ومن الحكمة أن نعترف مع زارادشت الذي تم اضطهاده في جمهورية النساء: "أن إرادة القوة كامنة حتى في مجال التضحية والخدمة المتبادلة وبين نظرات العاشقين، لذلك يتجه الأضعف إلى السبل الملتوية قاصدا اجتياز الحصن والتربع في قلب الأقوى مستوليا على قوته"(5). ولعل هذا بالذات ما يشكل حقيقة المجتمعات العربية، لأن مصير سيادة الأمة أضحى بين يدي النساء، لأن حكام هذه الأمة المقهورة تسيطر عليهم أخلاق النساء. يتصرفن كالأطفال؛ الملكية والغضب، اللذة والألم. ثنائيات تطفو على سطح هيمنة السلطة، وحرمان الناس من الحق في الحرية، وإكراههم على الاعتقاد في إيديولوجية الدولة، باعتبارها قواعد تيولوجية تحطمت على صخرة الدوغمائية: "في كل مكان عثرت فيه على حي، طرقت أذني كلمات الطاعة، فما من حي يتعالى عن الخضوع، وعرفت أيضا أن ليس من محكوم في الحياة سوى من لا قبل له بإطاعة نفسه"(6). هكذا نجد أنفسنا مرغمين على الانتقال من موضوع إلى آخر، لأننا نتناول موضوعا متقلبا، لا يرتاح بالهدوء في الطمأنينة، ذلك أن الحرية متقلبة كالإنسان سعيدة بسعادته، وشقية بشقائه، وبحكم طبيعتها، فإنها أقرب الأشياء إلى قلب المرأة، وهي اللذة الوحيدة التي تجعلها تنتشي بخضوع الرجل، لأن إرادة الخاضع تطمح إلى السيادة أيضا لتتحكم فيمن هو أضعف منها: "وبما أن الأضعف يستسلم للأقوى، والأقوى يتمتع بسيادته على هذا الأضعف، فإن الأقوى يعرض نفسه للخطر في سبيل قوته، فهو يجازف بحياته مستهدفا للأخطار"(7). والمرأة مثل الحرية لا ترتاح إلا في أحضان محارب عائد من الحرب، لأنها تخاطر بالخطر. ولذلك فإن ما سأقوله عن المرأة والحرية يشبه إلى حد ما سأقوله عن الحياة، بيد أن هذا لن يوضح لكم اعتقادي في الخير والشر، مادمت أنا أيضا مضطرا للعيش كالمقهورين في جمهورية النساء، وبخاصة أنني لم أحصل على شهادة السكنى مثلي مثل النزلاء والغرباء والأرقاء: "وإن الذين يخدمون الفرد في الأشغال الضرورية هم الأرقاء، والذين يخدمون العوام هم أصحاب الحرف والمستأجرون ضرورة أنواع المواطنين، ولاسيما المرؤوسين منهم ومن تم تحتم في بعض الأحكام السياسية، أن يكون العامل والمأجور مواطنين واستحال ذلك في البعض الآخر منها: نظير النظام الذي ندعوه نظام الأعيان"(8)، وأما في الدول المنتمية إلى حكم الأقلية، فلا يحتمل أن يكون المأجور مواطنا، لأن الاشتراك في مناصب السلطة لا يخول إلا من تفرض عليهم الضرائب الضخمة(9)، لكن ما هو موقعنا داخل جمهورية النساء؟، وهل تنتمي هذه الجمهورية إلى حكم الأقلية أم إلى نظام الأعيان؟، وكيف سيكون وضع الفيلسوف المأجور فيها؟. قبل الإجابة عن هذه الأسئلة المضطربة، لابد أن نتذكر الغاية التي من أجلها تألفت جمهورية النساء، وطبيعة السلطة الموجودة فيها، وكيف تتصرف السعادة في سكانها، حيث تكلمنا بإسهاب عن النساء والفلسفة، وتميزهن في ممارسة السلطة، ومادام أن الإنسان بالطبع حيوان مدني، فإنه بطبيعته يميل إلى الاجتماع ويحتاج إلى السياسة من أجل تدبير حياته، وتوفير له رخاء العيش والسعادة، وقد اقترحنا جمهورية النساء لهذه الغاية، ولما كانت الحياة السعيدة أفضل من الحياة الشقية، كان لابد من البحث عن الإطار المشترك الذي سيحقق فيه الفيلسوف سعادته، ولن يكون هذا الإطار سوى مدينة الحرية التي تضاد مدينة العبيد، ولهذا الغرض قمنا بأحداث هذه المدينة في قلب المدينة الجاهلة، ومنحنا سلطة الحكم للنساء، وقمنا بإجبار الرجال على قبول هذه السلطة، وأما الذين اعترضوا فأرغمناهم على الرحيل إلى تلك المدن التي تشبههم. فما هو يا ترى الأمل الوحيد الذي ظل ينتظرنا هناك هادئا؟، وكيف سيكون حكم النساء للرجال؟، بل أفما آن الأوان لتنصهر السلطة في الحرية بواسطة تجربة النساء في الحكم؟، وكيف ستكون طبيعة النظام السياسي في هذه الجمهورية؟. والحال أنه إذا كانت نفس العلل تولد نفس النتائج، فإنه بتغيرنا للرئاسة من الرجال إلى النساء، سنطهر الفضاء السياسي من الاستبداد والقهر، لأننا في حاجة إلى سياسة الحرية التي تتوخى المصلحة العامة طبقا لسنة العدل الخالصة، لأنها نجاري تطلعات دولة الأحرار. بعد هدمها لدولة العبيد، لأنهن تذوقن مرارتها، ولذلك ينبغي تربية الأحداث على السياسة المدنية، والأخلاق الفاضلة، بعد إبعادهم عن الأشرار والعوام: "وسبب هذا هو أن السياسة القائمة لها أثر في إكساب الناشئ عليها خلقا ما.. ولذلك صار ممكنا أن يكون معظم الناس فاضلين بالفضائل الإنسانية.. وقد تبين هذا في الجزء الأول من العلم المدني. إذ قيل هناك إن طرق بلوغ الفضائل العملية هو التعود، كما أن بلوغ العلوم النظرية هو التعليم"(10). فالجمع بين التجربة والتعليم يكسب الإنسان جودة التسلط، كما أن تحول الإنسان من خلق إلى خلق إنما يكون تابعا لتحول السنن، فإن عاش في الديمقراطيات يكون ديمقراطيا، وإن نشأ في الطغيان، فإنه قد يتأثر بطبيعته، ولذلك نجد ابن رشد يقول في هذا الصدد: "ويتبين ذلك مما طرأ عندنا في المغرب الأندلسي.. لما انقطعت أسباب السياسة الكرامية عند الحكام، صار أمرهم إلى اللذات الحسية التي هم عليها الآن"(11). فكيف تتحول السياسة من الفضيلة الأخلاقية إلى اللذة الحسية؟، وما هي أفضل اللذات بالنسبة للحكام؟، هل هي نفسها لذة الفلاسفة؟. هوامش: 5 - نيتشه، م م ، ص 143 6 - نيتشه، م م ، ص 143 7 - هكذا تكلم زارادشت، م م ، ص 143 8 - أرسطو، السياسات، م م، ص 129 9 - أرسطو، السياسات، م م، ص 130 10 - ابن رشد، م م ، ص 240 11 - ابن رشد، م م ، ص 204