض الدراسات العربية؛ لأنها فترة سبقت دخول الإسلام إلى المغرب، كما يبدو ذلك جليا في كتاب (الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه) لعباس الجراري، حيث عنون الفصل الأول ب(وجود المغرب الحضاري والثقافي في العصر الجاهلي) . علاوة على ذلك، فقد كانت أغلب الدراسات التاريخية والأدبية تبدأ بعصر الفتوح في تحقيب تاريخ المغرب وتدوينه، كما فعل عبد الله كنون في كتابه (النبوغ المغربي في الأدب العربي) ، حيث استهل كتابه القيم بعصر الفتوحات الإسلامية، منتقلا من دولة الأدارسة ، مرورا بالمرابطين والموحدين والمرينيين والوطاسيين والسعديين، وصولا إلى الدولة العلوية في مختلف مراحلها التاريخية، ناسيا أهم فترة في تاريخ المغرب، وهي فترة الأمازيغيين التي تعد مرحلة مهمة للتعرف على حضارة المغرب القديم، ورصد إسهامات الأمازيغ الحقيقية في بناء الحضارة الإنسانية بصفة عامة، والحضارة المتوسطية بصفة خاصة. وفي هذا الإطار، يقول عباس الجراري:" من بين قضايانا التاريخية والفكرية، تبدو قضية مغرب ما قبل الإسلام ذات أهمية كبيرة، لما صادف هذا المغرب عند المؤرخين المغاربة والمسلمين عامة من إهمال يكاد أن يكون تاما.والسبب في هذا الإهمال راجع إلى الفكرة التي انطلقوا منها في التأريخ له، والتي وهموا فيها أنه ولد مع الفتح الإسلامي، وإنه لم يكن له من قبل أي وجود. فكان أن عرضوا عن تلك الفترة، وغدا التاريخ عندهم بالنسبة للمغرب لايبدأ إلا مع الفتح.
وعلى الرغم من أننا لانشك في أن الإسلام أعاد خلق المغرب، وغير مجرى الحياة فيه، وفتح له آفاق حضارة وثقافة جديدتين، وجعله في نطاق هذه الآفاق يتحمل رسالة نهض بها خلال التاريخ.ومازال، فإن وهم المؤرخين في فكرتهم يبدو سافرا لمن يطالع في أبحاث الدارسين من الأجانب، فيتعرف إلى تاريخ المغرب في المرحلة السابقة على الإسلام، ويجده حافلا بالأحداث وملامح الحياة، وبما يستحق أن ينظر فيه ويعنى به، على الرغم مما يكتنفه من غموض واضطراب يعزيان إلى عدم تطور هذا التاريخ في خط طبيعي وباطراد، إذ تعرض لانتكاسات ساهمت في خلق فجوات تمثلها الحلقات المفقودة التي نصادفها باستمرار، ونحن نتتبع تاريخنا القديم، وما تعرض له من تغيرات حضارية وثقافية تحمل معها من الغموض والإبهام بقدر ما يكون فيها من مدى وعمق."
هذا، وإذا كان تاريخ المغرب القديم، بكل مراحله وحقبه التاريخية، قد أهمله المؤرخون المغاربة القدامى (ابن خلدون، والناصري، وابن عذارى المراكشي، وعبد الواحد المراكشي، وليون الأفريقي، و غيرهم...)، وينطبق هذا الحكم نفسه على كثير من المؤرخين المعاصرين، فماذا نقول عن شخصية الحاكم الأمازيغي يوبا الثاني؟ إذ لم نعثر لها على أثر جلي وبين في كتابات المؤرخين المغاربة، سواء أكانوا قدامى أم محدثين ومعاصرين، على الرغم من فرادة هذه الشخصية المثقفة الموسوعية ، وتميز نبوغها في تاريخنا المغربي القديم بإسهاماتها الثقافية، وإنجازاتها المتنوعة في مختلف الميادين والأصعدة والمستويات ، مع استثناء بعض المصادر والمراجع القليلة جدا التي أشارت إليها بشكل سريع ومقتضب، مثلما هو شأن كتاب: عباس الجراري (الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه) ، وكتاب (الممالك الأمازيغية في مواجهة التحديات) لمحمد بوكبوط ، ومحمد شفيق في كتابه ( لمحمة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين) ، والعربي اكنينح في كتابه ( في المسألة الأمازيغية) ، وجميل حمداوي في كتابه(المقاومة الأمازيغية عبر التاريخ) ...
وأدهى من ذلك وأمر أن إبراهيم حركات يذهب في كتابه (المغرب عبر التاريخ) إلى أن المغرب ، في عهد المرحلة الرومانية، لم يعرف مفكرا أو مثقفا بارزا إلا بعد الفتوحات الإسلامية. وفي هذا المنحى، يقول الدارس:"لكن المغرب لم ينتج من المفكرين البارزين في عهد الرومان أحدا، أو على الأقل من الذين أنتجوا في حقل الفكر شيئا مشرفا.وعلى العكس من ذلك بعد الفتح الإسلامي ببضعة عقود حيث ظهر علماء ومثقفون بارزون من البربر. "
إذاً، يصدر إبراهيم حركات أحكاما مطلقة وعامة خالية من الدقة العلمية؛ لأنه يتناسى أن يوبا الثاني قد خدم الفكر الإنساني أكثر من مثقف أمازيغي إلى يومنا هذا، فقد ألف كتبا شتى لا يمكن عدها ولا إحصاؤها في مختلف المعارف والعلوم والفنون، يعجز المثقفون الأمازيغيون المحدثون والمعاصرون أن يجاروه في ذلك شأوا وسبقا وموسوعية، مهما كان باعهم العلمي أو شأنهم الفكري والثقافي.
أما الكتابات الكولونيالية (الاستعمارية)، فقد اهتمت اهتماما كبيرا بيوبا الثاني، مثل: كتاب (المغرب القديم) لجيروم كركوبينو (Jérôme Carcopino) ، وكتاب( تاريخ شمال أفريقيا القديم ) لستيفان أگصيل(Stephane Gsell) ، وكتاب (تاريخ شمال أفريقيا) لشارل أندري جوليان (CH.André Julien)...
بيد أن عبد الله العروي يشكك في هذه الكتابات الكولونيالية، ويسفه منهجها الاستعماري، مادام هدفها الحقيقي هو الدفاع المستميت عن التفوق الحضاري الغربي مقارنة بالتفوق الحضاري الأمازيغي أو العربي. وفي هذا الإطار، يقول عبد الله العروي في كتابه( مجمل تاريخ المغرب):" من المعلوم أن معرفة التاريخ تتبع طريقا معاكسا لاتجاه توالي الأحداث، يعرف الإنسان مباشرة الوقائع المعاصرة له، ولا يعرف إلا بمشقة الأحداث البعيدة عنه. وهكذا لم تدرس، في تاريخ المغرب، الحقبة التي سبقت تأسيس محطات فينيقية، أواخر القرن العاشر ق.م، إلا في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وهو موضوع تخصص فيه الدارسون الاستعماريون، وجالوا فيه بدون منازع، حيث لم يكن للمغاربة، قدامى ومحدثين، ما يقولونه في شأنه.
أمر طبيعي حيث إن علم أصل الإنسان حديث جدا.
كانت دراسات الحقبة المذكورة، إلى غاية الحرب العالمية الأولى، مرتبطة بالكلاسيكيات (أي بالأدبيات اليونانية والرومانية)، كان ستيفان أكصيل من جامعة الجزائر هو شيخ مؤرخي المغرب القديم في تلك الفترة.وكانت نتائج الحفريات، التي تقدمت مناهجها تقدما باهرا في أوروبا، وطبقت في الشمال الأفريقي، لاتستعمل إلا لمراجعة وتدقيق المعطيات الأدبية التي كانت تحتل دائما المرتبة الأولى. بعد 1930م، دخلت دراسات المغرب القديم طورا جديدا عندما حل ليونيل بالو محل أكصيل، فحصل فعلا تغيير عام، وقدمت الوثيقة الأثرية على الوثيقة الأدبية، غير أن الاتجاهين كانا يخضعان معا للخلفيات الإيديولوجية نفسها، مما حد من تأثير التجديد المنهجي.إن أمثال أكصيل وبالو هم الذين روجوا، باسم العلم الموضوعي، تلك الأفكار المشوهة عن ماضي المغرب التي سنعرض لها بالنقد مرارا في الصفحات اللاحقة. ليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الاستغراب حيث إن المتخصصين في ما قبل التاريخ جاءوا بعد المؤرخين.أي: بعد أن رسخت في الأذهان دعاوى الاستعمار."
ويتبين لنا، مما سبق ذكره، بأن الدراسات الكولونيالية التي درست المغرب القديم بصفة عامة، وتاريخ يوبا الثاني بصفة خاصة، تحمل ، في طياتها، خلفيات سياسية وإيديولوجية وعرقية، حتى وإن غلفت في ثوب علمي موضوعي ، مستندة في ذلك إلى الوثائق والحفريات والنصوص والاستكشافات الدقيقة.
 شخصية يوبا الثاني:
ولد أغسطس أو يوبا أو جوبا الثاني (Juba2) في مملكة نوميديا، وهو ابن ملك يوبا الأول الذي قاوم الرومان مقاومة شرسة، ووقف في وجه خصمين لدودين من أبناء تمازغا هما: بوگود وبوكوس، وقد استولى على مملكتيهما، واسترجع أملاك أبيه يوبا الأول .
وبعد هزيمة يوبا الأول أمام القوات الرومانية، أسر يوليوس قيصر ابنه يوبا الثاني الذي كان طفلا صغيرا بين خمس وسبع سنوات، فحمله إلى روما ، حيث نشأ في البلاط الفاخر، وعاش في كنف الإمبراطور أغسطس خلف قيصر، فعلمه الفنون والآداب والعلوم وشؤون الحكم في مدارس روما وأثينا ومعاهدهما .
