جمهورية النساء «أقوى الأسباب في محبة الرجل للمرأة أن يكون صوتها دون صوته بالطبع وتمييزها دون تمييزه، وقلبها أضعف من قلبه. وإذا زاد شيء من هذا على ما في الرجل تنافرا بمقداره» أفلاطون فكيف ستكون إقامة الفيلسوف في هذه الجمهورية التي تدبرها النساء؟ هل سيشعر بالأمان والاطمئنان والدعة، لأن النساء فيلسوفات أيضا يتمتعن بالحوار والعطر؟ أم لن يحس أبدا بالأمان الحلو أقرب إليه، ولا بنظرة الشمس أدفأ عنده، مادام سيجرد من حريته كرجل، وينعم بها كفيلسوف يتأمل، ولا يتكلم؟ وبعبارة أخرى ما هي طبيعة دستور هذه الجمهورية؟ هل يدعو إلى حكم ديمقراطي، أم حكم طغياني؟ أم حكم للأقليات؟ تحكي الأسطورة اليونانية أن الملكة العذراء أتلانتي حين تسلمت الملك، ووضعت قدميها الذهبيتين على العرش أرسلت صديقتها إلى إحدى الكاهنات تسألها عن أفضل الطرق في معاملة العظماء ووجوه الأمة. فلم تجب الكاهنة بشيء، ولكنها اصطحبتها إلى حقل من الحنطة، وبدأت تقصف بعصاها رؤوس السنابل العالية، ثم صرفتها إلى سيدتها، هكذا فهمت الملكة أنها باقتلاعها السنابل العالية تجعل الحقل متساويا، ومعنى ذلك أنها فهمت أن عليها أن تعدم أو تنفي الرجال العظام، وبخاصة الفلاسفة، لأن أسئلتهم مدمرة للأجوبة الجاهزة، والنساء أكثر حبا للأجوبة عن الأسئلة، فهل ستكون رئيسة جمهورية النساء تشبه الملكة أتلانتي، العاشقة للطغيان، أم امرأة ديمقراطية تحكم بالعدل، وتنشر الحرية والمساواة بين الذكور والإناث؟ يقول الفيلسوف أرسطو: «وهذا التصرف لا يفيد الطغاة فحسب، ولا الطغاة يعمدون إليه، بل له ما يشاكل في حكم الأقليات والأحكام الشعبية، لأن الاقصاء عن البلاد له من بعض الوجوه نفس المفعول، إذ يقطع دابر العظماء ويستردهم. وأن الذين يسيطرون على غيرهم ليتصرفون التصرف نفسه». ولعل الفيلسوف بعمقه الإنساني يشير إلى رواية مفادها أن الأرانب طالبت يوما بالمساواة الكاملة لأصناف الحيوان، وذلك في حفل عام ضم ممثلين عن جميع الحيوانات. فأجاب ممثل الأسود وقال: «عليك يا جماعة الأرانب أن تؤيدي سؤالك بمخالب أشبه بمخالبنا». يتعلق الأمر إذن بصورة غاية في الروعة، ربما أنها تقترب من صورة الفلاسفة في الدول الاستبدادية إذ نجد ابن رشد يقول عن الاضطهاد الذي عاشه الفيلسوف ابن باجة في مدينة فاس: «وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن فيلسوف حقيقي كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضاربة فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها، ولا هو يأمن على نفسه منها، ولذلك فإنه يفضل التوحد ويعيش عيشة المنعزل، فيذهب عنه الكمال الأسمى»(1). فهل سيكون وضع الفيلسوف في جمهورية النساء أشبه بوضع ابن باجة في مدينة فاس الوسطوية؟