رغم المحاولات التي بذلها ابن رشد للتوفيق بين الدين والفلسفة، أي بين الحكمة والشريعة، إلا أنّ أفكاره كانت ولا تزال موضع رفض من التيارات التقليدية. فابن رشد متّهم بأنّ دعوته لتحكيم العقل أوصلت عمليا إلى دعوة لفصل الشريعة عن الحكمة، وهو أمر يعني بالمفهوم السياسيّ الحديث فصلا للدين عن السياسة وبالتالي دعوة لإحلال "العلمانية" القائمة على هذا الفصل والمستندة إلى العقلانية في قراءة وتحكيم النظر إلى مختلف الأمور، مما يعني انقلابا في مفاهيم السياسة القائمة منذ العصور الإسلاميّة الأولى. وإذا أردنا الذهاب ابعد في دلالة مقولات ابن رشد في التأويل المستند إلى العقل، فإنها توصل إلى أن هذه الدعوة هي بحث عن الحقيقة والاعتراف بمضمونها بوصفها حقيقة مجردة بصرف النظر عن انتسابها إلى الإسلام أو إلى أيّ ديانة أخرى، أو كونها تعود إلى العرق العربيّ أو اليوناني أو الفارسي.. وهو أمر يلغي "النرجسية" الإسلاميّة التي اعتمدت على اصطفائية يحمل بموجبها الإسلام والنص القرآنيّ الحقائق المطلقة في كلّ زمان ومكان، "لأنّ الدين عند الله الإسلام"، ولأنّه الدّين الحقّ والصحيح، فيما تقيم سائر الأديان والمذاهب والفرق في الضلال المقاربة الأخلاقية عند ابن رشد لم يترك ابن رشد نظرية قائمة بذاتها في شأن رؤيته الأخلاقية، كما لم يترك مصنّفا خاصّا في هذا المجال، لكنّ السجالات التي دخل بها مع خصومه وبلورته لشؤون الدين والشريعة والفلسفة دفعته لإعطاء آراء تتصل بالأخلاق وكيفية النظر اليها. خلافا للذين رموا ابن رشد بالخروج عن الدين ووصلوا حدّ تكفيره، كانت نقطة انطلاق أبي الوليد من الإصرار بل والتسليم بضرورة وجود الأديان للبشر طالما يتواجدون على سطح الأرض. فالدين يشكل وازعا اجتماعيّا وأخلاقيا يردع الشرّ ويدعو إلى المحبّة والخير وإصلاح المجتمع. ويذهب ابن رشد إلى اعتبار أنّ الأديان تظلّ من أفضل السبل لإصلاح المجتمع وعاملا أساسيّا في إنهاض الأمم وتطويرها، وفي الوقت نفسه يمكن للدين أن يساعد الدولة في ايجاد الانسجام والاستقرار عن طريق غرس "فضائل عملية" في نفوس المواطنين. يشير في هذا الصدد إلى ان الحقائق الدينيّة والأحكام الإلهية ضرورية وأساسية "لتدبير الناس، الذي به وجود انسان بما هو انسان وبلوغه سعادته الخاصة به. ذلك أنّها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للانسان والفضائل النظرية والصنائع العملية". وفي السياق نفسه يرى ابن رشد أنّ التاريخ شهد ظهور الانبياء الذين كانوا حاجة ماسّة لهداية البشر لما هو في صالح الخير والفضيلة عند الإنسان، وبالنظر أيضا إلى انه من الصعوبة ان نتصور سير البشر جميعا في طريق الفضيلة والابتعاد عن الشر، لذا كان وجود الانبياء ومنهم الرسول العربيّ ضرورة اجتماعيّة في زمانه ومكانه مع تسليمه بهذا الدور للأديان، كان على ابن رشد ان يشدد على التوفيق بين الدين والفلسفة عبر استخدام العقل في تشذيب ما يتصل بالأديان كلها من تفسيرات بعيدة عن المنطق ومتسمة بالاوهام والاساطير التي قد تكون احيانا ضرورية من وجهة نظر الأديان ليتمكن الجمهور العادي من الاعتقاد والايمان. في هذه المسألة، لم يقدم ابن رشد تنازلا لصالح المنطوق الدينيّ، بل ظل امينا لأفكاره في دور الفلسفة والفلاسفة القائلين بان الشرائع الدينيّة أو الأحكام الإلهية جزء من "الصنائع الضرورية المدنية التي تؤخذ مبادؤها من العقل والشرع ولا سيما ما كان منها عاما لجميع الشرائع" توافقا مع عقلانيته وتحكيمها في قراءة الأمور، يعطي