ونظرا لمكانة يوبا الثاني الثقافية، وصدق ولائه، وإخلاصه للإمبراطور الروماني القيصر أوكتافيوس، فقد أجلسه هذا الأخير على عرش موريطانيا الغربية؛ نظرا لما قام به من خدمات جليلة لصالح شعبه. وبالتالي، حكم يوبا الثاني خمسين سنة في ظل الحماية الرومانية. ولم يضيع هذه السنوات إلا فيما يعود على شعبه الوفي بالخير والسؤدد والهناء. وبالتالي، "عرفت أيامه بالاستقرار والهدوء حتى توفي سنة23م، ليخلفه ابنه بطليموس الذي نهج سياسة أبيه في توحيد الأمازيغيين، وتحقيق آمالهم وطموحاتهم.
وقد توطدت العلاقات الإدارية والشخصية بين يوبا الثاني وقياصرة روما حتى استصحبه "كايوس قيصر، ولي عهد الإمبراطورية الرومانية،... إلى الشرق، وزوجه هناك من الأميرة كليوبترا (La princesse Cléopâtre) ، ابنة أنطوان وكليوبترا ملكة مصر".
وما يلاحظ على شخصية يوبا الثاني أنها شخصية متميزة بموسوعيتها الفكرية والثقافية ، وذات خبرة محنكة في مجال السياسة والتدبير الإداري، بله عن نبل أخلاقها، ووفائها الشهم، وإيثارها التضحية من أجل الشعب ولمصلحة الشعب. وفي هذا الصدد، يقول الباحث المغربي محمد بوكبوط:" لعله من المفيد الإشارة إلى شخصية هذا الملك المتميزة، فعلاوة على أصله النوميدي الأمازيغي، وتربيته الرومانية، فهو بونيقي بما ورثه مع قومه من حضارة قرطاج، وإغريقي بثقافته وذوقه الفني، ومصري بزواجه من ابنة كليوباترة ملكة مصر، كل هذه الجوانب روعيت بدون شك من طرف الإمبراطور عند اختيار يوبا لاعتلاء عرش موريطانيا.".
وعلى الرغم من الازدهار الحضاري الذي عاشته تمازغا في عهد يوبا الثاني، فقد كانت هناك ثورات أمازيغية تطالب بالاستقلال والتحرر من قبضة الرومان؛ مما جعل بعض المؤرخين يعتبرون الأمازيغيين "مفطورين على قلة الولاء"، ولكنهم في الحقيقة مفطورون على الحرية والاستقلال، والتخلص من الاستعمار الأجنبي المستغل .
هذا، و قد تعرض يوبا الثاني للاغتيال في أواخر حياته، بعد أن عاش نصف قرن في كنف الرومان. ومن ثم، أصبح المغرب، بعد وفاة يوبا الثاني، تابعا للحكم الروماني مباشرة. لذلك، فقد دخل الأمازيغيون المغاربة في مقاومة شرسة ضد القوات اللاتينية، انتهت بطرد الرومان أولا، والوندال ثانيا، والبيزنطيين الغزاة ثالثا.
الإنجازات السياسية والإدارية والاقتصادية:
تمكن يوبا الثاني، ومن بعده ابنه بطليموس، من توحيد القبائل الموريتانية في إطار مملكة مورية واسعة الأطراف، تنقسم إلى قسمين: موريطانيا القيصرية ، وعاصمتها شرشال، وموريطانيا الطنجية، وعاصمتها وليلي. ومن أهم المدن التي كانت تابعة ليوبا الثاني في الأربعين للميلاد : طنجيس، وزيليس، وليكسوس، وسبتة، وتمودة، ووليلي، وبناسة، وتموسيط، وتوكولوسيدا، وبوماريا...
وقد كانت موريطانيا كلها خاضعة للوصاية الرومانية على يد يوبا الثاني منذ 25 ق.م . ويعني هذا أن يوبا الثاني - الذي تربى في العاصمة الإيطالية- قد كان حليفا للرومان، وتابعا وفيا لهم، وصنيعة في أيديهم. لذلك، سمحوا له بإدارة مملكتي موريطانيا الطنجية وموريطانيا القيصرية على حد سواء.
وعلى أي حال، فقد حكم يوبا الثاني موريطانيا الطنجية و القيصرية " تحت مراقبة روما، وبالنيابة عنها طوال الفترة بين 25 و23 قبل الميلاد، قام خلالها بتمهيد السبيل أمام الحكم الروماني."
وعليه، فأول ما قام به يوبا الثاني، كما قلنا سالفا، بمساعدة ابنه بطليموس الذي تولى شؤون القيادة العسكرية، توحيد القبائل الأمازيغية في المغرب، وتمدين مملكته حضاريا وثقافيا وعلميا، ثم تزيينها عمرانيا وهندسيا بالطريقة الجمالية اليونانية والرومانية والقرطاجنية والأمازيغية، في إطار وحدة سياسية ومجتمعية وثقافية عامة، تنصهر فيها جميع هذه الملامح الموروثة. وبعد ذلك، اتخذ يوبا الثاني عاصمتين لمنطقة نفوذه ( شرشال) في الجزائر التي سماها بال( قيصرية) إرضاء للروم ولإمبراطورها قيصر ، فأمر يوبا الثاني رعاياه الأوفياء بتقديس القيصر بصورة رسمية ، كما جعل من (وليلي) عاصمة له في المغرب كما يعتقد كاركوبينو .
هذا، وقد أنشأ يوبا الثاني في عاصمتيه" شرشال" و" وليلي" حكما ديمقراطيا نيابيا تمثيليا، إذ طالب بتكوين مجلس بلدي يتم انتخاب أعضائه من بين المواطنين الأحرار ، ويتولى كل مجلس تسيير أمور المدينة على غرار المدينة الرومانية .
بالإضافة إلى الجانب الإداري، فقد حقق عصر يوبا الثاني طفرة اقتصادية متنوعة، وازدهارا تجاريا كبيرا ؛ لأنه شجع الزراعة والصناعة والتجارة. وأقام مشاريع صناعية كبرى في عدة مدن، مثل: صناعة الأصباغ الأرجوانية، وتمليح السمك، وصنع الكاروم (Garum)، وهو مرق مصنوع من السمك، يستعمل عوض التوابل لطهي الطعام ( يشبه كنور السمك حاليا)، ويستعمل كذلك دواء في الاستشفاء من بعض الأمراض.
وفي الحقيقة ، فقد تميزت أيام يوبا الثاني (25 ق.م-33 بعد الميلاد) بالازدهار الاقتصادي في جميع المجالات، وعلى جميع المستويات والأصعدة والقطاعات. وبطبيعة الحال، فقد كان عصر يوبا الثاني عصر الرخاء الاقتصادي، وعهد التطور التجاري، وفترة تحسن الأحوال الاجتماعية، وانتعاش النهضة الفكرية والثقافية.
إسهامات يوبا الثاني في مجال الفكر والثقافة :
تعد إسهامات يوبا الثاني في مجال الثقافة والفكر أهم من إنجازاته السياسية والإدارية والاقتصادية، فقد عرف يوبا الثاني مفكرا ومثقفا وعالما أكثر مما عرف حاكما سياسيا.
مؤلفات يوبا الثاني:
يعتبر أغسطس أو يوبا أو جوبا الثاني - إلى يومنا هذا- من كبار العلماء والمثقفين الأمازيغ الذي عرفوا عند اليونان والرومان والمثقفين اللاتين بسعة المعرفة، والتبحر الموسوعي.إذ كان يمتاز بكثرة العلم والاطلاع، وكان كثير السفر والبحث والتجوال، وموسوعي المعارف والفنون. وقد ألف كثيرا من الكتب والبحوث والمصنفات في التاريخ والجغرافيا والرحلة والطبيعيات والفنون والآداب والطب والعلوم الاستكشافية. لكن هذه المؤلفات النادرة والثمينة لم تصل إلينا سليمة، بل ثمة إشارات إليها في كتب المؤرخين مبثوثة هنا وهناك...
هذا، ويرى الدكتور حسين مجدوبي أن من أسباب ضياع مؤلفات يوبا الثاني هي الحروب التي شهدتها فترة بطليموس وأيديمون مع القوات الرومانية إبان كاليغولا. وفي هذا الإطار، يقول الباحث: "ونعتقد أن السبب الرئيسي في فقدان الإرث التاريخي المكتوب في المغرب في عهد يوبا الثاني يعود أساسا إلى الحروب التي شهدتها المنطقة، وخاصة المواجهات مع الرومان في أعقاب إقدام الامبراطور الروماني كاليكولا على اغتيال الملك المغربي بطليموس، وانحلال الحكم المركزي بكل ما حمله ذلك من تدهور وضعية مدن رئيسية، مثل: وليلي ، ودخول المغرب في تشرذم لم يساعد على إقامة حياة عمرانية مستقرة، توفر الظروف لحفظ الإرث المكتوب، ومن ضمنه إرث يوبا الثاني وآخرين، ربما قد يكونوا قد وجدوا ، ولم تصل أخبارهم."
هذا، ولا نعرف من مؤلفات يوبا الثاني " سوى تسعة عناوين . ولاشك أنه نشر كثيرا غيرها. وكانت كلها باللغة الإغريقية، ولم يصلنا أي واحد منها. ولكن بقيت لنا منها مقتطفات كثيرة بفضل الاستشهادات المروية عنه بنصها إلى حد ما، والمبعثرة في كتب مختلف المؤلفين، مثل: پلين، وبلوتراك، وأثيني، وغيرهم. والحق أن جل هذه المقتطفات قصيرة جدا، كما تعسر معرفة الكتاب الذي أخذت الفقرة منه، عندما ينعدم ذكر المرجع..."