، أم أنه سيطالب بالمساواة كتلك الأرانب، بعدما كانت المرأة هي التي تطالب بالمساواة والحق في العدالة الاجتماعية؟. فثمة إذن لعبة سياسية تتيح لنا إمكانية التأمل، وصياغة هذه التأملات في أسئلة تسعى إلى إدراك عصرها من خلال الفكر والثقافة، لأن السياسة هي عبارة عن فن، وبما أن الغاية في كل علم وفن هي خير ما، فالغاية في أسمى العلوم والفنون كلها هي أعظم خير وأقصاه، وأسمى العلوم والفنون هي السياسة، والخير السياسي هو العدل، والعدل هو المنفعة العامة. والعدل يبدو للجميع مساواة ما». ومادام أن خير التدبير هو الذي يستمد ماهيته من الخير السياسي، باعتباره يقوم على العدل كمنفعة عامة. فإن الفلاسفة يشترطون في المدبر أن يكون عادلا وحكيما، وفاضلا، ولم يشترطوا فيه أن يكون ذكرا أو أنثى، ولذلك لا ينبغي تضليل إشكالية التدبير السياسي، بإشكالية الجنس، لأنه إن صح هذا الزعم، وجبت الأسبقية في الحقوق السياسية لكل من تفوق بلون بشرته، أو بقامته أو بمزية ما من المزايا، ومن هذه النتيجة يتضح هذا الضلال: «إلا أن الأفضل أن تجري هذه الأمور كلها طبقا لنص شرعي وليس طبقا لهوى كل إنسان، وإلا فالسياسة لا تحمد عاقبتها». لكن ما علاقة هذه الأمور النظرية بدستور جمهورية النساء التي نريد تشييدها فلسفيا، وبخاصة وأننا سئمنا من جمهورية الرجال في العالم العربي؟، هل ستكون أوضاع الفيلسوف أحسن أم أسوأ؟. فمن لم يكن بالطبع ملك نفسه، ولكن ملك غيره، فذلك بطبعه عبد: «ومن أضحى قنية وإن بشرا فهو رجل غيره، والقنية أداة عمل معينة». والعبد، سواء في جمهورية النساء، أو الرجال، هو بمثابة قنية حية، آلة تنجز عملها، وفي سياق جدلية العبد والسيد يمكن أن نفهم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذه الجمهورية التي لم نتمكن إلى حد الآن من التعرف على عدد سكانها، ومن له الحق في السكن فيها، وما هي الشروط المطلوبة في كل من يرغب في السكن مؤقتا أو بشكل دائم. لأن المسألة لا تتعلق بحكومة لتصريف أعمال، بل بنظام يسيطر على السلطة، ويحتكر الدولة، ولذلك يجب أن نستسلم إليه، لأن الأفضل، بل الواجب يقضي بأن نضحي بعواطفنا الشخصية من أجل سلامة الحقيقة. وبخاصة وأننا لم نجرب بعد الإقامة في هذه الجمهورية، ولذلك يصعب الحكم عليها. أما ما نقوم به، فهو مجرد استعراض لتلك التخوفات الافتراضية، وهذا لا يتماشى مع سلطة الحقيقة، وأملنا أن لا نصاب بخيبة الأمل. والمكافأة التي ننتظرها هي أن يغمرنا الابتهاج، ويتصرف فينا الفرح والسرور ولم لزمن يسير. لأن إقامتنا طالت في دولة الاكتئاب وحرماننا من العشق والسعادة بات انطولوجيا. من المحتمل أن يصبح هذا الإرهاف في الشعور، وهذه الرقة في العواطف ونباهة القلب، واستيقاظ العقل من سباته الدوغمائي، أوراق اعتمادنا في جمهورية النساء. التي تقتضي الإخلاص في الولاء، لأن شعارها الأوامر والطاعة بيد أن سلطة المرأة أقسى من سلطة الرجل، لأنها مبنية على الانتقام. ومع ذلك فإن الاختيار الوحيد الذي ظل في متناولنا هو الرضوخ لسلطة المرأة، واعترافا لها بالجميل. ولقد كان الحكيم رائعا عندما سئل ذات مرة؛ من يشيخ بسرعة؟ فأجاب: عرفان الجميل، وقيل له: ما الرجاء، فقال: هو حلم رجل مستيقظ. وأملنا أن يكون هذا الحلم في اليقظة مصدر ابتهاجنا. وإذا صح ما قلنا، أمن واجب المشرع في هذه الجمهورية أن يمنح مكانة شرفية للفلاسفة، ويعيد إليهم الاعتبار بعد ضلالهم في التهميش، والاحتقار كل هذه القرون؟، وهل ستكون السعادة من نصيبهم؟