متى تظفر المرأة بحقيقتها «لا تظفر الروح بحقيقتها إلا عندما تجد نفسها في تمزق تام». هيجل بإمكان التلاعب بالزمان أن يجر الوجود إلى حافة الخطر، فتتحول أيامنا إلى انتظار. لقد كان أملنا أن نشيد مدينة الحرية ونختار فيها إقامة شاعرية، حتى وإن كان ذلك في الأحلام، بيد أننا صدمنا عندما وجدنا أنفسنا نحاور زارادشت بدون أن يسمعنا أحد، لأن المرأة في عطلة لا تريد من يحاورها، بل ترغب في من يسليها، أما الفلاسفة فقد عادوا إلى أوطانهم، عندما نالت منهم خيبة الأمل، وبخاصة وأنهم حرموا من المشاركة في السلطة، وتم اعتبارهم كالنزلاء والغرباء، فماذا يمكن فعله الآن؟ هل نوقف الكتابة أم نتركها تستمر في مقاربة لذة التيه؟. لحظات ويحضر الاختيار الفارغ من المعنى، لأننا نعيش في زمن أصيب فيه المعنى بمرض مزمن، وأضحى الحوار الفكري مسخرة عند الحس المشترك الذي انفرد بتدبير مدننا، والتحكم في أرواحنا، وما المرأة إلا لعبة خطيرة يتسلون بها، لكن ما هو الخير الأعظم عند أمة أوقفت كل الرحلات المتجهة نحو النهضة الفكرية، والحداثة والدولة المدنية؟ ماذا ينتظرها؟، هل فقدت نزعتها الإنسانية تحت ضغط النزعة الحيوانية؟ هروبا من هذا الوضع القاتم والذي لا يبحث عن التفاؤل، نتوجه بنداء مفعم بالأمل إلى الفلاسفة، لكي يستمروا معنا في هذه المحنة. ولعلها أخطر محنة، مادام أن السياسة، باعتبارها علما للبراءة تم اعتقالها في سجون الحس المشترك، هؤلاء الذين لا يحسنون استخدام كل ما يقع تحت تصرفهم، والسياسة أداة من الأدوات المؤدية إلى السعادة: «واستخدام هذه الأدوات مقرون بالخطر، فهي أحيانا تؤدي إلى عكس نتيجتها على يد أولئك الذين لا يحسنون استعمالها»(1). ولذلك يصدق عليهم المثل القائل: «لا تعط السكين للطفل» أي أن لا تضع القوة والسلطة في أيدي الرعاع. لأنهم حرموا من المعرفة، لأن المعرفة نور، والجهل ظلام، «ولهذا يجب علينا أن نسعى إلى معرفة تعيننا على استخدام كل هذه الأدوات على الوجه الصحيح، كما يجب علينا أن نسعى إلى تحصيل هذه المعرفة وتطبيقها بطريقة ملائمة»(2). وبعبارة أكثر وضوحا، واستفزازا للحس المشترك: «يجب علينا أن نصبح فلاسفة إذا أردنا أن نصرف شئون الدولة بصورة صحيحة ونشكل حياتنا الخاصة بطريقة نافعة»(3). هكذا تستضيفنا جمهورية الفلاسفة، بعدما أرغمنا على النفي السياسي من جمهورية النساء، وقد كانت الملكة العذراء أتلانتي، وراء هذا الحكم الجائر. ولم يكن لهذا النفي أي تأثير على سعادتنا، بل أتاح أمامنا فرصة جديدة للعودة إلى الأصل، حيث الشوق إلى المعرفة لا يضاهيه سوى الشوق إلى الحرية والسعادة: «فهناك المعرفة التي تنتج خيرات الحياة. وهناك المعرفة التي تستخدمها»(4)، وباستخدامنا الجيد للمعرفة التي تأمر نتمتع بخيرات المعرفة التي تخدم وتطيع، والعقل وحده يستطيع الانتفاع بسائر أنواع المعرفة وتوجيهها وفق قوانين الطبيعة(5). ولعل هذا أكبر دليل على أن الفلسفة تجلب السعادة: «ذلك أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصر المعصوم من الخطأ»(6). فكيف يمكن لمن حرم من العقل النظري وظل في مستوى العقل الهيولاني، باعتباره عائقا أمام التفلسف، أن يسهم في تدبير شؤون الدولة؟، بل كيف يمكن لرئيس الجمهورية أن يحتاج إلى من يرأسه؟. وبما أن الاستجابة لنداء السياسة يتطلب قدرة على تحصيل المعرفة، فمن الواضح أن الجهل حجاب المعرفة وستارها. ذلك أن التدبير السياسي لا يأتي بطريقة عرضية، بل أنه المقدرة في ذاتها، ويضرب أرسطو أمثلة في هذا الصدد قائلا: «إن الشفاء هو بالتأكيد علة الصحة قبل أن يكون علة المرض، وفن البناء هو علة تشييد البيت لا علة الهدم، فكلما ينشأ عن طريق المقدرة البشرية إنما ينشأ من أجل تحقيق هدف معين»(7). ولعل ابن رشد كان رائعا في تفسيره لهذه الغاية النبيلة، عندما منح الحق لكل واحد من سكان الجمهورية في السعادة على قدر ما في طبعه من ذلك، لأن: «الصنائع الملوكية الفاضلة إنما غرضها نفع المدنيين، كما هو الحال في سائر الصنائع، مثال ذلك صناعة الطب، فغرضها هو شفاء المرضى لا الوصول إلى غرض الطبيب فقط. وغرض الملاح إنما هو نجاة ركاب السفينة، لا نجاته هو وحسب.. على عكس ما عليه أمر التسلط، فهو لا يضع نصب عينيه إلا ما تهفو إليه نفسه»(8). ويتعامل مع من يحكمهم كالعبيد، يوفر لهم الضروري لكي يخدمونه غاية الخدمة: «وبين أن هذه المدينة في غاية الجور»(9). فبأي معنى نريد أن ننتج المعنى في عصر أصيب بالصمم؟ مع من نتكلم؟، هل نستطيع أن نحاور الأموات؟ وكيف يمكن الإطاحة بهؤلاء الرؤساء الذين جعلوا المدينة في غاية المناقصة لمدينة جودة التسلط؟، وأي مستقبل ينتظرنا هناك في مدينة السعداء؟. لا نريد أن نجعل من اليأس مذهبا جديدا لهذه الأمة التي تمجد الاستبداد، وتنعم بقسوته، إنه نعمة للفانين الذين يقضون حياتهم بين النوم والحديث عن الموت، إذ «ليس للعدم إرادة، كما أن التمتع بالحياة لا يمكنه أن يطلب الحياة»، وقد استطاع الزمان أن يحفر في وجوهكم آثاره، لكي يخفي حقيقتكم، عن الأبرياء، ولكن لم يبق منكم إلا شبح ينصب مفزعة للطيور: «والحق ما أنا إلا طائر مروع، لأنني رأيتكم يوما عراة»(10)، فهل من حقيقة لكم غير هذه؟، وهل من عقيدة لكم وأنتم المبرشقون بجميع ما عرف الزمان من ألوان حتى اليوم؟، وهل أنتم إلا دحض صريح للإيمان نفسه وتفكيك للأفكار جميعها؟ فأنتم كائنات أوهام يا من تدعون أنكم رجال الحقائق؟، فهل أنتم مجرد نساء تلبسون ثياب الرجال؟ كلما تقدمت في رحلتي الاستكشافية لجمهورية الفلاسفة، كلما اكتشفت بأنكم غرباء عني لا تستحقون إلا سخريتي، وهكذا أصبحت طريدا يتشوق إلى مسقط رأسه وأوطانه: «ولا وطن لي بعد الآن إلا وطن أبنائي في الأرض المجهولة وسط البحار السحيقة، ولذلك وجب على أن أندفع بشراعي على صفحات المياه لأفتش عن هذا الوطن»(11). وفي هذه القطعة من الأرض التي تستضيء بنور أزرق ساحر من السماء، يجد المتوحد زاده للتغلب عن قساوة العزلة، لأنه مهما ادعى بأنها وطنه، فإنه مع ذلك يشتاق إلى استقبال الأحباء، بيد أن أخلاق المدينة الجاهلة أعادت ضياع أرواحهم، تحولت المحبة عندهم إلى منفعة، وأضحى مصير المتوحد منصهرا في الغاية من رحلته، ولم تعد الغاية تبرر الوسيلة، بل أصبحت الوسيلة هي التي تبرر الغاية، حتى ينفلت من جحيم السياسة الميكيافيلية التي تصلح لعبيد الملذات الذين يعرفهم الحكيم بحقيقتهم: «لقد عرفت طويتكم فإذا في حبكم ما يخجل وما يفسد الأخلاق، فما أشد شبهكم بكوكب الليل» (12)،يمنع الأصفياء حتى من لذة البصر. وفيكم وفي نسائكم خبثا لا يحترق إلا بالشهوات: «لقد فرغت شهوتكم من الطهارة فلذلك تجدفون على الشهوة، فأنتم لا تحبون الأرض كما يحبها المبدعون والمجددون». فالمحبة والموت صنوان مثلا زمان منذ الأزل فمن أراد المحبة فقد رضي بالموت، إنه صاحب أطهر إرادة وأنقاها، سعادته أصبحت هي التأمل في لحظات القمر الثملة، لأنه لم يعد أمامه سوى حياة هذا الشاعر المتجول الذي يبيع أشعاره في الأسواق، ولكن لما ارتفع ثمنها عدمت المشتري، وتحول إلى عاشق للحرية، يسير في الهواء الطلق على الأرض الناعمة، بالرغم من أنكم تمتلكون كل الأراضي، فهل بإمكانكم أن تمتلكون كل الأراضي، فهل بإمكانكم أن تمتلكوا السماء أيضا؟، ولماذا تحولتم إلى فيروسات تقتل المحبة من أجل أن تقتات بترياق البغض؟، وكيف استطعتم أن تأخذوا حقيقة النساء وتحطمون كينونتهن، ليتحولن إلى شهود زور في محاكم التفتيش عن العشق والسعادة ومحاكمتهما بالإعدام؟ وكيف وصلتم إلى جعل من النساء مجرد بضاعة تبيع نفسها من المحيط إلى الخليج؟، ألا يصيبكم الذعر من شراسة هذه القحة والخبث؟
1 - أرسطو، دعوة للفلسفة، نشرة عبد الغفار مكاوي، ص 32 2 - أرسطو، دعوة للفلسفة، ص 32 3 - أرسطو، دعوة للفلسفة، ص 32 4 - أرسطو، دعوة للفلسفة، ص 33 5 - أرسطو، دعوة للفلسفة، ص 33 6 - أرسطو، م م ، ص 33 7 - أرسطو، م م ، ص 34 8 - ابن رشد، الضروري في السياسة، م م ، ص 177 9 - ابن رشد، الضروري في السياسة، م م ، ص 177 10 - هكذا تكلم زارادشت، م م ، ص 148 11 - نيتشه، م م ، ص 150 12 - نيتشه، م م ، ص 150