ومن أهم هذه الكتب التي ألفها يوبا الثاني، نذكر: ليبيكا، وأرابيكا، وموسوعة الموسيقى الضخمة، وكتاب تاريخ روما ، و الآثار الرومانية، وكتاب الأشباه(15 جزءا) ، ومختصر الآشوريين ( جزءان)، ورسالة صغيرة عن نبات أوفورب، وكتاب عن فن الرسم أو الرسامين (ثمانية أجزاء)، وتاريخ المسرح، وغيرها من الكتب والرسائل والمخطوطات الضائعة...
وعليه، فقد كان يوبا الثاني - حسب شارل أندري حوليان- في كتابه(تاريخ شمال أفريقيا):" يحسن اليونانية واللاتينية والبونيقية، وكان في تآليفه آخذا من كل شيء بطرف ، فلم يبق علم واحد غريبا عنه، وكان في إمكانه أن يكتب في كل موضوع بفضل مكتبته الثرية ونساخه الذين لا يعرفون التعب .غير أن تآليفه لم تبق بعده ، ولعله من المؤسف أن يكون كتاب ليبيكا قد ضاع، إذ ربما وجدنا في كتاباته عرضا لبعض المعلومات عن التقاليد المحلية."
وقد تحامل عليه ستيفان أگصيل كثيرا، فاعتبره ناقلا للكتب السابقة أو كتب معاصريه، ولم يبدع في أعماله كثيرا، بل رصد له كثيرا من الأخطاء العلمية وسفاسف الأفكار التي تقدح في علميته وعبقريته الفذة.ولكنه يتناسى أن يوبا الثاني كان شغالا في مجال الاستكشاف والتنقيب والقراءة والاطلاع، وكثير البحث والدرس والعلم، وليس إنسانا عاديا ينقل من هنا وهناك، كما يقول أگصيل في هذه القولة التي تنم عن حقد دفين يكنه ليوبا الثاني:" نعترف صراحة أن هذا العلم لم يكن من نوع رفيع، وأن هذه المؤلفات العالمة كانت على ما يظهر نقولا مستعجلة، وأن مجهود الناسخين فيها، قد هيأ بصفة واسعة عمل المؤلف.والحقيقة أننا باقتصارنا على فقرات هزيلة مما كتبه يوبا، وكذلك بعدم معرفتنا للمؤلفات التي رجع إليها عند كتاباته، فإننا في الغالب لانستطيع تقدير ما ساقاه من سابقيه، وما أضافه هو إلى مصادره.ولكننا مع ذلك نستطيع أن نؤكد أنه استقى جميع علمه فيما يخص تاريخ الأشوريين من بيروز(Bérose)، إذ أكد ذلك هو بنفسه.واعتمد في (العربيات/ أرابيكا) على عدد من رفقاء الإسكندر ومؤرخيه، خصوصا منهم الربان أونسكريت(Onésicrite)، والقائد البحري نييارك(Néarque).وفيما يخص أصول روما، فإن الكثير من فقراته تتطابق تماما مع فصول من دونيس الهليكرناسي(Denys D'Halicarnasse) الذي نشر كتابه عن (الأركيولوجية الرومانية) في سنة 7ق.م.فهو-إذاً- قد نقل عن هذا الكتاب، ما لم يكونا معا قد نقلا عن كتاب ثالث.أما النقول المتعلقة بالأنظمة الرومانية ، والتي لابد أنها جاءت من كتاب (الأشباه) ، فإنها تشهد باعتماد يوبا على فارون(Varron)، مع إضافات أو تعديلات أخذت من مصادر مختلفة، كدونيس الهلكرناسي أو غيره. وقد قيل عن يوبا اعتمد كثيرا على تيت ليف في تاريخ روما، وعلى أسينيوس بوليون في نهاية الجمهورية.وكل هذه مجرد فروض واهية.لكن المؤكد هو أنه رجع إلى مؤرخ لاتيني آخر من أهل عصره، هو سولبيسيوس كالبا(S.Galba) ، فقد ذكر اسمه بمناسبة حديثه عن روملوس. "
ويضيف ساخرا من أخطاء يوبا الثاني" وبالتأكيد، فإن يوبا كان واسع المعرفة، فلقد أعطى على ذلك حجبا كثيرة.لكن المؤسف هو أن علمه كان يفوق بكثير قدرته على التمييز، بحيث يظهر وكأنه غير قادر على التمييز بين الأشياء المهمة وبين التوافه والترهات.وكانت هذه الأخيرة هي التي يتأنق في جمعها.وكان يرتكب أشنع الأخطاء."
لكن العلماء الآخرين من اليونان واللاتين هم الذين أخذوا الكثير عن يوبا الثاني، فهم يعترفون بذلك رسميا في كتاباتهم، ولا ينكرون ذلك ، كما هو حال المؤرخ پلين الأكبر الذي ذكر اسم يوبا الثاني مرات كثيرة في العديد من كتبه ومؤلفاته الموسوعية، واعتمد عليه أيضا بلوتارك في مؤلفاته التاريخية، وأثر كذلك في كتابات شخصيات ثقافية أخرى، مثل: تيت ليف، وأسينيوس بوليون، وأبيان، وإليان...
وبناء على ماسبق، تتجلى عظمة يوبا الثاني في مجالات ثقافية وفكرية متنوعة، يمكن حصرها فيما يلي:
 الاهتمام بالمكتبات والعلماء والمتاحف:
اهتم يوبا الثاني اهتماما متميزا بالجانب الثقافي والعلمي والفكري، فقد اعتمد على المقاربة الثقافية في تحقيق التنمية الشاملة ، والدليل على ذلك عنايته بالعلماء والمكتبات والتوثيق العلمي والمتاحف:
 بناء المكتبات، وجمع المخطوطات والوثائق :
أنشأ يوبا الثاني خزانات ضخمة في المدن التي كان يشرف عليها، خاصة مكتبات قصوره، وقد جمع فيها أنواعا من الكتب والمخطوطات القيمة والدراسات النفيسة، خاصة المخطوطات والكتب اليونانية والمصرية واللاتينية والفينيقية التي توجد في مكتبة قرطاج ، وقد ورثها عن جده الأكبر همبسال . وقد حافظ على نسخة أصلية من رحلة حانون، وربما يكون قد ترجمها بنفسه إلى اليونانية. ويعني هذا أنه جمع كل مخطوطات مكتبات قرطاج الزاخرة بمختلف المؤلفات والكتب القيمة في مختلف مناحي الحياة والفكر والعلم. وفي هذا الإطار،يقول ستيفان أگصيل:" وكان لابد له، لإنجاز بحوثه وكتاباته، من خزانة حسنة ومن عدد كبير من الناسخين والملخصين، وربما حتى من المساعدين الذين لهم منزلة أعلى.وكانت ثروته الملكية تجد في هذه المصاريف مساغا كريما.واشتهر عنه أنه كان يؤدي الثمن بسخاء، فكان المحتالون يستفيدون منه دون حياء.وقد باع له ذات يوم بعض المحتالين مخطوطا عولج بلباقة اكتسبه مظهرا محترما، وقالوا عنه إنه لفيتاغوراس.ولاشك أن المؤلفات الإغريقية التي لابد أنها تكون القسم الأكبر من خزانته، قد كانت مصحوبة بعدد كبير من المخطوطات اللاتينية.وكان يملك كذلك مخطوطات بونيقية.فهل قرأ في نسخة من النص الأصلي قصة الرحلة التي قام بها حنون بمحاذاة الشواطئ الأفريقية، والتي كانت معروضة في أحد معابد قرطاجة؟ إن هذا الافتراض مشكوك فيه جدا.ولاشك أن يوبا اكتفى بالترجمة الإغريقية لهذه الوثيقة.
أما عن منابع النيل، فإنه رجع إلى كتب بونيقية.ويمكن الاعتقاد أن الكتب البونيقية التي كانت على ملك جده هيمبسال، قد كانت في مكان لائق بخزانته، وربما يكون قد نجح في الحصول على تلك الخزانات القرطاجية التي كان مجلس الشيوخ الروماني من قبل قد تخلى عنها للأمراء من أسرته."
وعليه، فقد كانت مكتبات يوبا الثاني العامة، وخزاناته الخاصة العامرة بالكتب والمخطوطات والوثائق القيمة والثمينة، مثالا دالا وشاهدا حقيقيا على مدى اهتمام يوبا الثاني بالفكر والعلم والثقافة. وبالتالي، لم يكن الإنسان الأمازيغي القديم جاهلا أو أميا أو متعطشا إلى الحروب، بل كان يعنى بالتأليف والكتابة والإنتاج كما وكيفا، بل كان يوبا الثاني سيد المثقفين الغربيين في تلك الآونة، ومستشارا ثقافيا بارزا للقيصر أغسطس.
 العناية بالعلماء:
استقطب يوبا الثاني ، نحو عاصمتيه شرشال ووليلي، كبار الأدباء والفنانين والنحاتين والعلماء والأطباء من قرطاجنة واليونان وإيطاليا...وفي هذا الصدد، يقول أكصيل:" بعد قرطاجة، فشرشال هي الموقع الذي أعطى أكثر النقوش الإغريقية بشمال أفريقيا، وأكثرها راجع للعهد الروماني، وغيرها لايمكن التأريخ له. ولكن اثنتين منها على الأقل قد وقع نقشهما قبل استيلاء الإمبراطورية...فقد كان يوبا بفضل إحاطة نفسه برجال من أصل هليني: كالطبيب أوفرب والممثل ليونتيوس..وسكرتارين يساعدونه في تهيئة كتاباته، ومهندسين ومثالين وفنانين آخرين وقع استدعاؤهم للعمل في العمارات التي كان يزين بها عاصمته..."