، وما هو حظهم من العشق؟، ومن أي نساء ستتشكل حكومة هذه الجمهورية؟، وهل للنساء طباع مماثلة لطباع الرجال تمكنهم من الحكم؟. كانت المرأة العربية محتقرة في الكتابات الفقهية والأدبيات الشعبية، لأنها جردت من كل الحقوق، إلا الحق في النسل وتدبير البيت، ولما جاء الفيلسوف ابن رشد منحها الحق في السياسة، والفلسفة، حيث يقول: «ينبغي أن تقوم النساء في المدينة بنفس الأعمال التي يقوم بها الرجال، فيكون من بينهن محاربات وفيلسوفات وحاكمات وغير هذا»(2). لأنه من العدل، الذي هو المنفعة العامة، أن لا يقتصر دور المرأة في المدينة الفاضلة عل الإنجاب وتربية الأطفال والاعتناء بالبيت، ذلك أن الطبع الواحد بالنوع يقصد به في السياسة العمل الواحد، لأن وحدة الماهية تقتضي وحدة القدرة على العمل والإتقان، فما هو مبرر احتقار الرجل للمرأة؟، وكيف استطاعت المرأة أن تهيمن على أخلاق الرجل وتجعله يتحرك بمشيئتها؟، ولماذا أن النساء العربيات يتمتعن بجماليات القهر؟، من يعشقن المحارب أكثر من المبدع؟. لا أحد بإمكانه أن يشك في ذكاء المرأة الخارق للعادة، إذ يفوق ذكاء الشيطان، فهي بحكمتها تستطيع أن تمرر سلطتها عبر الرجل، فالمجتمعات الذكورية، هي في العمق مجتمعات أنثوية، لأن ظاهرها يخفي حقيقتها، ولذلك فإن المجتمعات العربية تسيرها النساء، أما الرجال فيظل دورهم مقتصرا على التنفيذ، هاهنا تنبثق جدلية العبد والسيد. وحتى لا نذهب بعيدا في هذا الانزياح الناعم، ينبغي العودة إلى ما يقوله ابن رشد عن حسن استعداد المرأة لجودة الرئاسة، وجودة التسلط: «ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع أن يكون بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة، ولما ظن أن يكون هذا الصنف نادرا في النساء، منعت بعض الشرائع أن يجعل فيهن الامامة، أعني الامامة الكبرى»(3). هكذا يتبين أنه كلما اقتربت السياسة المدنية من العقيدة يتم حرمان المرأة، ومعنى ذلك أن المرأة في حاجة إلى دولة مدنية أكثر من الرجل، وقد يساعدنا الحظ باختيارنا الإقامة الشاعرية في جمهورية النساء، والتي خرجت من جمهورية أفلاطون. لكن كيف يمكن للفيلسوف أن يشيد جمهورية النساء، ويطلب الإذن من أجل الإقامة فيها؟، وكيف يمكن تفسير اغترابه في هذه الجمهورية؟، ولماذا حكم عليه أن يصبح من النزلاء، وليس من المواطنين الذين يشتركون في السلطة والقضاء؟. إنه لعصر متوحش لا يمكن أن نشعر فيه بالأمان، حتى ولو كان ذلك في الأحلام، ولذلك فإن جمهورية النساء التي أراد ابن رشد تشييدها في المغرب الأندلسي قد فشلت، وانهارت على أوراقه قبل أن تخرج إلى الواقع، لأن العصر الذي كان ينتمي إليه لا يحتمل الأفضل، بل يكتفي بالضروري فقط، هكذا نجده يقول متألما من زمانه: «وإنما زالت كفاية النساء في مدن الأندلس لأنهن اتخذن للنسل دون غيره وللقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلا لأفعالهن الأخرى»(4).