ابن رشد بعدا عمليا للدين ويبتعد به عن الماورائيات نسبيا، فيصرّ على أنّ الهدف الأوّل للدين هو العمل وخدمة الإنسان وتصويب سلوكه انطلاقا من المبدأ الشائع "بأنّ الدين في الأصل هو كيفية التعامل بين البشر". الجديد الذي يضيفه ابن رشد هنا ربط الدين بالعلم وربط العلم بالعمل، وهي معادلة أساسية في تقدّم المجتمع سواء انتسب إلى الماضي أم الحاضر. يذهب ابن رشد إلى إعطاء الأولوية للعلم على الدين، لإدراكه أنّ العلم المتقدّم ينير العمل ويصوّب مقاصد الإنسان، والاهم من ذلك ان العلم يرتبط اصلا بالعقل الذي كلما ارتفع به الإنسان كلما اشتد ايمانه القائم على هذا العقل والبعيد عن الخرافات والغيبيات، وهو ما يعطي لهذا الايمان وثوقا وقوة. بل إنّ العلم والتعليم العام للبشر يشكلان عنصرا في تحقيق سعادة الإنسان بما يساعده على إدراك الحق وتمييز الخير من الشر. وفي سياق الاشارة إلى آرائه الأخلاقية، يتحدث ابن رشد عن الكمالات الإنسانية فيعددها بأربع، الأولى تتصل بالفضائل النظرية ويعني بها العقل الفلسفيّ، والثانية تتناول الفضائل العلمية بما يعني العلم وتطبيقاته في العمل، والثالثة تتعلق بالفضائل العملية وهي المرتبطة بالأخلاق والسياسة عامة، وأخيرا الفضائل الخلقية المخصوصة تحديدا بالسلوك الأخلاقي وما يترتب عليه في الممارسة العملية احتلت المرأة موقعا في كتابات ابن رشد غير المعروفة، بل هي كتابات لا تتوافق مع السائد في عصره حول النظرة الدونية للمرأة، بل لا تتوافق أيضا مع نظرات حديثة تحملها تيارات فكرية وأصوليّة لا تزال تصرّ على نزع حقوق المرأة من كونها توازي الرجل في جميع الشؤون ولا ترى مكانا لها سوى البيت. يشير إلى "أنّ النساء من جهة أنّهن والرجال نوع واحد في الغاية الإنسانية، فإنّهن بالضرورة يشتركن وإيّاهم في الأفعال الإنسانية، وان اختلفن عنهم في بعض الاختلاف". اما من الناحية العملية، فاننا "نرى نساء يشاركن الرجال في الصنائع، الا انهن في هذا اقل منهم قوة، وان كان معظم النساءاشد حذقا من الرجال في بعض الصنائع". ينتقد ابن رشد التقاليد السائدة التي يكرسها الفقه الإسلاميّ لجهة منع النساء من تولي الامامة، ويكمل انتقاداته لوضعية المرأة في المجتمع العربيّ وخصوصا في مجتمع الأندلس الذي عاش فيه فيقول:"انما زالت كفاية النساء في هذه المدن لأنهن اتّخذن للنسل دون غيره وللقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلا لأفعالهن الأخرى". وهو كلام قديم حديث يجعل من ابن رشد عصريا بدرجات متقدّمة على فقهاء عصرنا الحالي ابن رشد السياسيّ : آراء في السياسة وممارسة السلطة لم يول دارسو ابن رشد أهمّية كبيرة لآرائه في السياسة والسلطة، باعتبار أهميته تكمن في ما قدّمه على صعيد العلاقة بين الدين والفلسفة. كما أتى عدم الاهتمام من كون ابن رشد لم يكتب مباشرة في هذا الميدان بمقدار ما اتت آراؤه متناثرة ومن خلال تعليقه على كتاب "الجمهورية" لافلاطون، وهي المعنونة في كتاب "الضروري في السياسة". لكن القراءة المعاصرة لابن رشد في جانبها السياسيّ تكتسب أهمّية من زاوية كونها تضيء على محنته وعلى الاضطهاد الذي طاله من جانب الخليفة المنصور. تسود نظرات متفاوتة إلى أسباب محنة ابن رشد حيث يشير بعض الدارسين ومنهم محمد عابد الجابري إلى أن الآراء السياسيّة لابن رشد كانت العامل الرئيسيّ لانقلاب الخليفة عليه ونفيه، فيما يشير الكاتب المصريّ عاطف العراقي إلى استبعاد الآراء السياسيّة عن اضطهاده ويعيده إلى الفقهاء المسيطرين