ويعني هذا أن يوبا الثاني قد جمع حوله كثيرا من العلماء والفنانين والنساخين والأدباء والمبدعين والعلماء والمهندسين ...وكان يغدق عليهم الأموال والهبات والمكافآت تشجيعا لهم وتحفيزا وتقديرا وتنويها وتكريما.
 الاهتمام بالمتاحف:
بنى يوبا الثاني، في مملكتيه القيصرية والموريطانية، مجموعة من المتاحف الأركيولوجية، وكان الهدف منها جمع الآثار، والمنحوتات، والنقود، والوثائق، والأدوات ، والمعادن النفيسة، والمستكشفات الطبيعية والتاريخية والعلمية والجيولوجية، وقد عرض فيها كل ما وصل إليه بنفسه في أثناء استكشافاته الطبيعية، ورحلاته العلمية، و جولاته السياحية، أو في أسفاره الدبلوماسية والإدارية والسياسية والاقتصادية، أو في أثناء خرجاته للتعلم والبحث والتجريب. أو تعرض فيها ما وصل إليه علماؤه في أثناء رحلاتهم العلمية، واستكشافاتهم الجغرافية.
ومن أهم المتاحف التي أشار إليها الدارسون ، وأخص الكولونياليين منهم، متحف شرشال ومتحف وليلي. فقد ضم المتحف الأول كل المنحوتات البرونزية والنقود والأشكال والتماثيل التي كانت توجد بالمملكة القيصرية أو نوميديا، ومازالت بعض تلك الآثار شاهدة على غنى متحف شرشال، وناطقة بعظمة يوبا الثاني ، وما شهده عصره من إنجازات ثقافية وفنية عظمى.
ومن جهة أخرى، يشهد متحف وليلي تلك العظمة نفسها بما يحويه من منحوتات، وتماثيل ، وصور، وأدوات، وأشكال، ومواد، ونقود، وآثار معبرة عن فرادة عصر يوبا الثاني في التاريخ المغربي القديم.
 الموسوعات العلمية:
يعد يوبا الثاني من أهم المؤلفين للموسوعات في التاريخ القديم؛ ويمكن القول بأن الأمازيغ كانوا سباقين إلى تأليف الموسوعات الكبرى. فقد ألف يوبا الثاني موسوعة ضخمة، في ثلاثة مجلدات ضخمة، سماها بالليبيات أو ليبيكا(Libyca )، جمع فيها رحلاته العلمية المختلفة ، وضمنها كشوفاته الطبيعية والجغرافية المتنوعة، وأرفقها بأحاديثه عن المغرب، سيما ما يتعلق بالمجتمع الأمازيغي، على مستوى اللغة والعادات والتقاليد والأعراف. بمعنى أن هذا الكتاب مخصص لتاريخ أفريقيا الشمالية وباقي القارة الأفريقية. وفي هذا السياق، يقول ستيفان أگصيل:" كان مصنف (الليبيات) يتألف من ثلاثة كتب على الأقل، تشمل على ما يحتمل مواد مختلفة جدا، من الجغرافيا، إلى التاريخ، إلى التاريخ الطبيعي، إلى الميثولوجيا وغير ذلك.وكان يوبا في مؤلفه هذا يقتبس من رحلة حانون ، فنستنتج نحن أنه قد وصف سواحل القارة، ويمكن أن نفرض من خلال نص لپلين أنه وصف جبال الأطلس كذلك، ولاشك في هذا الكتاب قد ذكر نتائج بحثه عن النيل وعن جزائر كناريا، كما ذكر المصبغات التي أنشئت بأمر منه في الجزائر الفرفورية. "
وقد تحدث الكاتب فيه أيضا عن مجموعة من الحيوانات التي كانت منتشرة في موريطانيا، مثل: الفيلة، والنمور، والأسود، والحمر الوحشية، والظباء...كما تحدث عن أنواع مختلفة من النباتات، مثل: الليمون...
 الآداب:
كان يوبا الثاني معجبا بالمكتبات الأدبية، فقد اطلع على الكثير منها، حينما نفي إلى إيطاليا قبل تتوجيه بالحكم، فقد مارس كتابة الشعر والنقد، فقد نقد دور لييونتوس (Leonteus) في مسرحية تراجيدية تسمى بهيبسيبل (Hypsipyle). وفي هذا الصدد، يقول ستيفان أگصيل:" وربما كان ينظم الشعر في بعض المناسبات، فقد وصلتنا بعض الأبيات الشعرية التي كان قد بعث بها إلى الممثل ليونتيوس الذي لم يحسن تمثيل دوره في مأساة هبسبييل؛ لأنه اخطأ بتناوله عشاء مفرطا قبل التمثيل.فسخر منه يوبا بغلاظة على شرهه."
هذا، وقد اهتم أيضا بالكتابة السردية ، وسعى إلى جمع القصص وتوثيقها، حيث تضمنت موسوعة يوبا الثاني، خاصة (ليبيكا)، قصصا أمازيغية فانطاستيكية متنوعة ، خاصة قصة (الأسد الحقود) التي مازالت تروى من قبل الجدات في عدة مناطق أمازيغية في المغرب باللغة البربرية، كما ورد ذلك جليا في كتاب(لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين) للباحث المغربي محمد شفيق .
وقد ذكر يوبا الثاني أيضا، في موسوعته (ليبيكا)، مجموعة من القصص الخرافية الأخرى، سيما قصة عودة البطل هيركوليس إلى طنجة، علاوة على قصص أخرى ضاعت بسبب ضياع موسوعة ليبيكا وباقي مؤلفات أغسطس الأخرى.
 اللغويات:
يعتبر يوبا الثاني من أكثر المثقفين الأمازيغ اهتماما باللغات والفيلولوجيا التاريخية والاشتقاقية، فكان يبحث في مصادر اللغة اللاتينية، ويرجع كلماتها إلى أصولها اليونانية اعتمادا على الاشتقاق. وقد تحامل عليه المؤرخ الفرنسي ستيفان أگصيل كثيرا في كتابه( تاريخ شمال أفريقيا القديم) بقوله:" وله غرام شديد بالدراسات اللغوية ( فقه اللغة/ الفيلولوجيا)، وكان مقتنعا أن اللاتينية كانت من قبل هي الإغريقية، ولكن اعتراها شيئا فشيئا التحريف بسبب اختلاطها باللغة الإيطالية، فكان هو يجتهد في الكشف عن الأصول الإغريقية للعديد من الألفاظ اللاتينية، الأمر الذي دفع به ليقول حماقات ربما كانت أكثر مما قالها غيره ممن يتمسكون بهذا الرأي الواهي. وكان يحب جمع الألفاظ الآتية أو التي قيل إنها أتت من اللغات الأجنبية، مثل لهجات الهند، وبلاد العرب وآسيا الصغرى، وأثيوبيا. ويحتمل أن يكون پلين Pline نقل عنه الألفاظ المستعملة عند سكان شمال أفريقيا."
ومن أهم كتب يوبا الثاني، في مجال اللغويات، كتاب( التحريف في اللغة)، وقد بحث فيه يوبا الثاني عن التحريفات اللغوية والدلالية التي تعتري معاني الكلمات. وعلى الرغم من انتقادات ستيفان أگصيل غير الموضوعية ، فقد كان يوبا الثاني ملكا مثقفا موسوعيا، يعنى كثيرا بالبحث العلمي مسحا واستقراء واستقصاء، ويشتغل في عدة ميادين ومجالات علمية متنوعة ، معتمدا في ذلك على مكتبته الخاصة الزاخرة بالكتب الثمينة والنادرة، والاتكاء أيضا على البعثات العلمية التي كان يرسلها من فينة إلى أخرى إلى بقاع العالم، بغية استكشاف مجموعة من الحقائق العلمية والفكرية والفنية واللغوية؛ مما أهله ذلك لتناول مسائل اللغة والفيلولوجيا بكل يسر وسهولة.
هذا، وقد كان يوبا الثاني يتقن لغات عدة ، مثل: اللغة اليونانية، واللغة اللاتينية ، واللغة البونيقية، ولغته الأمازيغية المحلية التي كان يتواصل بها مع فئات شعبه. بيد أن اللغة اليونانية كانت هي المفضلة بسبب ثقافته الموسوعية التي كانت تفرض عليه ممارسة هذه اللغة، علاوة أنها اللغة الرسمية التي فرضتها زوجته كليوباترا سليني. وفي هذا، يقول جيروم كركوبينو:" وإذا كان الملك لم يقرر اتخاذ اللغة الإغريقية رسميا، كما فعلت الملكة كليوباترا سليني ، فإنها كانت بالتأكيد هي لغته المفضلة .لقد تعلمها بروما، إذ حسب العادة آنذاك فإنه نال تربية هيلينية ورومانية، وفي بلاطه كان الحديث في الأكثر يجري بالإغريقية. "
وهكذا، يتبين لنا بأن يوبا الثاني كان مهتما بالنحو والاشتقاق وفقه اللغة أو الفيلولوجيا ، مستعملا في ذلك المنهج المقارن تارة، والمنهج اللغوي التحليلي تارة أخرى.