ها هنا تتدخل السياسة المقدسة لوضع حد لأحلام النساء، والحكم على المجتمع بالانحطاط، ذلك أن النساء هن أخطر اللعب تهدد الرجل بالتدمير في كل لحظة، وهن أيضا أعمق المربيات؛ تربية الأحداث على الحداثة، أو على التقليد، على الفضيلة، أو على الرداءة، ومن تم يصبح دور المرأة في نهضة المجتمع أساسي، ولكما أبعدت ظل المجتمع منحطا في الانحطاط. وبما أن النهضة الفكرية، والحداثة السياسية تفرض الفكر المشترك، وتعدد الرأي، والاختلاف الإيديولوجي، فإن إقصاء النساء يسقط هذا المشترك والاختلاف في ضيافة العدمية، العالم العربي بكامله في ضيافة العدمية(5)، ومعنى ذلك تعطيل ماهية الإنسان باعتقاد فاسد، ويعبر ابن رشد عن ذلك قائلا: «ولما لم تكن النساء في هذه المدن قد امتلكنا الحق في الوجود والمعرفة، أصبحن يشبهن الأعشاب الضارة في الحق، ولذلك صرنا سببا من أسباب فقر هذه المدن، على الرغم من أنهن فيها ضعف عدد الرجال. ومع ذلك لا يقمن بجلائل الأعمال الضرورية [كالرياسة، والسلطة]»(6). بل أن السياسة الجاهلة تفرض عليهن حياة العبودية: «وينتدبن في الغالب لأقل الأعمال، كما في صناعة الغزل والنسج، من أجل الإنفاق على الأسرة»(7)، فما هي الرسالة التي بعث بها ابن رشد إلى وحداني التسلط الذي يحرم النساء من كمالهن، ويتسلى بهن كجواري في بلاطه؟، وبعبارة أوضح ما الذي يريد قوله ابن رشد في هذا النص الفلسفي الذي يسعى إلى تأسيس الدولة الفاضلة؟، هل ينتقد السياسة المقدسة التي تدبر المجتمع بالأموات؟، أم أنه يسعى إلى إدماج المدن الأندلسية والمغربية في جمهورية أفلاطون ليمتع نساء الأندلس بنفس الحقوق التي تتمتع بها نساء اليونان؟، وما المانع إذا كانت الفلسفة هي الضامن على تحديث البنية الذهنية والسياسة لمجتمعه؟ وهل هناك من يستطيع أن يقول بأن الفكر الفلسفي والسياسي كان وراء ظهور حقوق النساء في هذا المجتمع الوسطوي؟. أسئلة لا يمكن للنص الرشدي أن يجيب عنها، لأنه بمجرد ما شعر باستحالة قيام جمهورية النساء في الأندلس في عهد وحداني التسلط الذي كان يدفن الأحياء ويكلمهم ليشهدوا بإمامة دولة الإمامة والسياسة، فإن فيلسوفنا عاد إلى جمهورية أفلاطون لينعم بمجتمع المعرفة والحريات، ويشارك في بناء جمهورية النساء مع سقراط، مادام أن حرمانهن من أبسط الحقوق في دولته، كالمشاركة في الحرب وحفظ المدن وغيرها حكم عليهن بالعبودية: «فقد ينبغي أن نطلب في اختيارهن الطبع نفسه الذي طلبناه في الرجال، فيربين معهن على الموسيقى والرياضة»(8). فما أحلى هذه التربية التي تمنح الحق في الحق، ولكنها لا تتم في أرض المغرب الأندلسي، بل في أرض الإغريق، ولذلك يضعنا ابن رشد أمام استحالة الأمل، حين أرغمنا على الرحيل من زمانه إلى زمن آخر، وفرض علينا أن نشارك سقراط فرحته وهو بصدد تشييد جمهورية النساء، لكن ما السر في هذا الانتقال المفاجئ؟، هل تدخلت إرادة السياسة بعنفها لتوجه إرادة الفلسفة إلى الإقامة في الهامش، والحكم على الفيلسوف بالمنفى؟