لم يكن يتوقع أن يوما مشؤوما ينتظره، وأن زواجه سيتم ليس بمحض الصدفة، وإنما بأمر من السلطة .كان عبد السلام شابا وسيما ،هادئ الطباع،نبيل الخلق، ينحدر من عائلة تطوانية ميسورة،عائلة محافظة،تستحضر عند تربية أبنائها نسبها الشريف، وانتماءها لجذور أصيلة تشكل إحدى اللبنات الأساس لأهل تطوان. لم يكتب للشاب عبد السلام أن ينخرط في التعليم الطويل كباقي إخوته وأخواته ،واكتفى بشهادة الباكلوريا،معتبرا إياها مفتاحا لولوج الوظيفة العمومية،فوقع الاختيار على الترشح لولوج مركز تكوين المعلمين،ولم يكن يدري أنه أخطأ الاختيار أم أصابه،فقط فضل الانخراط في سلك التعليم كمهنة لم يسبق له أن حلم بها،ولعل المقربين منه من الأصدقاء والصديقات فوجئوا بتحول اختياراته بمقدار مائة وثمانين درجة،وقد خاطبته صديقة الدرب والدراسة معاتبة إياه بلهجة أقرب إلى اللوم منها إلى النصيحة (( لماذا وضعت نهاية لبداية الدراسة الجامعية،وفضلت أن تصبح موظفا بسيطا،وأنت الذي عشت مدللا وسط أسرة ميسورة توفر كل الظروف لأبنائها كي يعانقوا المناصب العليا ؟)). كان عبد السلام آخر عنقود شجرة أسرته الصغيرة ، وكان يتردد على زيارة اسبانيا خلال العطلة الصيفية ، وهناك في فالنسيا نسج خيوط علاقة غرامية مع فيكتوريا ذات الأصول الأندلسية ، والتي تنتظر بلهفة وشوق كبيرين حلول عطلة الصيف لمقابلة عبد السلام ، لكنها كانت تعتبر الوعاء الزمني الذي يقضيه عشيقها عبد السلام بالقرب منها ضيق جدا ، وغالبا ما اقترحت عليه متابعة دراسته الى جانبها باسبانيا ، بل عرضت عليه كل أشكال التحفيز هامسة في أذنيه خلال احدى لحظات العناق الحميمي (( سأكون سعيدة إذا هاجرت الى فالنسيا لمتابعة دراستك العليا ، وأعدك أني سأخلق لك كل الأجواء المساعدة على تعبيد طريق دراستك بما يضمن نجاحك )) . عنفوان الشباب الذي كان يعيشه عبد السلام ، ووسامة خلقته ، وطريقة تصفيف شعره ، وأناقة لباسه ،وعشقه للموسيقى الغربية ....كل هذه العناصر ساهمت في تقوية أنانيته خصوصا عند تعامله مع الفتيات اللائي غالبا ما بادرن الى طلب وده ، وكانت هذه الطلبات نادرا ما يستجيب إليها بدافع نزوة جنسية مساحتها الزمنية ضيقة جدا . سنتان من التدريب البيداغوجي قضاها الشاب عبد السلام بمركز تكوين المعلمين بطنجة ، ومرت السنتان بسرعة البرق ، اعتبارا للحظات الجميلة التي قضاها الطلبة المعلمون بالقسم الداخلي ، وما زال عبد السلام يحتفظ بذكريات رائعة عندما كان يعتبر نفسه مشروع معلم داخل مركز التكوين ، لكنه فوجئ بعد اجتيازه امتحانات التخرج بنجاح بتعيينه بتخوم الجنوب بنيابة تارودانت ، وتحديدا بإحدى الوحدات المدرسية القريبة من جبل توبقال ، لقد بكى في قرارة نفسه عندما تسلم رسالة تعيينه لمباشرة مهام التدريس بمنطقة لم يسبق أن سمع بها ، ولا يستطيع تحديد موقعها على الخريطة . استجاب عبد السلام لقدره المحتوم بعدما أصبح رقما داخل هيأة التدريس ، وسافر في رحلة قادته من الشمال إلى الجنوب عبر حافلة تقطع المسافات بسرعة عادية كما لو أنها سلحفاة تطوي الكيلومترات حسب الأستاذ عبد السلام الذي فضل الخلود إلى النوم كسلاح للانتصار بواسطته على الوقت والمسافة ،وأحيانا أخرى كان ينتصر على عساكر الليل الطويل وهو على متن الحافلة بالضغط على أزرار هاتفه المحمول وهو يمارس ألعابا طفولية . في الصباح الموالي، وصل إلى مدينة تارودانت ، وصار يتسكع بين دروبها لايلوي على شيء ، يفكر في مصيره كمعلم مبتدئ ، ويبحث عن وسيلة نقل توصله إلى مركزية مجموعة مدارس آسراك ، وعندما علم أن الوصول إلى المؤسسة التي عين بها يتطلب قطع مسافة أربعين كيلومترا على متن سيارة أجرة ، والركوب في سيارة أجرة ثانية لقطع نفس المسافة ، وبعدها اختيار حافلة صغيرة للنقل السري لصعود الجبل عبرطريق غير معبدة ، نذب عبد السلام حظه ، وقال في قرارة نفسه متسائلا ( ماذا عساني أفعل الآن ؟ هل أعود إلى تطوان متخليا عن الوظيفة الجديدة ، أم أواصل المغامرة ، وأنخرط في ممارسة عملية التعليم والتعلم؟ ؟ ) ومن سوء حظه عينه مدير المؤسسة بأبعد فرعية تابعة للمجموعة المدرسية ، وكانت هذه الفرعية تتواجد بمنطقة نائية ، ويتطلب الوصول إليها ما يزيد عن ساعة من الزمن مشيا على الأقدام ، وهذه الفرعية عبارة عن قاعة من البناء المفكك ، بجوارها مسكن للأستاذ ، جاءت معزولة عن التجمع السكني لأهل الدوار الذين لا يتكلمون غير اللغة الأمازيغية . حاول عبد السلام أن يتكيف مع هذا الواقع ، وأن يكون في مستوى الرسالة البيداغوجية التي تحملها ، كما حاول أن ينتصر على هواجس الرتابة والملل بالموسيقى ، حيث كان يجيد العزف على فيتارة أهدتها له عشيقته فيكتوريا خلال إحدى زياراته لإسبانيا . ومرت الشهور بطيئة كسير السلحفاة ، وأخذ يتأقلم مع الواقع المعيش مكرها ، وفي قرارة نفسه يقول ( كيف اخترت مهنة التدريس ؟ وهل أصبت حقا الاختيار ؟ وكم يلزمني من موسم دراسي لأنتقل إلى تطوان ؟ ) هي أسئلة كانت تتختر في صدره كل ليلة ،ويلوكها في فمه صباح مساء . وذلت صباح ، وبينما عبد السلام منهمك في مناقشة ظاهرة لغوية صحبة متعلمي القسمين المشتركين ثالث رابع وخامس سادس ، وقفت أمامه فتاة طويلة القامة، مكتنزة الهيئة ، وقدمت له فطورا عبارة عن إبريق شاي ، وبيض مصلوق ، ورغيف ممزوج بالعسل ، وتسلم منها الإناء دون أن يكترث بها ، لكن تكرار هذا السيناريو أدخل الأستاذ عبد السلام دائرة الشكوك ، وطرح التساؤلات ، ومع ذلك اعتبر الأمر عاديا ، لا يخرج عن نطاق تقديم بعض الوجبات الغذائية للأستاذ ، كما هو الشأن بالنسبة للفقيه الذي عمر طويلا بهذه المنطقة . استأنس الأستاذ عبد السلام بواقع المنطقة رغم وعورة مسالكها ، لدرجة أنه أضحى واحدا من أهلها ، يشاركهم أفراحهم ، ويقتسم معهم أتراحهم ،ويسهر على تربية وتعليم أبنائهم وبناتهم ، لكن ما حدث في أحد أيام نهاية الأسبوع لم يكن يخطر ببال الأستاذ الوافد على المنطقة ، فبينما هو منهمك في إعداد الجذاذات المتعلقة باليوم الموالي ، دخلت عليه الفتاة المنحدرة من نفس الدوار الذي يعمل به وقدمت له فطورا كالعادة ، فسألها عن اسمها بعد أن قدم نفسه إليها ، فأجابته : ( اسمي يامنة ، وعمري لا يصل إلى العشرين سنة ، ومستواي الدراسي لا يتعدى السنة الرابعة ابتدائي ، ومن تلامذتك أخي الأصغر الذي تعلق عليه العائلة آمالا كبيرة في مساره الدراسي ) زيارة يامنة للأستاذ الغريب عن المنطقة لم يرق بعض شبان الدوار ، واعتبروا المشهد إساءة لهم ، فقرروا أن ينصبوا له كمينا ربما باتفاق مع عائلة الفتاة التي تعتبر الزواج من موظف أمنية ينبغي تحقيقها ، وربما أيضا باتفاق مع يامنة التي تعلقت بالأستاذ وأحبته في سرية تامة . وبينما يامنة ولجت مسكن الأستاذ كعادتها لتقدم له وجبة الفطور ، سارع شبان الدوار ، وأقفلوا الباب بالأخشاب والمسامير ليوقعوا بالأستاذ عبد السلام والفتاة يامنة في حالة تلبس ، وقد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها مستنكرين ما وقع بالدوار ، وأصروا على عدم فتح الباب إلا بحضور قائد المنطقة . حضر القائد صحبة بعض أعوان السلطة ، واقتحم مسكن الأستاذ المجاور للفصل الدراسي ، فصرخ في وجه عبد السلام متسائلا بنبرة سلطوية ( هل جئت إلى المنطقة لتدريس أبنائها وبناتها ، أم لممارسة نزواتك ؟ وبماذا تفسر تواجد فتاة قاصر ببيتك ؟ ) حاول عبد السلام أن يرد على تساؤلات القائد ، لكن هذا الأخير قاطعه مؤنبا إياه بصوت مرتفع ( أصمت ، لقد تم ضبطك في حالة تلبس ، وسأكون لك بالمرصاد حتى أرد لسكان الدوار ، ولعائلة الفتاة كل الاعتبار ) . طأطأ عبد السلام رأسه من فرط الخجل ، واكتفى بالصمت بعدما تأكد له أن السكوت أفضل لغة لمواجهة هذا الموقف ، وأنه سيستسلم للعبة القدر ، لكن في ظل هذا الصمت المفروض عليه طرحت أمام عينيه مجموعة من التساؤلات من قبيل ( ماذا عساني أفعل الآن ؟ ومن كان وراء هذا الكمين ؟ ولماذا أوقعوا بي ، وأنا الذي أسست مع أبناء الدوار من التلاميذ علاقة تواصل وجداني ؟ وما الهدف من تلويث سمعة فتاة بريئة ، لا حول لها ولا قوة ؟ ) وبينما عبد السلام يمخر عباب هذه التساؤلات ، استفاق على صفعة على خده الأيمن ، وأخرى على خده الأيسر، وقعهما القائد وهو يصرخ منبها ( سأضعك أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما أن تتزوج الفتاة ، أو أقدمك إلى القضاء ) . لم يمنح القائد فرصة التفكير للأستاذ عبد السلام ، وأجبره على إعلان اختياره في أسرع وقت ممكن ، وأمام الحشد الحاضر من ساكنة الدوار . ولتفادي ما يترتب عن المثول أما القضاء من أحكام ، فضل عبد السلام خيار الزواج ، وأعلن أمام الملإ أنه سيتزوج يامنة ، لكنه فوجئ بعد الاختيار بشرط ألزمه به القائد ، ومفاده أن مقدم الصداق خمسة الآف درهم ، ومؤخر الصداق يتحدد في ثمانين ألف درهم . حاول عبد السلام مناقشة هذا الرقم المبالغ فيه ، لكنه فهم أن رفع مبلغ مؤخر الصداق، الغرض منه تعجيزه عن الطلاق . ( ماذا عساني أفعل ؟ سأتقبل اللعبة ، وسأستسلم لإرادة السلطة ، وسأرضخ للأوامر، وسأكون اليوم عريسا بدون مراسيم العرس ، وفي غياب الأهل ، ودون علم العائلة ) . هكذا تحدث عبد السلام في قرارة نفسه ، والندم يبدو على محياه ، هكذا استسلم لقدره ، وقال للقائد بنبرة ملؤها الأسف : ( سأوافق على الزواج بالشروط التي سطرتها ، وسأحضر غدا إلى القيادة كما طلبت لإتمام الاجراءات القانونية لزواج فرض علي ) . حضر الأستاذ في اليوم الموالي يحمل شيكا بقيمة خمسة الآفدرهم ، وجلس القرفصاء أمام العدول لكتابة عقد الزواج دون أن يرفع رأسه إلى الفتاة يامنة التي كانت تعي جيدا حبكة هذا السيناريو وهي شاردة تتحدث في نفسها قائلة : ( مسكين هذا الأستاذ الغريب عن دوارنا ، جاء فقط لتنوير أبناء وبنات المنطقة ، إلا أن قدرا غير حياته ،ليجد نفسه أمام زواج إجباري في غياب كل الطقوس ، فأنا أيضا لا أقبل الإنخراط في هذه اللعبة ، ولن أرضى بتشخيص دور البطلة لسيناريو محبوك ، لكن ماذا عساني أفعل أمام عائلتي ، وأهل الدوار، وسلطة القائد ؟ ؟ ) كان طبيعيا بعد عودة العريس والعروس من القيادة ، حيث أتما مراسيم زواج إجباري أن يحتضنهما فضاء واحد ، فولجا بيت الزوجية في غياب مراسيم الحناء ، وطقوس الدخلة ، وهو مسكن مجاور للفصل الدراسي ، أثاثه لا يتعدى سريرا مهترئا ، وطاولة وضعت فوقها صورة للفتاة الأندلسية الجنسية فالنسيا وهي تبتسم ، ولسنا ندري ما إذا كانت ابتسامتها تعبير عن ازدراء ، أم عتاب، وبجانب الصورة لوحة مرسومة بالريشة والصباغة للأستاذ عبد السلام يعزف على فيتارته ، وفي الزاوية المقابلة للباب ، قنينة غاز ذات الاستعمال المزدوج ، الطبخ والانارة . قرر عبد السلام أن يقبل هذا الزواج المفروض عليه ، وقال في قرارة نفسه بكل تحد : ( إذا قبلت كتابة العقد مكرها ، فلن أنخرط فعليا في هذا الزواج ، وسأتعامل مع يامنة وكأنها إحدى العينات التي تؤثث فضاء البيت .) عدم اهتمام عبد السلام بزوجته ، ومقاطعته لها على مستوى التواصل الكلامي ، والمعاشرة الجنسية ، جعل يامنة تشعر بأنها عنصر غير مرغوب فيه داخل هذه المعادلة الزوجية ، فاستسلمت لقدرها ، وفضلت عدم الكشف عن أسرار زواجها لعائلتها ، لأنها كانت تعي جيدا أن لعبة هذا الزواج الاجباري ستنتهي لا محالة ، ومهما بلغت مساحتها الزمنية . كان عبد السلام يفرض على زوجته عدم مغادرة بيت الزوجية ، ولسنا ندري ما إذا كان هذا القرار يصب في معاقبته لها ، أم بدافع الضغط عليها للنفور من واقع زواج فرض على الزوجين بأوامر سلطوية أملاها قائد المنطقة . المكوث الاجباري بالبيت الذي لا يستجيب للمواصفات المطلوبة ، وانقطاع التواصل الشفهي بين الزوجين ، وإقصاء الزوجةمن الانخراط في طبخ الوجبات اليومية على بساطتها ، ومقاطعة عبد السلام مضاجعة زوجته ، وهجرته لها على مستوى الفراش .. كل هذه العناصر ، جعلتها ذات صباح ، بعد مرور أزيد من شهرين على زواجها الاجباري تثور بشكل هيستيري في وجه والدها على مرآى ومسمع من الساكنة والعائلة ، مطالبة بوضع حد لتمثيلية كتب سيناريو أحداثها بعض شبان الدوار ، وأخرجها قائد المنطقة ، وقامت يامنة وعبد السلام بتشخيص أدوارها ، ورغم تدخل سكان الدوار من نساء ورجال ، أصرت يامنة على وضع حد لحياة زوجية لا ترغب فيها بعد إجهاض كل خلايا جسدها التي تعلقت بالأستاذ الغريب عبد السلام . عم الصراخ بالدوار ، والشاب عبد السلام يتفرج على مشهد نسي أنه أحد أبطاله، وفي قرارة نفسه يقول : ( أعتقد أن نهاية زواجي بالفتاة يامنة قريبة لا محالة ، وأنا مدين لهاته الفتاة ذات المبادئ النبيلة ، التي رفضت الاستمرار في ممارسة لعبة فرضها القائد ، وتبرأت منها يامنة سرا وعلانية ) . هجرة يامنة لبيت الزوجية لم يتعد سبع ليال ، حيث وجدت صباح اليوم الثامن مشنوقة من عنقها ببيت أهلها ، وتحت قدميها رسالة كتبت بخط رديء ( هذا ما جناه علي طيش شبان الدوار ، وتعنت العائلة ، وسلطة القائد ، مع احترامي للأستاذ المغترب ، سلام عليك ، يا عبد السلام ، وسنجدد اللقاء بالجنة ) . لا شك أن الراحلة يامنة حملت معها في رحلتها إلى العالم الأبدي مجموعة من التساؤلات يمكن اختزالها كالتالي : ( من المسؤول عن انتحاري ؟ وهل الانتحار ضعف كما يقال ؟ وهل كان الانتحار هو الحل الوحيد لفتاة شاء قدرها أن تنشأ في وسط قروي ، وتترعرع داخل أسرة فقيرة ؟ ولماذا اختار القدر أن يحط عبد السلام الرحال بدوارنا كأستاذ ليشكل أحد عناصر معادلة انتحاري ؟ وكيف سيستقبل عبد السلام خبر الانتحار ، وهو الذي كان يرسل لي من حين لآخر نظرات الاشفاق ، وما المصير الذي ينتظره بعد حادث الانتحار ؟ وكيف سينظر إليه أهلي وسكان الدوار ؟ ؟).