آنذاك على الساحة الدينيّة والفقهية وعنصر الحسد من علوم ابن رشد وموقعه المتميز في البلاد على جميع الصعد في التدقيق بما تركه ابن رشد من آراء في السياسة سواء ما كتب بشكل مباشر او ما تركه كإشارات دالة على بعض المواضيع، وبإدراك طبيعة السلطة القائمة آنذاك، لا يمكن سوى ترجيح مسؤولية الآراء السياسيّة لابن رشد في النكبة التي أصابته، من دون إغفال أو إهمال أهمّية دور الفقهاء الذين أوغروا صدر الخليفة على ابن رشد حسدا منه وسعيا إلى إلغاء دوره بما يسمح لهم الاستيلاء على موقعه في القضاء، بعد ان أوغلوا في التهويلات من ان كتابات ابن رشد تظهر الدين بمظهر الشيء الذي يتنافى والفلسفة على غرار افلاطون والفارابي، احتلت "المدينة الفاضلة " موقعا في معالجات ابن رشد، فاعتبر انّ الهدف منها هو تمكين أهلها من تحقيق الكمالات الإنسانية التي شدّد عليها. كما اعتبر السياسة في مفهومها الحقيقي تقوم على تدبير نفوس الجماعة وتحسين سلوكهم، مما يعني ان السياسة يجب ان تتركز على خدمة الشعب. وأعطى آراء في طبيعة الحاكم الظالم فرأى فيه الشخص الذي يحكم الشعب من أجل نفسه وليس من أجل الشعب ذاته، وشدد في المقابل على أنّ أشدّ أنواع الظلم هو الظلم الآتي من رجال الدين أنفسهم، وهي أحكام ستزيد من الأحقاد عليه من قبل الفقهاء ظل ابن رشد في آرائه السياسيّة متوافقا مع رؤيته لدور الفلسفة التي يجب أن تعطى الأولوية في حال مخالفتها للشريعة، فاعتبر انّ الرؤساء يجب أن يكونوا من الحكماء اي من الفلاسفة، وهو بذلك يتطابق مع ما قال به سابقا كل من افلاطون والفارابي، "فالملك يجب ان يكون عارفا بالشرائع التي سنّها المشرع الأوّل (النبي)، ويكون له قدرة على استنباط ما لم يصرح به المشرّع، فتوى فتوى وحكما حكما، وهو ما يسمّى بضاعة الفقه" على ما يقول الجابري. الا أنّ ذروة آراء ابن رشد السياسيّة كانت في حديثه عن "مدينة الغلبة" التي رأى فيها نموذجا للدولة الاستبدادية ولطغيان الحاكم فيها واضطهاده الشعب، وهي النقيض للمدينة الفاضلة التي تسود فيها العدالة ويمتنع الظلم عن ابنائها. قد تكون آراؤه هذه في نقد الحاكم الظالم والدولة المستبدة السبب المباشر لنكبته ونفيه خارج البلاد وإحراق كتبه الفكر الرشدي بين احتضان الغرب ونبذه في موطنه : من المفارقات في تاريخ الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ والعربيّ الموقف الذي ساد تجاه ابن رشد في إهمال كتاباته بل نبذه والتعمّد في إخفاء ما قدمه إلى الفلسفة والحضارة العربيّة الإسلاميّة. يرتبط هذا الموقف بطبيعة المرحلة التاريخية التي كان دخلها العالم العربيّ والإسلاميّ سياسيّا واقتصاديا وعلميا وفقهيا يومذاك، وهي مرحلة اقل ما يقال فيها أنها كانت تؤشر لمسار انحداري جرى التعبير عنه لاحقا بدخول العالمين العربيّ والإسلاميّ في عصر الانحطاط على جميع مستوياته من دون استثناء. لذا لم يكن غريبا أن يظل ابن رشد، الذي كان مغردا خارج السرب السائد في عصره، مجهولا، وهو جهل به لم ينقطع حتى اليوم رغم بعض الدراسات الجادة حوله والمؤتمرات التي عقدت تكريما لفكره وفلسفته خلافا لموطن ابن رشد، احتضن العالم الغربيّ وخصوصا الأوروبي منه هذا الفيلسوف ووضعه في المرتبة التي يستحق، واعتمد الاوروبيون على نتاجه في معركة النهضة المتفتحة آنذاك، واستخدموا مقولاته الفلسفيّة المتصلة بالعلاقة بين الفلسفة والدين والمتعلقة أيضا في السياسة، في معركة الإصلاح الدينيّ ومحاربة سلطة الكنيسة والتأسيس لمسألة فصل الدين عن الدولة