، وكيف توقف المشروع الرشدي الرامي إلى إعادة الأمل للنساء الأندلسيات خلسة، وتحول إلى مشروع لتفسير وشرح نجاح الآخر؟. ابن رشد والنساء وجهان لحقيقة واحدة، إنها حقيقة المجتمع العربي، الذي يشترك في ثلاثية: اللغة، والعقيدة، وغياب حقوق النساء. فثمة إرث مشترك، يؤسس لتاريخ منشطر في كينونته، وفكر عاجز عن صياغة أسئلة عصره، يتفرج على مأساة وردة المدن، وزهرة الحياة، والحال أننا نوجد أمام ثقافة منهزمة اختارت الإقامة في حميمية العدمية. تحارب كل اجتهاد باسم المحدثة والبدعة، والضلال، فهل هناك ضلال أكثر من هذا الضلال الذي يحكم على الفكر بالجمود، والسياسة بالموت، على الرغم من أنها حياة الدولة؟، وهل هناك من آفاق لأمة تحتقر نساءها وتحرمهن من الحق في الوجود، والحرية، والكرامة، والمشاركة في السلطة؟. ومن أجل أن لا نتيه في ضباب تلك الدعوات المعوقة لحقوق المرأة لابد من هدم المدينة الجاهلة، التي تدعو إلى حقوق المرأة في غياب حقوق الرجل، ذلك أنها لا تعلم بأن الحقوق مشروع سياسي مكتمل، وليس مشروعا عقائديا مبثورا ومثخنا بالتأويلات التيولوجية، وانطلاقا من تشتتها التدريجي، في عوالم الضلالة والبدعة، تعتبر أن جمهورية النساء بدعة، وأن الدولة المدنية محدثة، لتفتح المجال أمام وحداني التسلط للسيطرة، ولذلك فإن الحماس للنهضة قد أصيب بالإحباط، لأنه تم تحت الطلب من قبل الاستبداد السياسي، لأنه كيف يمكن تأسيس نهضة فكرية في دولة طغيانية؟. وهل بإمكان النهضة أن تنبثق في وجود وسطوي ينعدم فيه المجتمع المدني والمجتمع السياسي؟، وبعبارة ابن رشد هل بإمكان الفيلسوف أن يشيد المدينة الفاضلة على أرض جاهلة؟، وهل تستطيع الفلسفة أن تؤسس جمهورية النساء داخل جمهورية الرجال، ألا يؤدي هذا إلى صراع، وهدم لهما معا؟. ها هنا ينسحب ابن رشد من هذا الحوار الذي فتحناه مع مجتمع مصاب بالصمم، ليتركنا نواجه هذا القدر الحزين الذي يتضامن فيه العبد مع السيد ضد المدافع عن حقوقه، أو المرأة العربية تخضع لمنطق البيع والشراء، الاستغلال والاحتقار، ومع ذلك فإنها تظل مخلصة للمستبد. ومدافعة عن استبداده. ولا نريد أن نسرد الأمثلة، لأن غايتنا في هذا الفصل هي إعادة الأمل لجمهورية النساء، بعدما فشلت جمهورية الرجال منذ عصر القبيلة والعشيرة والعقيدة. هكذا سنعود إلى ابن رشد ونبتهج معه في عزلته، أثناء شرحه لجمهورية أفلاطون، حيث نجده يقول: «قال: وليس عليهن حجاب أن يتروضن مع الرجال تروضا بعد أن صرن خاليات من أي شيء سوى الفضيلة. فتبين له بعد ذلك أن على النساء أن يقمن بالحراسة كما يقوم بها الرجال»(9). لأن الحفاظ على الجمهورية لا ينبغي أن يكون من مهام الرجال فقط، بل يجب أن يكون في النساء حافظات ورئيسات، وزعيمات أحزاب سياسية كما هو عليه في الغرب. ثم ينتقل إلى ترتيب استطيقا هذه الجمهورية بواسطة النساء، من حفظ النسل، واحترام سن الزواج، من أجل التحكم في النمو الديمغرافي: «وهنا نوجز ما يراه أفلاطون في هذه الأمور فتقول: «أما السن التي يتزوج هؤلاء الحفظة. فيرى أن يكون في تقديرها مع ما يقتضيه حفظ النسل، كثرة وقلة. بحسب الحروب الواقعة وغيرها من الأمور الملزمة إلى التكثير من الجماع أو التقليل منه. اما أي من الأفراد يتزوج مع أي نوع في هذه المدينة، فالأفراد الذين يشبه بعضهم البعض، طلبا للحفاظ على أسمى خصالهم في النسل»(10). يجب أن يتزوج الشبيه بالشبيه، حفاظا على المبدأ الفلسفي الذي يقول بأن الشبيه يشتهي الشبيه، لكن ما