الفنون:
اهتم يوبا الثاني بالفنون اهتماما كبيرا ، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على رهافة إحساسه، وسمو ذوقه الفني والجمالي، وتأثره بالثقافات المجاورة، مثل: الثقافة اليونانية، والثقافة المصرية، والثقافة الفينيقية، والثقافة القرطاجية، والثقافة الرومانية، والثقافة الأفريقية، والثقافة الأمازيغية المحلية. ومن أهم الفنون التي اهتم بها يوبا الثاني نستحضر ما يلي:
الموسيقى:
لقد أقبل يوبا الثاني على الموسيقى بشغف مثير، ونهم متميز ، فقد اهتم بها كثيرا، وخصص لها كتبا وافية وشاملة، عرّف فيها بمخترعي الموسيقى، وأشار إلى طبيعة حرفتهم والآلات الفنية التي كان يستعملونها، ورصد إيقاعاتها وألحانها. وفي الوقت نفسه، تحدث بإسهاب عن الفنون المجاورة للموسيقى، مثل: الرقص، والتمثيل، والمسرح، والنحت. وكان يوبا الثاني يستدعي العلماء والفنانين والأدباء من روما وأثينا ليفيدوا الأمازيغيين ويمتعوهم في المجال الثقافي والفني بصفة عامة، والفن الموسيقي بصفة خاصة.
وقد أثبت الباحث الجزائري بوزياني الدراجي بأن يوبا الثاني أنشأ معهدا لتعليم الموسيقى بعاصمته القيصرية شرشال، كما ألف موسوعة موسيقية مهمة. وفي هذا السياق، يقول الدارس:" يعلم الجميع المجهودات الجبارة التي قام بها يوبا الثاني في نشر الفنون- بشتى أنواعها- في بلاده؛ مثل الموسيقى التي أنشأ- لتدريسها ونشرها- معهدا خاصا بشرشال؛ كما قام هو نفسه بتأليف موسوعة موسيقية ضخمة. " .
بيد أننا نستغرب مما ذهب إليه الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في كتابه(ورقات عن الحضارة العربية بأفريقية التونسية) الذي أنكر وجود الفنون الجميلة عند الأمازيغيين قديما؛ نظرا لسذاجة الألحان الأمازيغية، وقلة الآلات الموسيقية، وبساطة الإيقاع، وانعدام البحث الموسيقي، والتأثر بالأغاني الزنجية الأفريقية السوداء الرتيبة. وفي هذا الصدد، يقول الباحث:" مهما تتبع الباحث رسوم الحضارة، والمجتمع البربري؛ الذي يقطن شمال أفرقية- من قديم الزمان- فإنه لا يجد للفنون الجميلة- ومنها الموسيقا- أدنى أثر يذكر؛ وغاية ما يقال أن الأهالي الأصليين كانوا يتغنون ببعض ألحان ساذجة بسيطة، ربما قلدوا فيها أغاني الزنزج ببعض ألحان ساذجة بسيطة؛ ربما قلدوا فيها أغاني الزنوج المحيطين بهم من ناحية الجنوب- الصحراء الكبرى والسودان- فالقبائل المحافظة على بربريتها الأولى مازالت تصوت بألحان أقرب ما تكون إلى إيقاع السودانيين...ويمكن الاستدلال على بساطة الموسيقا- لأي شعب كان- بآلات الطرب التي يستعملها لهذا الغرض. فالأمم البربرية ليس لها من الأدوات إلا مزمار؛ وهي( الشبابة) يتخذ في الغالب من القصب؛ ينفخ فيه، أو نوع من الرباب ذي وترين لا غير( گمبري)؛ وهوعين ما يوجد عند الزنوج البدائيين. وهذا من أكبر الشواهد على تأخر التلحين عندهم. وكذلك الشأن في الأصوات نفسها، التي تتغنى بها القبائل البربرية مثل: جبل(زوارة)- كتامة قديما- وبلاد الريف وأهل جبال المغرب من السوس الأدنى والأقصى؛ فإن الإيقاع فيها بسيط جدا؛ ولا يتجاوز بعض مقامات السلم، شبيه ما يشاهد عند السودانيين. وهذه هي الألحان الساذجة التي وجدها العرب عند عشائر البربر لما فتحوا البلاد عليهم؛ وبقي استعمالها شائعا بين السكان الأصليين إلى أن امتد التعريب في البلاد، ورسخ في البلاد اللوبية؛ فتحولت أوضاعهم بالتدريج إلى أوضاع عربية؛ وانتشرت على مر الزمان من الحواضر العربية أو المتعربة أو المتعربة حتى بلغت قرارات البربر".
ولايمكن لنا - إطلاقا- قبول هذا الحكم الساذج المتسرع ؛ لأن أبوليوس كان متفننا في الأغاني، ومتحكما في أشكال الموسيقى، حسب الأداة، وحسب طبيعة الأغراض الشعرية، ومتنوعا فيها بتنوع الأعاريض والألحان. ويبين لنا هذا مدى ازدهار الشعر والموسيقى في تامازغا. وفي هذا السياق، يقول أبوليوس أو أفولاي الأمازيغي:" أعترف بأني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة أو فيض الوجدان لمرح الملهاة أو جلال المأساة وكذلك لا أقصر لا في الهجاء ولا في الأحاجي ولا أعجز عن مختلف الروايات والخطب يثنى عليها البلغاء، والحوارات يتذوقها الفلاسفة. ثم ماذا بعد هذا كله؟ إنني أنشىء في كل شيء باليونانية أم باللاتينية بالأمل نفسه، و بالحماس نفسه، وبالأسلوب نفسه".
وعليه، يتبين لنا بأن الموسيقى كانت مزدهرة في عهد يوبا الثاني، مادام قد خصص لها موسوعة كبيرة من المجلدات الضخمة، وقد تناولها على مستوى الألحان والكلمات والأصوات والنبرات والأغراض والأدوات.
 المسرح:
لم يقتصر المسرح الأمازيغي على أبوليوس وترنيوس آفر وأوغستان فحسب، بل تعدى ذلك إلى يوبا الثاني الذي اعتنى بهذا الفن عناية فائقة، فقد ألف كتابه الرائع( تاريخ المسرح) الذي جمع فيه دراسات شاملة حول الموسيقى والرقص، وقد كتب منه ثمانية عشر (18) مجلدا. ويثمن الكثير من الباحثين الإنجازات القيمة التي حققها الملك المثقف يوبا الثاني في مجال الدراما والتمثيل والتكوين المسرحي. فقد قال بوزياني الدراجي:"أما التمثيل فقد أسس يوبا أيضا معهدا لتدرسيه في شرشال كذلك..." .
هذا، وقد عني يوبا الثاني أيما عناية بالكوريغرافيا المسرحية الهادفة والممتعة، من خلال الجمع بين الرقص والموسيقى والتمثيل ، والدليل على ذلك أن فقرات كتاب( تاريخ المسرح) تشير إلى " آلات موسيقية وقع اختراعها في بلدان مختلفة، وبرقصات إغريقية وأجنبية، وبالطريقة التي يحسن أن توزع بها الأدوار على الممثلين."
فضلا عن ذلك، فقد بنى يوبا الثاني مجموعة من المسارح في شرشال، ووليلي، وليكسوس، ومن بين هذه المسارح : المسرح العتيق الذي يوجد في شرشال ، وأمامه تمثال كبير من المرمر يمثل شخصا إمبراطوريا يخطب على جيوشه.
وفي هذا السياق، يقول ستيفان أگصيل:" ومن المؤكد أن قيصرية كان بها مسرح على عهد يوبا الذي كان يحب الفرجات، والذي كتب بحثا مسهبا عن الفن الدرامي.ولاشك أن هذا المسرح هو الذي لم تندثر خرائبه حتى الآن. بالرغم من أنها كثيرا ما استعملت كمحجرة.وكانت الزخارف الفاخرة على جدران خشبة المسرح من الرخام الأبيض، وهو عبارة عن دثار وعن ثلاث مجموعات متراكبة من الأعمدة الكورنثية التي تحمل عمرة غنية، إلخ...ثم إن هذه البقايا من طراز يجعلها متينة القرابة بالقطع المعمارية التي عثر عليها بالساحة. فالعهد واحد إذن."
ويعني هذا أن يوبا الثاني كان يحب المسرح كثيرا، وقد بنى عدة مسارح لعرض المآسي والملاهي على حد سواء، وكان يحضر عروضها الفرجوية، وكانت المسارح المبنية دائرية أو نصف دائرية ، منفتحة على الهواء الطلق، وكانت تبنى في شكل أعمدة ومدرجات على غرار المسرحين اليوناني والروماني.
الفن التشكيلي:
لم يكتف يوبا الثاني بكتاب( تاريخ المسارح ) الذي تحدث فيه عن الرقص، وآلاته الموسيقية، ومخترعي هذه الفنون فحسب، بل ألف كتابا فنيا آخر تحت عنوان ( تاريخ الرسم والرسامين) للتعريف بفن الرسم والتصوير على مستوى الموضوع والشكل والأدوات، مع كتابة تراجم الرسامين اليونان والرومان والبونيقيين والأمازيغ على حد سواء. ويبين لنا هذا الكتاب مدى انتشار فن الرسم بين الساكنة الأمازيغية النوميدية والموريطانية، ووجود الرسامين بكثرة يعنون بالإبداع التشكيلي في مختلف تجلياته الفنية والجمالية.وفي هذا المنحى، يقول بوزياني الدراجي:" لم يكن يوبا هو الوحيد المهتم بالفنون الجميلة ببلاد المغرب آنئذ؛ فثمة آخرون كانت لهم الاهتمامات نفسها؛ لأن التأثير الإغريقي والفينيقي والروماني لابد أن يولد اهتماما معينا بين السكان؛ وإذا لم يهتم بذلك السكان كلهم فقد يهتم بعضهم... "
هذا، ويشتمل هذا الكتاب الفني التشكيلي على ثمانية أجزاء على الأقل، وقد ذكر الكتاب بعض الفنانين المشهورين آنذاك، مثل: بوليكنوت (Polygnote)، وبارهاسيوس (Parrhasius)، وغيرهم، وعرف بهم تعريفا وافيا ومستفيضا .