لاحقا. لذا لم يكن غريبا أن يتلاقى الفقهاء المسلمون مع أرباب الكنيسة في محاربة فكر ابن رشد واعتباره خطرا على اللاهوت السائد. تشير الوقائع التاريخية إلى أنّ البابا أصدر تحريما منع بموجبه دراسة ابن رشد وصنفه في خانة المهرطقين والملاحدة لأنّ فلسفته " تجعل للعالم نواميس طبيعية، وان عقائدها تقول بكون العالم قديم ازليّ غير مخلوق" اعتمدت أفكار النهضة الأوروبية ما قاله ابن رشد في إعطاء الأولوية للعقل، وهو أمر شكّل أكبر التحديات للكنيسة. كما كان عصر النهضة بحاجة إلى ابن رشد مدخلا للتعرف إلى أرسطو وإلى الفلسفة اليونانية، فنجم عن ذلك ازدهار الترجمات إلى اللاتينية لكل ما ألّفه ابن رشد عن فلاسفة اليونان، وهو من الأمور التي ساهمت في تطور الفكر الأوروبي الفلسفيّ. يورد ماجد فخري في دراسة عن ابن رشد قولا "لاتيان جيلسون"، وهو احد الدارسين للحضارة الأوروبية، حيث يورد في كتابه "العقل والوحي في العصور الوسطى"، هذا المقطع المعبر عن موقع ابن رشد:"العقلانية الأوروبية ولدت في اسبانيا في ذهن فيلسوف عربي، كردّ فعل واع، على النزعة الكلامية(او اللاهوتية)لعلماء الكلام العرب (ويعني الأشاعرة)...وهكذا خلّف للجيل اللاحق نموذجا من الفلسفة العقلية الصرفة، وهو نموذج كان له أثر باق في تطوّر الفكر المسيحيّ ذاته" لا يزال مطروحا راهنا وبقوة السؤال عن السبب الذي جعل ابن رشد عقيما في وطنه وخصبا عند الآخرين من غير العرب والمسلمين، وهو سؤال يجرّ إلى آخر عن فعالية العقل في الفلسفات الاوروبية فيما يبقى منفعلا في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة ومصدر تشكيك في الآن نفسه؟.يتّصل الجواب بمستوى التطوّر الحضاريّ للمجتمع وموقع العلم والمعرفة فيه وحجم الحرية المعطاة في التعبير والاختلاف والحق في التأويل، وهي من الأمور التي تحتاجها اليوم المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة، فيما قطعت المجتمعات الغربية أشواطا بعيدة في هذا المجال. كما يحتاج الأمر إلى توفر القوى الحاملة لمشروع نهضوي يبدأ من التصدي للفكر السائد وبناء منظومة فكرية اساسها العقلانية في قراءة كل ما يتصل بحياة الإنسان والكون، ويصل إلى تحقيق الحرية متعددة الأوجه سبيلا للتفتح الفكريّ والعلمي. لا تنفصل هذه التطلعات عن معركة ضد انظمة الاستبداد السائدة التي تشكل الحارس الاكبر للتخلف العربيّ الإسلاميّ. بذلك يعاد الاعتبار إلى ابن رشد ويوضع في المكان الذي يستحقه في تاريخ الحضارة العربيّة والإسلاميّة. في عصر الانحطاط السائد اليوم في مجتمعاتنا، وفي زمن زحف الأصوليّات على بنى المجتمع واحتلالها عقول اجيال واسعة، وتسييد موروثات الفكر البائد والخرافي والخارج عن العصر والزمان، يشكل استحضار ابن رشد عنصرا فاعلا في المعركة هذه. من هنا يجب فهم المعركة التي تخوضها المؤسسة الدينيّة والفقهاء ضد ابن رشد وما يمثله، بما فيها حذف اسمه من برامج التعليم في اكثر من مكان خوفا من ان "يلوث" عقول الشباب بنزعة عقلانية يصعب لاحقا السيطرة على مفاعيلها المراجع: ابن رشد: فصل المقال ما بين الشريعة والحكمة والاتصال. مركز دراسات الوحدة العربيّة- بيروت 1997 ابن رشد: الضروري في السياسة (مختصر كتاب السياسة لافلاطون). مركز دراسات الوحدة العربيّة- بيروت-1998 محمد عابد الجابري: ابن رشد، سيرة وفكر. مركز دراسات الوحدة العربيّة-بيروت-1998 فرح انطون: ابن رشد. دار الفارابي-1998 ماجد فخري: دراسات جديدة في الفكر العربيّ. دار النهار-بيروت-2008