هي السن المسموح بها في الزواج؟. لا تقطف جناك قبل الأوان، هذه هي الحكمة في الزواج، لأن الثمار كلما نضجت كلما كانت لذيذة الطعم: «وعليه ينبغي أن لا يسمح لمن يريد أن يتزوج طلبا للولد في هذه الجمهورية أن يفعل ذلك في أي سن يريد، بل يكون ذلك في سن النضج وهو عند النساء، كما يقول أفلاطون، من العشرين إلى الثلاثين وعند الرجال من الثلاثين إلى الخامسة والخمسين»(11)، إنها لعبة العقل مع اللاعقل في التدبير الاستطيقي لروح المدينة، وبخاصة وأن اللوغوس يتدخل لكي ينظم ذاته، ويبعدها عن الفوضى، ولذلك فإن الزواج هو الشرط الأساسي في تشييد الدولة المدنية الفاضلة، كما يعتبره أرسطو هو السبب في تأسيس الدولة الاستبدادية الجاهلة، ذلك أن سعادة الدولة عمل للفضيلة، والزواج من الأمور الجميلة المحمودة، ولكن يجب أن يحتفظ بسموه الأخلاقي والمعرفي: «فهم يعدون في الحقيقة مواطنين من أحط الطبقات؛ إذ يجعلونهم صالحين لأمر واحد فقط من أمور الحياة السياسية»(12)، وهو التصويت في الانتخابات لصالح المرتزقة السياسية، والاستغلال الفاحش في الإنتاج. وإذا كان من البديهي أن الكمال لا يلاءم شيئا من الأشياء الناقصة، فإن الزواج الناقص يستحيل أن ينتج عنه الكمال في المجتمع، وينعكس على تربية الأحداث، باعتبارهم عماد الدولة: «لأن ما تجرد عن الضرر من الأمور المستطابة، لا يلاءم الغاية فقط؛ بل يناسب ترويح النفس وشرحها أيضا. ولما اتفق للبشر أن بلغوا الغاية مرات قلائل.. فهم في سعيهم إلى متعة الغاية يستبدلونها بمتعة اللهو.. ولعلنا لا نخطئ الظن باعتقادنا أن هذا هو السبب الذي يلتمسون لأجله تحصيل السعادة»(13) . بواسطة متعة الزواج، فيجب تحصيله لا لأجل لذة اللهو فقط، بل لأن الزواج يشيد الأسر، والأسر هي أساس الجمهورية التي نسعى إلى تدبيرها من قبل النساء، بيد أنه يترتب علينا أن نتساءل؛ هل يحدث ذلك عرضا، لأن الطبيعة تفرض الزواج والولادة؟ أم لابد للمشرع أن يتدخل من أجل تنظيمه؟. وكيف سيكون الزواج في جمهورية النساء؟. لا ينبغي أن تفاجئنا مكانة النساء في جمهورية ابن رشد باعتبارها جمهورية تستمد روحها من كتاب الجمهورية لأفلاطون التي تم تشييدها على آراء الفلسفة اليونانية، وبخاصة فلسفة المثل كما تركها سقراط، ولذلك فإن ابن رشد كان مضطرا لمسايرة سقراط أثناء استعراضه لدستور جمهوريته، بعد أن قام بتأسيسها، انطلاقا من طبقة الحفظة الذين يتحكمون في الطبقات الأخرى، من زراع، وصناع، وباعة، وخدام الدولة. وتكمن روعة هذه الجمهورية في منحها للنساء رئاسة هذه الجمهورية مناصفة مع الرجال، ولذلك فإننا نجد الفيلسوف يخضعهم لنفس التربية ونفس الحياة، هكذا يقول: «أما الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها تزاوج هؤلاء الحفظة وعليها يكون وُلدهم، فهي أن تكون النساء مشاعة بين الرجال.. وإذا ما ارتأى الرؤساء أن الحاجة تدعو إلى الإنجاب أمروا بإقامة الأفراح في المدينة للاحتفال بالعرسان والعرائس.. بعد ذلك يجتمع الرجال والنسوة فيحتال الحاكمون في القرعة، فتكون القرعة للواحد منهم على الواحدة منهن، وكأنها محض صدفة واتفاق، وبهذا