النحت:
اهتم يوبا الثاني بالنحت اهتماما كبيرا ، والدليل على ذلك المنحوتات التي عثر عليها الباحثون في عاصمتيه: شرشال ووليلي، مثل: التمثال الذي يمثل كلبا منحوتا من البرونز، وقد عثر عليه الفرنسي لويس شاتلان (Louis Chatlan) في مدينة وليلي سنة 1916م ، وكان الكلب يعوي بشراسة، و" كان تشكيله الذي لايزال يرى في مؤخرته يدفعنا إلى اليقين بأنه كان يزين إحدى السقايات بمدخل أحد المنازل الثرية، وهو منتعش حركة وحياة. "
علاوة على تمثال آخر في شكل رأس من المرمر " لشاب بذقن قصير، يمط الشفتين في بعض الازدراء.له جبين واضح، ويختفي منه قسم تحت خصلات الشعر التي تغطي في نعومة إحداها الأخرى. "
وعثر على تمثال آخر يمثل بغلة مزينة " بشريط العناقيد التي كانت سابقا تزين قائمة فراش، وتدخل في الزينات المعلقة على الأفرشة العتيقة التي يطلق عليها پلين اسم أفرشة ديلوص" .
كما وجدوا تمثال الفتى الفارس أو ما يسمى أيضا بفارس وليلي، وكذلك الفتى المتوج بإكليل الغار الديونيسي ، وتمثال الآلهة فينوس، وغير ذلك من المنحوتات والتماثيل والنقود والأحجار الكريمة والأدوات والأشياء المستعملة في الحياة اليومية...
هذا، وقد أسس يوبا الثاني، بغية جمع هذه المنحوتات الثمينة، والحفاظ عليها من عوادي الدهر، مجموعة من المتاحف الأثرية أو الأركيولوجية، من أهمها: متحف وليلي، ومتحف شرشال. وفي هذا الصدد، يقول جيروم كاركوبينو:"لولا أن الغوص بحرا بالمهدية التونسية لم يجعل تونس تحتفظ لنفسها بحطام السفينة المحملة بأمر سيلا (Sylla) لتنقل الغنائم من الأتيك (Attique) إلى إيطاليا، لولا ذلك، لكان متخف وليلي هو الوحيد بجميع الشمال الأفريقي الذي يتحفنا بمجموعة من روائع المنقوشات الفنية القديمة. وبجميع أرض المغارب لاتوجد سوى شرشال التي انفرج لنا ترابها عن تماثيل موثوق بصحتها الكلاسيكية والمؤثرة.كما يجب أن نلاحظ أن تماثيل شرشال التي أنجز أجملها في العهد الأوغسطسي، هي نسخ من المرمر لأصول من البرونز، أما تماثيل وليلي ، فقد وصلت إلينا في نفس المعدن الذي أنجزت فيه. لكن بينما أجمل تماثيل شرشال تؤرخ على الخصوص بالعهد الأوغسطسي، فلهذا العهد ترجع دون شك جميع تماثيل وليلي التي وصفناها."
ولا علاقة هذه الآثار بالإمبراطورية الرومانية، فهذا عمل يوبا الثاني الذي كان إنسانا راقيا، وفنانا متحضرا، سبق عصره بكثير، يعرف كيف يختار المنحوتات، وكيف يوثق معالم مملكته التي كانت تترامى بين شرشال ووليلي. وهذا ما يثبته أيضا جيروم كركوبينو بقوله:" هكذا فكل العلامات الأركيولوجية تتفق على إيضاح أن التماثيل التي تبهرنا في وليلي قد جاءتها قبل سيطرة الإمبراطورية على موريطانيا.إذاً، فإذا كانت القيمة الفائقة للآثار المكتشفة في شرشال لايمكن تفسيرها إلا بعمل يوبا الثاني الأمير المزهو، ورجل الذوق، الممتلئ بالهيلينية والمتفهم الحصيف، فبالأحرى يجب علينا أن نعزو لعمله الشخصي الجمال البديع الذي أضاء حول عهد الميلاد في عمق البادية المغربية مدينة وليلي.وهذه النتيجة لا أتردد في ذكرها، خصوصا، وهو أن وليلي كانت فيما مضى بمساواة مع يول- قيصرية (Iol-Caesarea)، أي شرشال القديمة، مدينة إقامة الملك يوبا الثاني."
كما ترك لنا يوبا الثاني مجموعة من النقود التي تصور فترته التاريخية، وتعكس صوره في مختلف هيئاته العمرية، وترصد مراحل شبابه.ووجدنا كذلك صورة الملكة كليوباترة سليني في النقود إما إلى جانب يوبا الثاني، وإما بشكل مستقل. ويعني هذا أن الملكة كانت تشارك يوبا الثاني في إدارة الحكم، وقيادة الدولة . لكن الزوجة الثانية كلافيرا(Glaphira) لم ترد صورتها في نقود موريطانيا. ويعني هذا أنها لم تكن لها الامتيازات نفسها التي كانت تتمتع بها كليوباطرا عند الشعب الموريطاني .
وعليه، يعد متحف شرشال من أهم المتاحف الغنية بالمنحوتات التي تركها يوبا الثاني.وفي هذا يقول ستيفان أگصيل:" إن المرء حينما يطوف في متحف شرشال الجميل يجد نفسه تميل حبا ليوبا، هذا الملك الذي عرف كيف يحيط نفسه بكل هذه الآثار الفنية القيمة، وذلك لمتعته هو ولمتعتنا نحن أيضا."
وعلى العموم، فقد كان النحت في عهد يوبا الثاني مزدهرا ؛ والسبب في ذلك هو التأثر بالحضارات اليانعة في تلك الفترة، مثل: حضارة اليونان، وحضارة الرومان، وحضارة قرطاج...
العمارة:
أما فيما يتعلق بالعمارة، فقد اهتم يوبا الثاني بتجميل الحواضر وتزيينها على غرار الحواضر الرومانية تقليدا لفن عمارتها، وهندسة مبانيها، وجمال مدنها، كما يقول المؤرخون "خاصة عاصمتيه أيول(شرشال القيصرية) ووليلي، مما يعكس ذوقه ومدى الرخاء الذي شهدته مملكته، فضلا عما يمكن استنتاجه من كون تشجيع الحياة الحضرية يدخل في إطار السياسة الرومانية الرامية إلى تدجين الأمازيغيين.
وۥيعرف على يوبا الثاني أنه كان مولعا بالعمارة الجميلة وزخارفها الفسيفسائية الباهرة،كما كان ميالا إلى الفنون الهندسية، ووضع التصاميم العمرانية الفنية الدقيقة. وتعد مدينة شرشال آية في الفن العمراني الجميل، وقد سماها بالقيصرية (Cesarea) على غرار اسم القيصر اعترافا له بالجميل والثناء العميم . و" جلب لعاصمته (شرشال) مختلف الفنانين من مصر واليونان، فشيدوا فيها من القصور الجميلة والهياكل الفخمة؛ ماجعلها بحق محط أنظار الملوك والأمراء، كما جلب لها عددا من الكتاب والشعراء والفلاسفة".
وإذا أردنا معرفة طبيعة هندسة المدينة في عهد يوبا الثاني، فقد كانت ممزوجة بالعمارة اليونانية، وآخذة من النحت الروماني، ومتأثرة بالهندسة الفينيقية القرطاجنية، وتطبعها الروح الأمازيغية الثورية المبنية على الفروسية والمقاومة.
وهكذا، فقد كانت المدينة البربرية " محاطة بالأسوار والأبراج، وبداخلها فوروم forum .أي: ميدان عمومي، وكابيطول capitole .أي: معبد، وقوس النصر تعلوه عربة تجرها ستة خيول، وكانت بها كذلك خزائن لحفظ الكتب وتماثيل الآلهة، ومسقيات وحمامات عمومية مفروشة أرضها بالرخام، ومغطاة جدرانها بالفسيفساء المصورة لمناظر من الطبيعة ومشاهد من الحياة. أما المدينة نفسها، فكانت مقسمة إلى قسمين: أحدهما في الجنوب تجمعت فيه المصانع والمخابز ومعاصر الزيت والدكاكين والدور الشعبية، والثاني في الشمال يسكنه الأغنياء والحكام.
ومازالت بعض الآثار الباقية في وليلي شاهدة على ماكانت عليه هذه المدينة، حيث كشف النقاب عن بعض الشوارع والمنازل والمعاصر، وعن قاعة الاجتماعات والساحة العمومية التي كانت تعتبر المكان المحوري في المدينة، وعن بعض التحف كتمثال برونزي لكلب، وآخر لغلام ورأس مرمي وتمثالين نصفيين لبروتوس ولبعض الأمراء".
ولا ننسى أن يوبا الثاني كان يستدعي المهندسين والمزينين والمزخرفين من اليونان والرومان وقرطاج ومصر لبناء القصور والمعابد والمسارح والمتاحف والمؤسسات العامة والخاصة . وكان يستورد مواد البناء والتزيين والزخرفة من الدول المجاورة لمملكتيه أو الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط، والدليل على ذلك كثرة الفسيفساء التي كانت تبلط بها أراضي القصور والمباني العمرانية وأسقفها وأعمدتها.
التاريخ:
كان يوبا الثاني من كبار المؤرخين في عصره ، فله مؤلفات كثيرة لاتعد ولا تحصى في مجال التاريخ، ومنها: ( تاريخ بلاد العرب/les Arabica)الذي وضعه لتعليم يوليوس قيصر إمبراطور الرومان، وهو كتاب يبحث في تاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها. و له أيضا كتاب (آثار آشور) الذي ألفه، بعد أن رأى بلاد الأشوريين من جميع جوانبها، واستمتع بحضارتهم، وأعجب بثقافة بلاد الهلال الخصيب. كما ذكر فيه حملات نبوخذنصر على الفينيقيين واليهود. ويقول بلوتارك في حق يوبا الثاني هو" أفضل المؤرخين الذين وجدوا من الملوك"، و" يعد من أعلم المؤرخين الإغريقيين".