يعتقدون أنهن مشاعات بينهم، بينما القصد الحقيقي من القرعة هو الجمع بين الأشباه، أعني أن يكون الجيد من النساء من نصيب الجيد من الرجال، والسيئ للسيء، بدون أن يشعر بذلك أحد من أهل المدينة اللهم إلا الرؤساء»(14). هكذا نكون قد اقتربنا من القلب النابض لهذه الجمهورية، التي تبدع حكامها من خلال مواد أولية جيدة، فاختيار الجيد من النساء، والجيد من الرجال وتزويجهم من أجل تحقيق غاية السياسة المدنية، التي لا تقوم إلا على مواطنين أحرار خضعوا لفضيلة العدل والتهذيب الأخلاقي والثقافي، لأن: «التنافس السياسي يكون موضوعه ضرورة ما به قوام الدولة. ولذا يطمع النبلاء والأحرار والأغنياء بحق إلى شرف السيادة، إذ لا غنى للدولة عن الأحرار وعن الأغنياء الذين يتحملون ضرائب الدخل. لأن الدولة ما كانت لتتألف فقط من أناس اطبق عليهم الفقر، كما لا تتألف من أرقاء فحسب»(15). فأي جمهورية هذه يريد ابن رشد تشيدها على مشاعة النساء؟، ولماذا كل هذا الحرص، والتشدد في قوانين الزواج والولادة؟، ألا تتحول السياسة في هذا الأفق إلى مجرد علم للديموغرافية؟، وأين هي جمهورية النساء في هذا الليل الممتلئ بالأشباح؟. ألا نجعل منها مناسبة للحديث عن جمهورية الرجال ومكانة النساء فيها؟. لم يتركنا الفيلسوف نتمتع بالمراحل الهامة التي يتطلبها بناء جمهورية النساء، لأننا كنا نبحث لها عن مرجعية في أفق الفكر الفلسفي بدلا من الفكر السياسي، مما حكم علينا بالتيه مع سقراط في أزقة أثينا، وتركنا ابن رشد يتنقل بين مراكش وقرطبة يشرح جمهورية أفلاطون على ظهر الدابة باحثا عن مدينة نموذجية من أجل تحقيق مشروعه. ومع ذلك قمنا بتمزيق الحجاب عن حقيقة السياسة التيولوجية السائدة من المحيط إلى الخليج، وكيف أنها تقف كعائق أمام تأسيس جمهورية النساء، ويحذر ابن رشد زعماء هذه السياسة بقول: «إن صاحب الأمر في هذه المدن يلزمه في سياسته أن يتوخى للمدينة من الخير أفضله كما ينبغي عليه أن يدفع عنها أكبر الشرور، ولا شر أعظم من السياسة التي تجعل من المدينة الواحدة مدنا متعددة»(16)، متنافرة، ومتصارعة، تضع الإنسان في قلب الشقاء. ولذلك يجب إسناد تدبير جمهوريتنا إلى نخبة من النساء يتم تنشئتها على الحكمة، والأدب، والسياسة وحب الفضيلة، فكيف يتم الوصول إلى ذلك؟، ومن هن اللواتي يتم اختيارهن للحكم؟، وبعبارة أخرى ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في رئيسة جمهورية النساء؟. من المحتمل أن لا نتيه طويلا إذا قمنا بقياس الشاهد على الشاهد، وابتعدنا بذلك عن قياس الشاهد على الغائب كما هو سائد في السياسات السلطانية، هكذا سيتم اختيار رئيسة هذه الجمهورية من نخبة الفلاسفة، لأن الحق في الفلسفة للجميع، لعل هذه المساواة في التربية والتكوين ينبغي أن تواكبها مساواة سياسية، فرئيس المدينة ليس من الضروري أن يكون رجلا، ولكن من الضروري أن يكون فيلسوفا فاضلا، ولذلك يقول ابن رشد: «لما كانت هذه السياسة إنما توجد إذا عرض ان كان الملك فيلسوفا»(17). والمقصود بالسياسة هاهنا هي السياسة المدنية، التي تمنح للنساء الحق في رئاسة الجمهورية، بيد انه من الواجب النمو التدريجي في مملكة الحقيقة، وعدم حرمان الروح من التفلسف، لأنه يشكل طبيعة من طبائعها. هكذا يشترط في رئيسة جمهورية النساء أن تكون فيلسوفة، تمكنت من العلم النظري والعلم العملي: «وبالفضيلة الخلقية الرفيعة التي بها يعرف الفضل في سياسة المدن والعدل»(18)، ذلك أن من يتشوق إلى بلوغ الكمال يصل إليه ويقوم بتعميمه على سكان جمهوريته. لكن من هو الفيلسوف، أو الفيلسوفة؟