ومن مؤلفاته التاريخية أيضا كتاب (تاريخ روما) الذي اهتم بجنيالوجية السكان الأصليين لإيطاليا، و" هذا التاريخ عبارة عن قصة متسلسلة للأحداث، فلابد أنه كان تاريخا مختصرا."
ومن هنا، فقد أصبحت كتابات يوبا الثاني، في مجال التاريخ، مصادر أساسية لفهم الأحداث التاريخية القديمة وتفسيرها.لذلك، تمثلها المؤرخون كثيرا، واستفادوا منها مرارا وتكرارا في إنجاز بحوثهم، وتأليف كتبهم وموسوعاتهم التاريخية.
 علم الآثار:
لم تقتصر علوم يوبا الثاني على التاريخ والجغرافيا والطبيعيات فقط، بل كتب مؤلفا قيما عن (آثار الرومان القديمة)، سواء أكانت مادية أم معنوية. و يبين لنا هذا مدى اهتمامه بعلم الآثار القديمة، وعنايته بالتنقيب والحفريات الأركيولوجية. وأكثر من هذا أن يوبا الثاني كان شغوفا بالتنقيب والبحث الاستكشافي الطبيعي والتاريخي والجيولوجي، بغية الوصول إلى الحقائق العلمية الصادقة أو المحتملة.
 الجغرافيا:
من الأكيد أن يوبا الثاني كان مثقفا علامة، ودارسا جغرافيا؛ لأنه اهتم كثيرا بالبحث الاستكشافي الطبيعي، وأرسل مجموعة من البعثات العلمية للبحث في عدة مجالات وميادين، كالتأكد من منبع النيل، والبحث عن جزائر كناريا، والبحث في الكتب البونيقية عن المعلومات العلمية المتعلقة بالتاريخ والجغرافيا .
وهناك في كتابه ( ليبيكا) إشارات إلى هذه البعثات العلمية ، واهتمامات كبيرة بدراسة الحيوانات والنباتات والمياه والجبال...وماكان يؤرقه هو البحث عن منبع نهر النيل ، فقد كان يعتقد أن منبعه هو جبال الجنوب المغربي.كما كان يبحث عن جزر كناريا " التي أرسل لاكتشافها بعثة انطلقت من الجزر الفرفورية .أي: من الجزر الصغيرة التي بموكادور."
وقد استعان يوبا الثاني، في إرسال بعثاته العلمية، برسم الخرائط الجغرافية، وربما يكون هو الذي يضع الخرائط بنفسه أو بواسطة مساعديه. وفي هذا يقول ستيفان أگصيل:" إن الخريطة التي أمر بها أكريبا (Agrippa) برسمها في عهد يوبا، والتي ربما كان بمستطاع هذا الأخير أن يساعد فيها ببعض المعلومات لم تذكر أي ميناء بعد ميناء ريسادير الذي ربما كان هو الصويرة."
ويعني هذا كله أن يوبا الثاني كان من أكبر الجغرافيين القدماء، وله مؤلفات ضخمة في هذا المجال، وقد استفاد منه كثير من الجغرافيين الذي عاصروه أو جاءؤوا من بعده.
العلوم:
اهتم كثير من المثقفين الأمازيغ بالمعارف العلمية التي تتعلق بالطبيعة والتاريخ والجغرافيا والفلك والرياضيات. ونستحضر ، من بين هؤلاء، الملك الأمازيغي يوبا الثاني الذي كتب موسوعة علمية في ثلاثة أجزاء تحت عنوان( ليبيكا Lybica/ الليبيات)، وتتعلق هذه الموسوعة العلمية باستعراض عادات المجتمع الأمازيغي، وتقاليده، ولغته، وثقافته، وبيئته. كما خصص كتابا آخر لتاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها سماه(آرابيكا/Arabica ).
ويرى المؤرخ الفرنسي ستيفان أگصيل أن كتاب ( الليبيات) ليوبا الثاني يتكون من " ثلاثة كتب على الأقل، تشمل على ما يحتمل مواد مختلفة جدا، من الجغرافيا، إلى التاريخ، إلى التاريخ الطبيعي، إلى الميثولوجيا وغير ذلك. وكان يوبا ، في مؤلفه هذا، يقتبس من رحلة حانون، فنستنتج نحن أنه قد وصف سواحل القارة، ويمكن أن نفرض من خلال نص پلين إنه وصف جبال الأطلس كذلك. ولاشك أنه في هذا الكتاب قد ذكر نتائج بحثه عن النيل وعن جزائر كناريا ، كما ذكر المصبغات التي أنشئت بأمر منه في الجزائر الفرفورية."
ومن أهم العلماء الأمازيغ الآخرين في المجال العلمي أوفوربوس الذي اشتهر في مجال الطب والصيدلة، وكان طبيب يوبا الثاني، وقد اكتشف دواء ضد السموم ، قادرا على تنشيط الفكر وترويح النفس. " وباسم ذلك الطبيب يسمى ذلك النبات، في اللغات الإفرنجية، إلى اليوم : Euphorbia,Euphorbe...، وهو الفربيون، أحد أنواع اليتوع أو التيوع المعروف ب" تاناغوت " و"تاناخوت" في الأمازيغية."
ويشير ستيفان أگصيل إلى هذا الاكتشاف قائلا:" كان أوفورب طبيب الملك (يوبا الثاني) يتبقل في جبال الأطلس، فعثر على نبات له خواص عجيبة. إذ كان الدماع Suc الذي يشتمل عليه هذا النبات يقوي النظر ويعطل مفعول سم الحيات والسموم الأخرى...الخ. فسر الملك بهذا الاكتشاف، وأطلق على النبات اسم أوفورب، الذي صار يعرف به، ثم كتب عنه رسالة صغيرة..." . لكن پلين الأكبر يثبت بأن يوبا الثاني هو الذي اكتشف هذا الدواء (الفربيون) الذي خصص له أحد بحوثه .
وهكذا، فقد كانت ليوبا الثاني اهتمامات كبرى بالعلوم الطبيعية، بما فيها الصيدلة، والطب، وعلم النبات...
 يوبا الثاني في ميزان الاتهام:
تعرضت شخصية يوبا الثاني لانتقادات عدة، بعضها ذاتي، وبعضها موضوعي. وبتعبير آخر، فهناك من الدارسين من كان يتحامل عليه تحيزا وعداوة وحقدا. وهناك من كان يدافع عنه بموضوعية وحياد ونزاهة علمية. وبالتالي، لم تقتصر هذه المواقف على الدارسين الغربيين فحسب، بل نجد تلك المواقف نفسها عند الدارسين الأمازيغيين ، لكن ليس بتلك الحدة والغلاظة التي نجدها عند الكولونياليين الأجانب، كستيفان أگصيل مثلا.
 مواقف مدافعة:
لم تظل مكانة يوبا الثاني الثقافية والعلمية حبيسة تامازغا فقط، بل انتشر صيتها متوسطيا، سيما في بلاد اليونان والرومان. و قد كرمه مثقفو أثينا، ووضعوا له تمثالا جليلا. ومن ثم، " فإن أدبه وعلمه جعلاه على الخصوص أهلا لمدح أهل عصره والأجيال التي جاءت بعده. ولما قرر أهل أثينا، وهم قوم لا يشق غبارهم في المجاملات، أن يكرموا هذا العاهل الذي يسود منطقة واسعة أقاموا تمثاله بالقرب من إحدى خزانات الكتب. ويرى فيه بلوتراك" أفضل المؤرخين الذين وجدوا من الملوك"، ولكن يلاحظ بواسيي Boissier إن كلمة بلوتارك هذه ليس فيها مدح كبير ليوبا. ثم يضيف بلوتراك قائلا:" وهو يعد من أعلم المؤرخين الإغريقيين". وهذا مديح لا يشوبه خبث. ويثني الغير على علمه المتنوع وحياته التي كرست بأجمعها لدراسة الآداب".
وهكذا، فقد أشاد به الدارسون القدماء والمحدثون ؛ بسبب كفاءته الحاذقة، وعبقريته المتميزة، وحنكته السياسية المدبرة، فقد أثبت الباحث المغربي محمد شفيق بأن يوبا الثاني كان يكتب"باليونانية في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب وفقه اللغة المقارن، فتعجب من نبوغه " فلوتارخوس Plutarkhos "، ومن كونه" بربريا نوميديا، ومن أكثر الأدباء ظرفا ورهافة حس"...."
وقد تأثر به كثير من المؤرخين القدامى، فاعترفوا بنبوغه المعرفي الموسوعي، مثل: الروماني تيتوس ليفيوس (Tite-Live)، واليوناني تيودور الصقلي (Diodore de Sicile.) ، وألكسندر الميلي(Alexandre de Milet)، والروماني بلينيوس الأكبر (Pline l'Ancien)، وآخرين ...
هذا، وقد نوه عباس الجراري بنبوغ يوبا الثاني، واعتبره شخصية ثقافية فذة في تاريخ الأمازيغيين. وفي هذا السياق، يقول الدارس:"ومثله يوبا الأول الذي كانت له مواقف عداء مع القيصر تمثلت في حركات ثورية وطنية انتهت بهزيمته وانتحاره سنة 47.ولكن لم يمر وقت طويل حتى اعتلى ابنه عرش المملكة الموريطانية، وهو أغسطس المعروف بيوبا الثاني، زوج كليوباطرة سيليني بنت كليوباطرة الكبيرة.وكانت له عناية بالفنون والآداب، وفي عهده أسست معاهد الموسيقى.درس العلوم وأتقن اللغات اليونانية والبونيقية واللاتينية، وكانت له مكتبة عظيمة ونساخ عديدون، كما كانت له عناية خاصة بجمع التماثيل والصور، واستقدام النفائس من مختلف الأقطار، وتوجد منها الآن كمية ثرية بمتحف الجزائر وشرشال. "
وعليه، يمكن أن نعد يوبا الثاني من أكبر المثقفين الذين أنجبتهم تامازغا إلى جانب أفولاي وأوغستان، وقد اختار المقاومة الثقافية لبناء الإنسان الأمازيغي المحلي لمواجهة الأعداء، واعتمد على المقاربة الثقافية حلا لتحقيق التنمية الحقيقية في مملكتيه: القيصرية والموريطانية. ولايمكن الحديث عن مثقف أمازيغي يشبه يوبا الثاني في كفاءته إلى يومنا هذا. فلن يستطيع أحد - في اعتقادي-أن يحقق ما حققه يوبا الثاني من إنجازات علمية ضخمة، إذ كانت مؤلفاته ومصنفاته وموسوعاته مجلدات ضخمة ، تتطلب سنوات وسنوات عدة لكتابتها ومراجعتها وتنقيحها واستنساخها.
 مواقف متحاملة:
كان يوبا الثاني عرضة للحسد من قبل معاصريه" الذين نفسوا عليه نبوغه، بصفته بربريا barbarus ، وكأن نفاستهم عليه تسربت إلى نفس المؤرخ الفرنسي Stéphane Gsell ، إذ ما فتئ اكصيل Gsell يحاول أن يغض من قيمة أعمال يوبا الفكرية، فتبعه في ذلك تلامذته من الأوربيين الذين أرخوا للمغرب الكبير في عهد الاستعمار الفرنسي، كما تبعوه في تحاملهم على أبيه يوبا الأول من أجل حرصه على سيادة مملكته. والدافع عند ستيفان أگصيل ومن تبعوه هو أنهم كانوا يعتبرون الفرنسيين ورثة للرومان في أفريقية الشمالية، ويرون أن "الأهالي " Les indigènesلا يمكن أن يكونوا إلا "أهالي" في الماضي والحاضر على السواء، بما أشربته الكلمة في لغتهم إذاك من معاني الاحتقار."
وعليه، فإن يوبا الثاني شخصية موسوعية بارزة اعتمدت على المقاربة الثقافية في مقاومتها للرومان، واستطاعت أن تقدم الكثير لشعبها العزيز عليها، على الرغم من الضغوطات الرومانية من لحظة إلى أخرى.
 مواقف الباحثين الأمازيغيين:
على الرغم مما أسداه يوبا الثاني للحضارة الأمازيغية وثقافتها، فقد كان يعتبر عند بعض الباحثين الأمازيغيين بمثابة خائن للهوية الأمازيغية، كما هو شأن محمد بوكبوط الذي قال عنه بأنه كان " أداة طيعة لتنفيذ أوامر روما، وخدمة مصالحها، وذلك بالسهر على قمع الثورات التي قام بها الأمازيغ ضد التواجد الروماني. ففي سنة 6 م، حارب قبائل جدالة التي ثارت ضد الرومان، وضد الملك نفسه، بسبب اغتصاب أراضيها، وحرمانها من المراعي، وبعد ذلك بعشر سنوات ، اندلعت ثورة تاكفاريناس العارمة ضد الرومان، وكانت جيوش يوبا بالطبع إلى جانب الرومان في محاربة بني جلدته الأمازيغ.".
ويتبين لنا - حسب موقف محمد بوكبوط- بأن الملك يوبا الثاني لم يكن - في الحقيقة- سوى حليف طائع وخادم وفيّ للرومان، يخدم مصالح الرومان أكثر مما يخدم القضية الأمازيغية. وبالتالي، فهو خائن للمبادئ الكبرى التي يدافع عنها الإنسان الأمازيغي، مثل: الحرية، والاستقلال، والسيادة، والوحدة...
لكنه يناقض موقفه حينما يذكر مجموعة من الإيجابيات التي يتميز بها يوبا الثاني:" إلا أن ذلك لاينبغي أن يخفي بعض الجوانب الايجابية لدى الملك يوبا الثاني، فالتاريخ يحتفظ له بتوجيه اهتمامه كذلك نحو العلوم والفنون، فقد كتب عدة تآليف في التاريخ والجغرافيا والطبيعيات وغيرها، ويذكر المؤرخون أنه كان يملك مكتبة زاخرة، كما تورد المصادر خبر إرساله بعثات علمية إلى جبال الأطلس وجزر الكناري، على الرغم من عدم استبعاد الخلفية السياسية لمثل تلك البعثات، والممثلة في سبر أغوار الأطلس الذي كان معقلا للمقاومة الأمازيغية ضد الزحف الروماني.كما يشير المؤرخون أيضا إلى تجميل يوبا للحواضر الموريطانية، خاصة عاصمتيه أيول (قيصرية) وأوليلي، ما يعكس ذوقه ومدى الرخاء الذي شهدته مملكته، فضلا عما يمكن استنتاجه من كون تشجيع الحياة الحضرية يدخل في إطار السياسة الرومانية الرامية إلى تدجين الأمازيغ."
و على العكس من ذلك، يعده الباحث المغربي جميل حمداوي في كتابه (المقاومة الأمازيغية عبر التاريخ) مقاوما ثقافيا متميزا، يحب شعبه، ويسهر على راحته وازدهاره، من خلال تطبيق المقاربة الثقافية لتحقيق التنمية الشاملة، حيث يقول: " إن مايمكن إثباته في حق يوبا الثاني أنه ملك أمازيغي مثقف، خدم شعبه على جميع المستويات والأصعدة، وحقق لموريطانيا القيصرية والطنجية عهدا من الازدهار والرخاء لمدة نصف قرن من الحكم تحت المراقبة الرومانية بشكل مباشر أو غير مباشر.
وإذا كانت المقاومة الأمازيغية في شمال أفريقيا ذات ملامح عسكرية واجتماعية ودينية ، فإن يوبا الثاني استطاع أن ينهج أسلوب المقاومة الثقافية التي أظهرت الأمازيغيين في مستوى لائق ومحترم، وجعلتهم شعبا متحضرا متمدنا يضاهي الشعوب المتجاورة، كالشعبين: اليوناني والروماني، في مجال الآداب والفنون والعلوم والمعارف الفكرية، بل قد تفوق عليهما في الشهامة والأنفة، وخوض الحروب حبا في الحرية والتضحية من أجل الاستقلال والتخلص من المستعمر الدخيل، وعدم الاعتداء على الآخرين.
وعلى الرغم من بعض السلبيات التي كانت تشوه صورة يوبا الثاني، وبالخصوص تحالفه الأعمى مع الرومان ضد إخوانه الأمازيغيين، إلا أنه الملك الأمازيغي المثقف الوحيد الذي كانت له شخصية متميزة وغريبة، تتسم بالموسوعية والانفتاح والتسامح، وكثرة الإنتاج والتراكم الثقافي . وبالتالي، فقد خدم يوبا الثاني الثقافة الأمازيغية حتى أصبح نموذجا يحتذى به في البحث الجغرافي، ومجال الاستكشاف الطبيعي، والتنقيب الميداني، وصار علما أمازيغيا بارزا يضرب به المثل في المدن الرومانية واليونانية، خاصة في أثينا عاصمة الفلسفة والفنون والآداب والعلوم."
وهكذا، يتبين لنا بأن تلك الانتقادات كانت غير موضوعية؛ لأن مهادنة يوبا الثاني للرومان كانت خطة إستراتيجية لبناء المغرب الأمازيغي القديم، وتشييده على أسس متينة وصلبة، من خلال القضاء على الأمية والجهل والانغلاق أولا، والاعتماد على العلم والترجمة والتأليف وبناء المتاحف والمعاهد والمسارح والمدارس ثانيا، بغية تأسيس مملكة أمازيغية قوية إداريا وعسكريا وثقافيا، والرفع من مستوى الإنسان الأمازيغي حضاريا لمواجهة الأعداء بالسلاح الحضاري نفسه.
خاتمة:
وخلاصة القول، إن يوبا الثاني شخصية موسوعية بارزة في تاريخ المغرب القديم بصفة خاصة، وتاريخ تامازغا بصفة عامة، حيث اعتمد على المقاربة الثقافية في مقاومتها للرومان، واستطاع أن يقدم الكثير الكثير لشعبه العزيز عليه، على الرغم من الضغوطات الرومانية، والمضايقات التي كانت تحد من اندفاعه السريع، وتفرض عليه سياسة الحكمة والتروي والتدبير الناجع.
كما اعتمد هذا الملك الأمازيغي المثقف على سياسة الانفتاح والتسامح والتبادل الثقافي، ومعرفة قدراته العسكرية جيدا، والاحتراس من المغامرات المتهورة التي قد تقود شعبه إلى الهلاك. لذلك، كان يهادن الرومان، ويعرف من أين تؤكل الكتف، ويستعمل جميع الوسائل الدبلوماسية لتفادي الحروب والثورات والانشقاقات. لذا، استمر في حكمه مدة طويلة تقدر بنصف قرن؛ بسبب رجاحة رأيه، وصحة رؤيته، وموضوعية بصيرته.
وفي الأخير، نقول مثلما قال المؤرخ پلين الأكبر، لقد عرف يوبا الثاني، في تاريخ الحضارة الإنسانية، بكونه مثقفا وعالما موسوعيا أكثر مما عرف حاكما سياسيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.