، ولماذا أنه وحده يصلح لرئاسة الجمهورية؟، لا نريد أن نضع هذه الجمهورية الناعمة، بالقرب من الخطر، لأنه كلما تم إخضاعها لسلطة الرجال فسدت، ذلك أن الفاسد لا يمكن أن يبدع غير الفساد، ومن المستحيل لغير الكامل أن ينتج الكمال، ولذلك فإن قيام هذه الجمهورية يتوقف على إرادة النساء، إذ ليس هناك في العالم أو حتى خارج العالم شيء أفضل من الإرادة الطيبة، فإرادة المرأة حين تمتزج بمحبة الحكمة تبدع الكمال، وأسمى مراتب الكمال هي جعل السعادة في متناول الناس، ولن يكون هذا إلا في جمهورية الحرية والعدالة والمساواة، أي جمهورية النساء الديمقراطيات، لأن عاشق الشيء، يتوق إلى جميع أنواعه. والجميل لا يمكن ان يحب غير الجمال فبإمكان السياسة أن تتألق في جمهورية النساء بعدما تم اعتقالها من قبل ذوي الرداءة؛ والقحة والخبث، إذ حولوها إلى مقاولة لجلب المنفعة فأصبحت ميكيافيلية تبارك خطوات الطاغية. ولذلك فإن مدننا لم تأتمر بحكمة الفلاسفة الذين هم حقا فلاسفة وأنها لم تتخذهم لها قدوة، فهل ستسمح للنساء الفاضلات بتشييد أحلام الرجال؟، وهل سنبتعد بالفعل عن سياسة الأعيان والعوام بفضل سياسات النساء؟. هكذا سيكون وضع الفلاسفة في جمهورية النساء أحسن من وضعهم في جمهورية الطغاة، ذلك أن الكمال يشتاق إلى الكمال، تطبيقا للمبدأ المنطقي القائل بان الشبيه يشتهي الشبيه، ولا يمكن لمن منح الجمال والذكاء، والحكمة، إلا أن يعمم خيراتها على من يحكمهم، وأن لا طريق تؤدي إلى نجاة هذه المدن إلا أن يرأسها من توفرت فيه هذه الصفات، لأن من لا يعرف الغاية التي ينشدها فهو بالضرورة لا يستطيع أن يعرف ما سينتهي إليه، ونحن كانت غايتنا هي تشييد جمهورية النساء ووضعها مكان جمهورية الرجال ، لننعم فيها بالحرية، ومتعة الحياة، فمن منكم لا يتشوق إلى هذه الجمهورية؟ وهل يسمح للفلاسفة بإقامة أبدية فيها؟، أم بإقامة عابرة مثل النزلاء؟ وكيف هو مقام الحرية فيها؟. وما علاقة المرأة بالحرية؟.
1 - ابن رشدن الضروري في السياسة، نشرة الجابري، ص 141 2 - ابن رشد، الضروري في السياسة، نشرة الجابري، ص 124 3 - ابن رشد، الضروري في السياسة، ص 125 4 - ابن رشد، الضروري في السياسة. 5 - انظر كتابنا، العالم العربي في ضيافة العدمية، التنوير 6 - ابن رشد، م م ، ص 125 7 - الضروري، م م 8 - ابن رشد، م م ، ص 126 9 - ابن رشد، م م ، ص 126 10 - ابن رشد، م م ، ص 126 11 - ابن رشد، م م ، ص 127 12 - أرسطو، السياسات، م م ، ص 128 13 - أرسطو، السياسات، م م ، ص 28 14 - ابن رشد، م م ، ص 127-128 15 - أرسطو، م م ، ص 151 16 - ابن رشد، م م ، ص 130 17 - ابن رشد، م م ، ص 135 18 - ابن رشد، م م ، ص 136